خلع معطفه بعد أن أدار المفتاح في ثقب قفل شقته التي هجرها طوال رحلته في متاهات غياهب، عَلِقَ المفتاح بثقبٍ تصلب بأسنان قفل صدأ من جلوس بلا حراك, طفق يحاول معه مرة، اثنتان، ثلاث حتى ضجر, أخرجه نظر إليه وقال له: ما لك يا أنت!؟ هل نكرتني؟؟ نكرت وجودي، هل غيرت السنين معالمي لتغير أنت نواياك معي؟ أم ترى أن ثقبك قد نكرك فلم يتعرف عليك كشأنك معي؟ ثم رفع المفتاح واضعا إياه في فمه بعد غمره بلعاب ثم أخرجه، فهمس له... الآن لابد لك أن تفتح، بعد أن تعرفت على مرارة جوفي وجفاف روحي من بقايا حياة أتنفسها، أدخله في بيته، أداره إلا أن المفتاح قضى قرماً بأسنان رفضت الاستجابة لركوب تروس لإدارتها، إنها تأبى أن تدور مخافة قضمة من كسر ترس, تأفف... أخرجه مرة أخرى تطلع إليه وقال الى نفسه: أنه هو!! نفس المفتاح الذي تعودت أن أحمله ساعة خروجي من شقتي في الزمن الماضي, هل يمكن أن يكون قد أستبدل بمثله حين تسلمت متعلقاتي أثناء خروجي من السجن؟ لا.. لا أظن, دارت عيناه إلى فسحة الطابق، نعم انه هو نفسه ورقم الشقة كذلك!! أفٍ لك من مفتاح أحمق لئيم, لبس معطفه متكئاَ على الحائط، مع أصابع يده تعمل فركا برأس مفتاح، تمنى كسره مع نفس عفت الإلحاح من غضب، وضع المفتاح في جيب معطفه, شعر المفتاح بريبة ورائحة جيب لم يألفها من قبل، ثم همس في نفسه... ما لهذا الرجل!؟ هل هو مجنون؟ مرة يمضغني بأسنانه، مرة يفركني، وأخرى يرميني في جحور ظلام مليئة برائحة الموتى, صرخ المفتاح يا.... هذا .. يا أنت!! لكن لا مجيب لصراخه, أستقر الى ركن قبع فيه دون حراك، حتى أحس بأصابع تنتشله الى الخارج فقال لنفسه: أقسم لو أدخلني في ثقب قفل الباب لأفعلن المستحيل وأفتحه مخافة العودة الى هذا الجيب العتيق، يا الله!! كأن عمره دهرا، إنه حالك الظلام، لا أعلم كيف يرتديه هذا الرجل ورائحة الموت تقطن فيه؟! ...
كان صاحب المعطف في تلك الوهلة قد تنفس سيجارة مضى علي عمرها الوهن، مالت الى الاصفرار من شدة اختناق في جيوب معطف أزلي, ما إن أخرجها حتى قام بقسمها الى نصفين، راميا بالنصف الثاني الى قعر ذلك الجيب صارخا هو الاخر لا... أرجوك ... لكن من يسمع لآهات مبتورة الحياة, أما النصف الآخر فكان نصيبه النار تلحفت برأسه اشتعالا، فأحترق مبتسما كأن روحه قد جرت مسرعة تخرج على شكل أنفاس دخان آسفة حزينة على نصفها الثاني الذي لا يزال تحت حكم صاحب جيب سقيم ....
أما المفتاح فقد أستعد شاحذا أسنانه مُقسِما أن يحرك تروسا صدئة بكل ما أوتي من قوة, وما أن أدخل رأسه في القفل حتى أمسك بتروسه الصدئة بأحد فكوكه، محاولا الدوران مع إدارة يد صاحب المعطف له وصولا الى الترس الثاني، لكن ... الصدأ اللعين قد منعه من ذلك، ومنع أيضا الترس الثاني عن الدوران, شعر بأصابع الرجل تحاول إخراجه، أمسك بفكيه على التروس الصدئة، لم يخرج قائلا: لا .. لا يمكنني العودة الى جيب ذلك المعطف القديم، حاول صاحب المعطف سحبه مرة بلين، مرة بقوة، وثالثة بضربة على الباب، بعدها هدوء في ابتعاد يد وأصابع عن جسده، أرتكز معتدلا ينصت الى خربشات في ثقب الباب، فهمس المفتاح لنفسه .. يا له من رجل مخبول! هاهو يأتي بسلك قاس يحشره معي في نفس الثقب، لكأن المساحة تكفي لذلك فعاد هامسا... أعلم انك ستحاول إخراجي، لكني سأتمسك حتى النهاية في مكاني، أو أموت كسرا في هذا الثقب ليكون قبري على الأقل، حتى اشعر أنني انتمي الى أحد، فالتروس والثقب هما بيتي وسكني، لا ذاك الجيب الذي سأموت بداخله خنقا في ظلام, قاوم المفتاح وخزا من سلك عصي قاس أراد خلعه عن تروس أمسكت به هي أيضا, أحس قساوة السلك كسياط جلاد، سلخت جلده من كثرة حشرجة وخربشات موجعة, تراخى المفتاح قليلا من شدة ألم ووهن فكوك, أراد الخلاص لنفسه فقال لها: الخروج من المكان أفضل من تلك السياط، ثم تذكر المعطف فانبرى يشحذ نفسه عزما وصبرا على ضيم ... وهناك أخرج صاحب المعطف السلك, تنفس المفتاح غبطة بألم, خيم الصمت على المكان, سأل نفسه!؟ أين ذهب هذا الرجل؟ رام يفكر.. لكن فجأة وعلى حين غفلة، وجد نفسه يُسحب بعد ان خارقت قواه, مع شتم لاك الحروف نتوءات برادة حديد، يا لي من ضعيف ... أُدرك مصيري الآن, ولكن ... لا ضير، الكسر ولا العيش في جيب معطفه ذاك, كانت أصابع يد الرجل تدلك وتفرك جسد المفتاح جيئة وذهابا، كأنه يتوعد برميه في قارعة الطريق ليبقيه بلا مأوى.
همس الرجل للمفتاح قائلا: لا أدري يا هذا؟! لقد بقيت نصف نهاري محاولا فتح الباب بك، والان أحس أنك بلا فائدة، كبقية الذين رموا بي الى بطون سجون من أجل فكرة تحرير وتغيير, سأحطم الباب وأدخل، ثم أرميك الى غير رجعة, سوف اشتري قفلا جديدا ومفتاح آخر في الزمن الجديد هذا
قال المفتاح لنفسه: لا يهم سواء رميتني، او جعلتني مشردا في حاوية نفايات على قارعة طريق، إنها أخير من العيش في جيوب معطفك العنكبوتي هذا، الذي توسد أعوامك في قبور مظلمة, تردد الرجل، أحس المفتاح بذلك، سمعه يقول لنفسه: سأحاول ولأخر مرة مع هذا المفتاح وذاك الباب، فما أن رفعه حتى شاهد الاعوجاج في عمود ظهره مع نتوءات برزت على سطحه جراء خدشه بسلك الحديد الذي حشره لإخراجه, عاد فأدخله فمه ثم أطبق أضراس ورحي على عمود ظهر ورأس المفتاح حتى قطع النفس من رائحة أسنان نخرة، عشش السوس فيها بزحام من ساكني أكلة الأضراس مع أنفاس أشبه برائحة جيبه المرطوب, مرت تلك اللحظات تمنى فيها التشرد والضياع, أو العيش في جيب معطف، فهي ارحم من هذا المكان المقزز, أخرجه بعد ان أطاح بالمفتاح بللا ومضغا، عمد الى وضعه في ثقب الباب, قبلها كان قد بصق في داخل الثقب أيضا، فأذاب صدأ تروس ساحت من لعاب, جاهد المفتاح نطحا بتروس شعرت بالنحول والخدر... تحركت عن مكانها، أدارها بصعوبة، حاول أكثر وهو يفكر في بقاء بجيب، أو مضغ في فم، لم يستسيغ الاثنان معا، لذا قرر كسر رأسه بين تروس ليموت بإرادته، بعيدا عن حياة بفم أو جيب, تعذر الأمر على الرجل، بات صعبا أكثر، أخرج المفتاح.. إنه بلا رأس!! كان فيها المفتاح قد قطع رأسه بإرادته على أن يعيش في عالم يكتسي بالعفونة والعنف, في تلكم الاثناء سمع الجلبة حاجب العمارة، جاء مسرعا قائلا للرجل: ما الأمر؟ ماذا تفعل؟؟
التفت إليه صاحب المعطف مجيبا... لقد حاولت كثيرا فتح باب شقتي بالمفتاح بعد غيابي الطويل، لكن يبدو ان الصدأ قد ركب تروس القفل، فحاولت لكن لا جدوى، لقد أنكسر المفتاح ،لابد لك أن تساعدني على فتحه، حتى ولو بكسره....
فقال الحاجب: بالطبع سأساعدك، لكن يا سيدي هذه ليست شقتك، يبدو إن المدة التي قضيتها بعيدا أنستك مكانها وموقعها...
قال الرجل: كيف؟؟ إنها هي... أنا لا أتيه عنها...!!!
رد الحاجب: لا يا سيدي لقد تهت, صحيح أن شقتك في الطابق الرابع وعلى جهة اليسار، لكن العمارة ليست العمارة، كما انه صحيح أيضا أن العمارات متشابه في شكل البناء، لكنك أخطأت، فمالك العمارات قد تغير منذ فترة ووضع شروطا جديدة بعد أن أعاد شبه تأهيل لها، فخَير بعدها المؤجرين للسكن بالأسعار الجديدة، أو ترك المكان، أو الطرد لمن لا يعجبه الأمر, أما بالنسبة لمثل حالتك ومقتنياتك، فهي موجودة في المخزن بسرداب العمارة، فإذا شئت يمكنك استلامها، أما الشقة فلا أظن، لأن الوضع كله قد تغير...
شعر الرجل بخيبة الأمل، فكل ذلك الوقت وكسر المفتاح المسكين لمجرد أنه قد تاه بين هذه وتلك من العمارات، حتى أنه لم يكلف نفسه قراءة الرقم أو السؤال، بل دخل إليها دون ان يتطلع ظنا، لقد ازدوجت الرؤيا عنده، بعد ان عاش في زنازين متشابه الشكل، خرج دون أن ينبس بكلمة، يحدوه شعور بخيبته، متمنيا الموت أو العيش في سراديب مظلمة، على العيش في الواقع الجديد.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي
كان صاحب المعطف في تلك الوهلة قد تنفس سيجارة مضى علي عمرها الوهن، مالت الى الاصفرار من شدة اختناق في جيوب معطف أزلي, ما إن أخرجها حتى قام بقسمها الى نصفين، راميا بالنصف الثاني الى قعر ذلك الجيب صارخا هو الاخر لا... أرجوك ... لكن من يسمع لآهات مبتورة الحياة, أما النصف الآخر فكان نصيبه النار تلحفت برأسه اشتعالا، فأحترق مبتسما كأن روحه قد جرت مسرعة تخرج على شكل أنفاس دخان آسفة حزينة على نصفها الثاني الذي لا يزال تحت حكم صاحب جيب سقيم ....
أما المفتاح فقد أستعد شاحذا أسنانه مُقسِما أن يحرك تروسا صدئة بكل ما أوتي من قوة, وما أن أدخل رأسه في القفل حتى أمسك بتروسه الصدئة بأحد فكوكه، محاولا الدوران مع إدارة يد صاحب المعطف له وصولا الى الترس الثاني، لكن ... الصدأ اللعين قد منعه من ذلك، ومنع أيضا الترس الثاني عن الدوران, شعر بأصابع الرجل تحاول إخراجه، أمسك بفكيه على التروس الصدئة، لم يخرج قائلا: لا .. لا يمكنني العودة الى جيب ذلك المعطف القديم، حاول صاحب المعطف سحبه مرة بلين، مرة بقوة، وثالثة بضربة على الباب، بعدها هدوء في ابتعاد يد وأصابع عن جسده، أرتكز معتدلا ينصت الى خربشات في ثقب الباب، فهمس المفتاح لنفسه .. يا له من رجل مخبول! هاهو يأتي بسلك قاس يحشره معي في نفس الثقب، لكأن المساحة تكفي لذلك فعاد هامسا... أعلم انك ستحاول إخراجي، لكني سأتمسك حتى النهاية في مكاني، أو أموت كسرا في هذا الثقب ليكون قبري على الأقل، حتى اشعر أنني انتمي الى أحد، فالتروس والثقب هما بيتي وسكني، لا ذاك الجيب الذي سأموت بداخله خنقا في ظلام, قاوم المفتاح وخزا من سلك عصي قاس أراد خلعه عن تروس أمسكت به هي أيضا, أحس قساوة السلك كسياط جلاد، سلخت جلده من كثرة حشرجة وخربشات موجعة, تراخى المفتاح قليلا من شدة ألم ووهن فكوك, أراد الخلاص لنفسه فقال لها: الخروج من المكان أفضل من تلك السياط، ثم تذكر المعطف فانبرى يشحذ نفسه عزما وصبرا على ضيم ... وهناك أخرج صاحب المعطف السلك, تنفس المفتاح غبطة بألم, خيم الصمت على المكان, سأل نفسه!؟ أين ذهب هذا الرجل؟ رام يفكر.. لكن فجأة وعلى حين غفلة، وجد نفسه يُسحب بعد ان خارقت قواه, مع شتم لاك الحروف نتوءات برادة حديد، يا لي من ضعيف ... أُدرك مصيري الآن, ولكن ... لا ضير، الكسر ولا العيش في جيب معطفه ذاك, كانت أصابع يد الرجل تدلك وتفرك جسد المفتاح جيئة وذهابا، كأنه يتوعد برميه في قارعة الطريق ليبقيه بلا مأوى.
همس الرجل للمفتاح قائلا: لا أدري يا هذا؟! لقد بقيت نصف نهاري محاولا فتح الباب بك، والان أحس أنك بلا فائدة، كبقية الذين رموا بي الى بطون سجون من أجل فكرة تحرير وتغيير, سأحطم الباب وأدخل، ثم أرميك الى غير رجعة, سوف اشتري قفلا جديدا ومفتاح آخر في الزمن الجديد هذا
قال المفتاح لنفسه: لا يهم سواء رميتني، او جعلتني مشردا في حاوية نفايات على قارعة طريق، إنها أخير من العيش في جيوب معطفك العنكبوتي هذا، الذي توسد أعوامك في قبور مظلمة, تردد الرجل، أحس المفتاح بذلك، سمعه يقول لنفسه: سأحاول ولأخر مرة مع هذا المفتاح وذاك الباب، فما أن رفعه حتى شاهد الاعوجاج في عمود ظهره مع نتوءات برزت على سطحه جراء خدشه بسلك الحديد الذي حشره لإخراجه, عاد فأدخله فمه ثم أطبق أضراس ورحي على عمود ظهر ورأس المفتاح حتى قطع النفس من رائحة أسنان نخرة، عشش السوس فيها بزحام من ساكني أكلة الأضراس مع أنفاس أشبه برائحة جيبه المرطوب, مرت تلك اللحظات تمنى فيها التشرد والضياع, أو العيش في جيب معطف، فهي ارحم من هذا المكان المقزز, أخرجه بعد ان أطاح بالمفتاح بللا ومضغا، عمد الى وضعه في ثقب الباب, قبلها كان قد بصق في داخل الثقب أيضا، فأذاب صدأ تروس ساحت من لعاب, جاهد المفتاح نطحا بتروس شعرت بالنحول والخدر... تحركت عن مكانها، أدارها بصعوبة، حاول أكثر وهو يفكر في بقاء بجيب، أو مضغ في فم، لم يستسيغ الاثنان معا، لذا قرر كسر رأسه بين تروس ليموت بإرادته، بعيدا عن حياة بفم أو جيب, تعذر الأمر على الرجل، بات صعبا أكثر، أخرج المفتاح.. إنه بلا رأس!! كان فيها المفتاح قد قطع رأسه بإرادته على أن يعيش في عالم يكتسي بالعفونة والعنف, في تلكم الاثناء سمع الجلبة حاجب العمارة، جاء مسرعا قائلا للرجل: ما الأمر؟ ماذا تفعل؟؟
التفت إليه صاحب المعطف مجيبا... لقد حاولت كثيرا فتح باب شقتي بالمفتاح بعد غيابي الطويل، لكن يبدو ان الصدأ قد ركب تروس القفل، فحاولت لكن لا جدوى، لقد أنكسر المفتاح ،لابد لك أن تساعدني على فتحه، حتى ولو بكسره....
فقال الحاجب: بالطبع سأساعدك، لكن يا سيدي هذه ليست شقتك، يبدو إن المدة التي قضيتها بعيدا أنستك مكانها وموقعها...
قال الرجل: كيف؟؟ إنها هي... أنا لا أتيه عنها...!!!
رد الحاجب: لا يا سيدي لقد تهت, صحيح أن شقتك في الطابق الرابع وعلى جهة اليسار، لكن العمارة ليست العمارة، كما انه صحيح أيضا أن العمارات متشابه في شكل البناء، لكنك أخطأت، فمالك العمارات قد تغير منذ فترة ووضع شروطا جديدة بعد أن أعاد شبه تأهيل لها، فخَير بعدها المؤجرين للسكن بالأسعار الجديدة، أو ترك المكان، أو الطرد لمن لا يعجبه الأمر, أما بالنسبة لمثل حالتك ومقتنياتك، فهي موجودة في المخزن بسرداب العمارة، فإذا شئت يمكنك استلامها، أما الشقة فلا أظن، لأن الوضع كله قد تغير...
شعر الرجل بخيبة الأمل، فكل ذلك الوقت وكسر المفتاح المسكين لمجرد أنه قد تاه بين هذه وتلك من العمارات، حتى أنه لم يكلف نفسه قراءة الرقم أو السؤال، بل دخل إليها دون ان يتطلع ظنا، لقد ازدوجت الرؤيا عنده، بعد ان عاش في زنازين متشابه الشكل، خرج دون أن ينبس بكلمة، يحدوه شعور بخيبته، متمنيا الموت أو العيش في سراديب مظلمة، على العيش في الواقع الجديد.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي