أمل الكردفاني - كريشندو.. قصة

هفهفت الريح شعرها، هيكلها المظلم النحيل منتصب فوق صخرة، على جرف البحر.. تبدو كمن تتأمل شبحاً قادماً من لجج الغيب. هذه الروح المتآكلة.. تترامى شظاياها على أطراف المحيطات.. على السواحل التي هجرتها النوارس.. واستوطنتها الريح الشمالية الباردة.. بين أثلام الصخور وبين ألسنتها، وحدودها الحادة، وتعرجات أسطحها اللامعة بزبد البحر... لا تنبت الزهور في قلبها وفيه دماؤها المالحة. لا شيء في المشهد سواها والبحر. الأمواج تندفع تارة بعنف هجوم وحش مفترس، ثم تتحطم فوق الصخور منهزمة، لكنها لا تيأس من محاولة الانتصار على الحصار وكسره. وفي الأعلى ، لا تأبه السماء بتلك المعارك الخاسرة. لأنها تنتصر بتعاليها على الصغائر.. تظل النجوم آلهة تراقب الأرض بأعين لامعة، كقضاة صارمين.. القمر وحده يقود دفة المحاكمة السماوية، فيحرك الجزر والمد. لا أحد يؤمن بالحب في هذا الكون المتخثر في أزليته وأبديته.
"ستهلكين من الإنتظار".. ثم تضيف الأم "لزم العالم الصمت يا بُنية.. وليس علينا أن نلوم البشر.. هكذا خلقنا فرادى.. فالحياة ليست عادلة" غير أتها ترد بصوت متوتر وعصبي "الناس ليسوا عادلين وليست الحياة".. ترغب الأم في أن تقول بأن الحياة هي الناس لكنها تفضل بحكمتها الصمت فيلفهما الظلام.. "ستذهبين للنوم؟".. تجيب بنفس صوتها العصبي "ليس الآن يا أمي..إذهبي أنتِ".. ينهض شبح الأم من مقعده، وتختفي أصوات حذائها شيئاً فشيئاً. فتلمع عين الشابة كعين القط. عينان صارمتان، حانقتان. ويأتي صوت قرقعة من السقف. "إنها تمطر برَداً".. فتغمض عينيها وتنام على الكرسي على صوت هطول البرد.
..
يتحدث الصياد إلى غلامه في الفجر:
-اصطدت ثعبان بحر ضخم عندما كنت أكبر منك قليلاً..
يفغر الغلام فاهه بدهشة وإعجاب أثناء تجديفه بتؤدة، ويستمر الصياد:
- لكن أمه وهي أضخم منه انتقمت بعد ذلك.. لقد هاجمت زورق والدي.. كان قد اشتراه حديثاً، أول وآخر زورق بموتور كهربي، ضربت الرفاس بذيلها ثم اعتصرت الزورق حتى قلبته.. ثم هاجمت والدي وشقيقي الأكبر.. ولم نرهما بعد ذلك..كما لم ترَ هي ابنها بعد ذلك.. استنفر الصيادون أنفسهم ومشطوا البحر حتى واجهوها في معركة حامية استمرت لساعتين كاملتين..قطعوا رأسها وحملوه إلى أمي.. لكن أمي لم تهتم..ما كان راس حيوان ليساوي رأس زوجها وابنها أبداً.. ايقظتني قبل الفجر وأخذتني إلى الزورق القديم، وبه وصلنا لسفينة ضخمة تحمل مئات الأطنان من النفط.. وفجرته فسال النفط... وعدنا.. ماتت ملايين الكائنات البحرية، ضحية انتقام احمق.. وكما ترى، أضحت هذه المنطقة بلا كائنات حية حتى اليوم..ربما بضع سمكات ضلت طريقها تقع في شباكي كل أسبوع.. لكن .. ليس أكثر من ذلك.. ولا أعرف من ألوم.. هل ألوم نفسي لأنني اصطدت ذلك الثعبان...أم ألوم أمي على حماقتها.. لقد هجر الناس جزيرتهم.. بسببي.
- يا لها من قصة غريبة..
- نعم.. يبدو أن الشحنة لم تكن تحمل نفطاً كما كان معلناً...
- ماذا كانت تحمل؟
- لا أحد يعرف.. جاءت مجموعة من الزوارق العسكرية وبعض الطائرات المروحية وضربت حصاراً على البحر استمر لسنتين..
لم يعرف الفتى كيف يصوغ سؤالً عما لو كان قد ألقي القبض على أُم معلمه أم لا فصمت..
- هذه لن تكون حرفتك إلا إن كنت ستهجر الجزيرة..لا زلتَ صغير السن وبإمكانك أن تتعلم ما هو أفضل لك..
قال الصبي:
- تعلُّم الشعر..
هز الصياد رأسه وأرخى ظهره على حافة القارب كما لو كانت توقعاته قد خابت..
- الشعر جيد..الشعر جيد..
....
رويداً رؤيداً توقف القارب، وقال الصياد للفتاة:
- مرحباً السيدة الأولى..
- أشكرك..فبالفعل لم تبق في الجزيرة امرأة سواي بعد أن رحلت أمي قبل أسبوعين..
- فلترقد بسلام..
- نعم سترقد بسلام.. يبدو أن أعصابها ستهدأ الآن..
ربط الغلام المركب بالوتد ثم جرَّ الطرف الآخر من القارب وألصقه بالجرف الصخري..وبنشاط رفع شبكةالصيد وداخلها سرطان يتقلب محاولاً التملص من الشبكة..فقال الصياد:
- خلصه من الشبكة وأعده للبحر..
فعل الفتى ذلك دون تساؤل. ثم جمع الشبكة على بعضها بحذاقة ولف حولها حبلا رفيعاً قبل أن يحشرها داخل تجويف في مقدمة القارب.
- كيف يمكننا مغادرة الجزيرة؟..
هز العجوز رأسه بأسى:
- قالت الحكومة بأننا ممنوعون من مغادرتها لأننا أصبحنا مشبعين بإشعاعات قاتلة..
قالت وعيناها تضيقان:
- ولكنني سأغادرها..
رفع رأسه وحدق في وجهها بصمت ثم قال:
- أنتِ لا زلتِ شابة.. يجب أن تهربي..وأتمنى أن تاخذي الصبي معك..
قالت:
- أحتاج زورقاً..
- الزوارق كثيرة ولكنك لن تعرفي الملاحة بها في هذا البحر الواسع..
- سأموت لو بقيت هنا على كل حال..
وضع الصياد ذراعه حول عنق الصبي وقال وهو يغادرها:
- صحيح.. وستموتين في البحر أيضاً..وإذا نجوتِ فستموتين أيضاً لا مفر من الموت..
همهمت:
- فليكن موتاً ذا معنى إذاً..
...

تتلاطم الأمواج، مشبعة بالحزن، لتعزف مع شفق الغروب الأحمر مقطوعة باكية..كانت ترتجف من شدة التوتر ويدها تقبض على موجِّه حركة الزورق، الذي كان يقطع عرض البحر حيث تنطبق السماء مع البحر، بلا أنيس...أحست بالوحشة، فتذكرت أمها وسالت من عينيها دموع مالحة. غير أن الحياة لا تعني سوى أن المرء يندفع منذ ميلاده لينجو.. وكان عليها أن تنجو...ثم بدأ الغسق يتمدد محيطا بالكون. كانت لا تكاد ترى يدها من شدة الظلمة...لكنها بكت بعواء كالذئب ودفعت بمحرك الزورق لأقصاه...تذكرت كل شيء..طفولتها بكل كثافتها، مراهقتها، شبابها، كل أسرتها التي هلكت واحداً بعد آخر بعد حادثة السفينة، تذكرت ضحكاتهم، فمر سهم ناري في قلبها، حتى أنها لم تشعر بالماء المالح الذي غمر مركبها، وغاصت في عمقه المتحرك...كانت عيناها جاحظتان..كانت تسترجع كل شيء..ورأتهم جميعا هناك...يرفعون أيديهم..يدعونها إليهم مبتسمين..فابتسمت..وعبرت..
..
في الفجر كان الفتى يجلس على صخرة مشرفة على البحر.. كان يكتب قصيدة عن الفتاة الجميلة التي أحبها دون ان يخبرها بحبه والتي فضلت أن تهرب لوحدها..وتتركه حزيناً..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى