هذي اللغة تبدو سخيفة جداً، مسطحة أكثر مما ينبغي، فكيف يمكنني أن أصف هذه الكآبة وأنا أعبر الازقة المظلمة، وكيف أصف ذلك الظلام فأقول بأنه دامس، لكنني في الواقع أعني أكثر من ذلك بكثير، أعني أن ظلمته أكثر مما يمكن للقلب تحملها..ظلمة موحشة، كئيبة، لا تتحملها الشياطين، هذه اللغة بئيسة لأنها لا تخلق روابط معنوية بين المفردة والحس. لذلك فإنني أظل مندهشاً من أولئك الذين يعتبرون نصاً متهافتاً بالمجاز نصاً شعرياً، فحتى لو كان ذلك الربط بين الصور المتعددة ربطاً شديد الغرابة لما بلغ قدرة الجهاز العصبي على عكس استجابته للمؤثرات المختلفة. هذه اللغة لا قيمة لها في الواقع سوى كونها محاولات يائسة لنقل ما لا يمكن نقله من جبال الحس والإحساس والحدس بأداة شديدة الفقر والوهن. هكذا قلت لنفسي وأنا أجلس وسط باحة واسعة تتوزع فوق مساحتها بائعات الشاي. غير أنني اخترت بائع شاي باللبن والزلابية..بدون سبب محدد. فرغبتي كانت مجرد تبديد الوقت الذي لم يكن بذي قيمة أبداً في حياتي. لا أكاد أرى كوب الشاي من فرط الظلام، وعلى بعد مترين جلس رجلان، خمسيني وثلاثيني. كان الثلاثيني ينادي الخمسيني بالدكتور. تبين لي أنه رسام..كان يدور بينهما حديث أعرف لغته جيداً، رغم انهما كانا في واديين بعيدين كل البعد:
- لو إستمررت في تلك المحايثة فسيكون منجزك منتشراً في أفق التداعيات..
اما الثلاثيني فكان يحكي:
- البزنس هنا غير مجدٍ البتة، فكل يوم يتم رفع الدولار الجمركي..
وفي المنتصف يلتقيان قليلاً:
- لكنه في أقصى اليمين؟
يتعجب الشاب فيرد الخمسيني:
- لقد استطعت ترويضه واستقطابه..هو فنان وروحه ليست روحاً يابسة..
ثم يضحك الخمسيني:
- قدته إلى بيت شكش..وتركته مع أجملهن..
وبدا أن الثلاثيني اهتم بالقصة من هذه النقطة تحديداً..اي من بيت الدعارة..هكذا كانت قصص الجنس دائماً قاسماً مشتركاً بين أصحاب اهتمامات مختلفة..اللغة العالمية تنتصر.
تمضي الدقائق ببطء شديد، ويعود كلا الرجلين للحديث بلغتين مختلفتين:
- هذا نقد ابستمولوجي ولكنه يتمظهر في تجليات الدازاين..
- أها..
ثم يتلقى الثلاثيني اتصالاً:
- نعم..لقد ارسلت لحمدان خمسمائة جنيه..
يقول خمسمائة جنيه مفخمة وكأنها خمسمائة مليار..
ثم يتلقى الخمسيني اتصالاً:
- طلابك سيشعرون بالامتنان لو فعلت ذلك..التخالط الإيجابي يحقق تعزيزاً لعمق التلقي...
كان هذا الدكتور الرسام مهزوماً، وكذلك ذلك الثلاثيني الذي يحاول أن يكون رجل أعمال وهو لا يملك فلساً واحداً..وكانت السماء لا زالت مظلمة ومغطاة ببخار ساخن. فنهضت وأنا أجر أقدامي جراً، وأنفاسي تتصاعد. مررت قرب الرجلين وبآخرين يتحدثون ويتحدثون..يحاولون إثبات انتصاراتهم عبر الكلمات..لكن الكلمات كانت في الواقع تؤكد هزيمتهم جملة بعد أخرى..
علينا أن نخترع لغة أخرى..أو كما كتبت في إحدى قصصي أن نطور قدراتنا على التواصل التخاطري ونقل أحاسيسنا كما هي بالفعل..لننقل هزائمنا كما هي وأحزاننا كما هي، وخيباتنا وحبنا أيضاً...علينا أن نستغني عن تلك اللغة المزيفة..ولكن يبدو ان ذلك مستحيل تماماً.
(تمت)
- لو إستمررت في تلك المحايثة فسيكون منجزك منتشراً في أفق التداعيات..
اما الثلاثيني فكان يحكي:
- البزنس هنا غير مجدٍ البتة، فكل يوم يتم رفع الدولار الجمركي..
وفي المنتصف يلتقيان قليلاً:
- لكنه في أقصى اليمين؟
يتعجب الشاب فيرد الخمسيني:
- لقد استطعت ترويضه واستقطابه..هو فنان وروحه ليست روحاً يابسة..
ثم يضحك الخمسيني:
- قدته إلى بيت شكش..وتركته مع أجملهن..
وبدا أن الثلاثيني اهتم بالقصة من هذه النقطة تحديداً..اي من بيت الدعارة..هكذا كانت قصص الجنس دائماً قاسماً مشتركاً بين أصحاب اهتمامات مختلفة..اللغة العالمية تنتصر.
تمضي الدقائق ببطء شديد، ويعود كلا الرجلين للحديث بلغتين مختلفتين:
- هذا نقد ابستمولوجي ولكنه يتمظهر في تجليات الدازاين..
- أها..
ثم يتلقى الثلاثيني اتصالاً:
- نعم..لقد ارسلت لحمدان خمسمائة جنيه..
يقول خمسمائة جنيه مفخمة وكأنها خمسمائة مليار..
ثم يتلقى الخمسيني اتصالاً:
- طلابك سيشعرون بالامتنان لو فعلت ذلك..التخالط الإيجابي يحقق تعزيزاً لعمق التلقي...
كان هذا الدكتور الرسام مهزوماً، وكذلك ذلك الثلاثيني الذي يحاول أن يكون رجل أعمال وهو لا يملك فلساً واحداً..وكانت السماء لا زالت مظلمة ومغطاة ببخار ساخن. فنهضت وأنا أجر أقدامي جراً، وأنفاسي تتصاعد. مررت قرب الرجلين وبآخرين يتحدثون ويتحدثون..يحاولون إثبات انتصاراتهم عبر الكلمات..لكن الكلمات كانت في الواقع تؤكد هزيمتهم جملة بعد أخرى..
علينا أن نخترع لغة أخرى..أو كما كتبت في إحدى قصصي أن نطور قدراتنا على التواصل التخاطري ونقل أحاسيسنا كما هي بالفعل..لننقل هزائمنا كما هي وأحزاننا كما هي، وخيباتنا وحبنا أيضاً...علينا أن نستغني عن تلك اللغة المزيفة..ولكن يبدو ان ذلك مستحيل تماماً.
(تمت)