علي خليفة - عناصر الفرجة عند العرب قديما

(١)
لم يعرف العرب المسرح إلا في العصر الحديث، ولكنهم عرفوا -مع ذلك - أشكالا من الفرجة قديما، وبعض أشكال الفرجة هذه يمكن أن تعد أشكالا مسرحية، كفن خيال الظل وفن القراقوز.
وكانت حياة العرب التي تقوم على التنقل المستمر داخل الجزيرة العربية في العصر الجاهلي، وعدم وجود معابد ضخمة لآلهتهم الوثنية من أسباب عدم معرفتهم للمسرح في العصر الجاهلي، ويبدو أن ضعف العقيدة الوثنية عند العرب في الجاهلية قبيل ظهور الإسلام كان عاملا آخر نتج عنه عدم ابتكار العرب للمسرح.
أما ما يقال من أن العرب لم يعرفوا المسرح في العصر الجاهلي لافتقارهم لملكة الخيال فإنه اتهام جائر مدحوض، فما وصلنا من شعر غنائي للعرب من العصر الجاهلي يدل على وجود ملكة الخيال لديهم، ولكنهم لم يعرفوا من ألوان الشعر آنذاك غير الشعر الغنائي.
ولم يكن المسرح مزدهرا عند الرومان في الوقت الذي اتصل بهم العرب في العصر الجاهلي وما تلاه من عصور، ولهذا لم يشاهد العرب عروضا للمسرح خلال سفرهم للبلاد الرومانية.
وأغلب الظن أن المترجمين العرب عن اليونانية والسريانية في العصر العباسي قد اطلعوا على مسرحيات يونانية قديمة،ولكنهم لم يهتموا بترجمتها؛ لما فيها من شكل أدبي غريب عليهم، ولما فيها من حديث عن الميثولوجيا الإغريقية، وحديث طويل عن آلهة الإغريق الوثنية ذات الطبيعة الناسوتية.
ويضاف لهذا أن نشاط حركة الترجمة عند العرب في العصر العباسي كان في الفترة التي ظهر فيها تيار الشعوبية المناوئ للعرب وكل ما يتصل بهم، وقد حاول الشعوبيون أن يقللوا من آداب العرب وكل ما يتصل بهم، وفي الوقت نفسه حاولوا أن ينسبوا كل فضل لجدودهم من الفرس والروم والقبط وبعض الأمم الأخرى، وفي دائرة الصراع الشعوبي العربي هذه تعصب العرب لكل ما هو عربي، وحاولو أن يقللوا من آداب الأمم الأخرى، ولهذا لم يهتموا بترجمة آداب الأمم الأخرى، ومنها آداب اليونان في مسرحهم على وجه الخصوص.
(٢)
وقد عرف العرب في العصر الجاهلي فن القص الذي يقوم فيه القصاص في جلسات السمر في المساء بقص الحكايات، وبعض هؤلاء القصاص تميزوا بالقدرة على الحكي والوصف والتعبير عن الشخصيات التي يحكون عنها، فيلونون أصواتهم بما يتناسب مع كل شخصية من هذه الشخصيات، وكان ما يقوم به بعض القصاص انذاك شبيها بعروض المونودراما التي يقوم ممثل واحد بالتمثيل في كل عرض فيها، ويجسد عدة شخصيات خلال تمثيله في المسرحية الواحدة.
وأيضا كان في العصر الجاهلي بعض المضحكين الذين يأنس الناس بهم في جلسات السمر في المساء، ويروون بعض نوادرهم ومواقفهم الطريفة، ويعد هبنقة أحد المضحكين الذين اشتهروا بالحمق في العصر الجاهلي، وقد وصلت إلينا بعض نوادره الطريفة.
وأيضا من فنون الفرجة في العصر الجاهلي ما كان يقوم به بعض الباعة في أسواق العرب من عرض بضائعهم بشكل تمثيلي لإغراء الناس بشرائها، ونخص من هؤلاء الباعة باعة الآلهة الوثنية الذين كانوا يلفقون بعض القصص عن هذه الآلهة الوثنية التي يصنعونها، ويقصونها بأسلوب مشوق فيه السرد والتمثيل لإغراء الناس بشرائها.
وكذلك كان ما يقوم به بعض الشعراء في سوق عكاظ والأسواق الأخرى في الجاهلية من عرض بضاعتهم من الشعر والخطب فيه قدر من الفرجة، فهم يبالغون في أسلوب عرض هذه النماذج الأدبية، ويحاولون التأثير في الجمهور المتحلق حولهم بذلك، وكذلك كانوا يحاولون بهذا الأسلوب في الإلقاء التأثير في المحكمين من الأدباء والنقاد الذين يحكمون بينهم.
ولا يخفى أيضا أن المنافرات التي كانت تقام في العصر الجاهلي فيها ملامح للفرجة، ففي كل منافرة من هذه المنافرات يتنافس متنافران أمام منفر/ حكم، ويتحلق جمهور حولهم، ويرى من تكون له الغلبة من هذين المتنافرين من خلال عرض كل واحد منهما لأدلته وحججه، وحكم المنفر بينهما.
(٣)
وفي العصر الأموي زاد المضحكون، ورأينا منهم مضحكين مقربين من الخلفاء، مثل أشعب والغاضري، ونما فن هؤلاء المضحكين، فكان بعضهم - مثل أشعب - يؤلف المواقف الطريفة، ويمثلها وحده أو مع غيره، ويضحك الناس كثيرا منهم.
وأعتقد أن بعض المضحكين في ذلك العصر الأموي كانوا يقومون بعمل الممثلين في المسرحيات الكوميدية، ويضاف لهذا أنهم كانوا يؤلفون هذه المسرحيات ويخرجونها، ولم يكن سراة أهل المدينة ومكة يتحملون بعد هؤلاء المضحكين عنهم، فهم كانوا وسيلة معروفة في جلب المتعة بما يقدمونه من عروض طريفة، وقدرة على الإضحاك بوسائل مختلفة.
وكان أسلوب جرير والفرزدق ومن سار معهم في النقائض - في العصر الأموي - يعتمد على التمثيل والإضحاك، فكان شعراء النقائض يجتمعون في سوق المربد بالعراق في ملابس خاصة كأنها ملابس تمثيليلية؛ لإبهار المشاهدين لهم والمستمعين لشعرهم، وكان كل شاعر منهم يبالغ في أداء شعره بشكل يحاول من خلاله جذب الجمهور في تلك السوق له؛ ليحكم له على الشعراء الآخرين الذين ينقض شعرهم، وينال فيه منهم.
(٤)
وفي العصر العباسي رأينا أن العرب امتزجوا بالأمم الأخرى امتزاجًا كبيرا، وظهر في هذا العصر عند العرب منصب مضحك الخليفة لأول مرة، وأخذه العرب عن الفرس، كما أخذوا عنهم مراسم أخرى، وكان مضحك الخليفة يقوم بإضحاك الخليفة وبطانته بوسائل مختلفة؛ منها تمثيل المواقف الطريفة التي كان يؤلفها ويخرجها بنفسه، إلى جانب أن أكثر هؤلاء المضحكين كانت لديهم قدرة على الإضحاك من خلال التقليد والتعليق الطريف، وعمل الحركات الطريفة، ووسائل أخرى، وكان أبو دلامة من أشهر هؤلاء المضحكين للخلفاء العباسيين الأوائل.
وإلى جانب المضحكين الذين أضحكوا الخلفاء في ذلك العصر فقد ظهر مضحكون للعامة، وكانوا يرفهون عنهم بطرق مختلفة، ومنها التمثيل الكوميدي، كحال ابن المغازلي في ذلك العصر.
ورأينا أيضا في العصر العباسي بعض المتصوفة الذين لم يعجبهم حال بعض الخلفاء في ذلك العصر، فكانوا يأتون بأشخاص، ويحاكمونهم على أنهم هم أولئك الخلفاء، بأسلوب تمثيلي أمام العامة.
وظهر فن المقامة في العصر العباسي على يد بديع الزمان الهمذاني، وأغلب الظن أن بديع الرمان كان يلقي أغلب مقاماته ارتجالا، وكان تلاميذه يدونونها عنه، وكان بديع الزمان يلقي هذه المقامات عليهم بأسلوب تمثيلي يتقمص فيه شخصيات كل مقامة يلقيها، ويلون صوته بما يتفق مع كل شخصية من هذه الشخصيات؛ ولهذا فإن فن المقامة قريب جدا من فن المسرح، ويمكن أن نعد إلقاء بديع الزمان لمقاماته نوعا من العروض المسرحية الشبيهة بمسرحيات المونودراما في العصر الحديث.
(٥)
وقد عرف العرب خيال الظل عن أهل الصين - في الغالب - وكانت معرفتهم له في القرن السادس الهجري، وأشهر من ألف بابات خيال الظل؛ أي مسرحياته، هو ابن دانيال الكحال في القرن السابع الهجري، وقد وصلت لنا ثلاث بابات من تأليفه، وحققها الدكتور إبراهيم حمادة.
وقد تمصر فن خيال الظل، وصار كأنه مصري، وكانت عروضه تقام في مسارح مغلقة، ويتم عمل عرائس له من جلود الجمال، وتنعكس صورها على شاشة بيضاء من خلال ضوء مصباح يسلط عليها، ويقوم المخايل بتحريك هذه العرائس، ويقوم الحازق بتلوين صوته مع الشخصيات المختلفة لهذه العرائس بما يتناسب مع كل شخصية منها، أما الريس في عِروض خيال الظل فهو أشبه بالمخرج، فهو يشرف على كل شيء في عروض خيال الظل.
وأعتقد أن خيال الظل هو شكل من أشكال المسرح، فهو مسرح عرائسي يتم عرضه في صالة عرض أمام جمهور، وهناك من يقومون بتقديم هذه العروض، ويشرف عليهم الريس.
(٦)
أما فن القراقوز فقد عرفه العرب عن الصين، وربما قام الأتراك بدور الوساطة في نقل هذا ألفن من الصين للعرب، والقراقوز كلمة تركية، تعني العين السوداء، وأغلب الظن أن عروضه الأولى عند العرب كانت تقوم على عروسة القراقوز وحدها، ثم أضيفت له عرائس أخرى بعد ذلك، وشخصية الأراجوز تقوم بالنقد والسخرية، ولديها جرأة وسلاطة لسان، وما زالت عروسة القراقوز محتفظة بتلك الصفات القديمة في كثير من العروض الحديثة لها.
وأعتقد أيضا أن القراقوز يمكن اعتباره شكلا آخر من أشكال المسرح عند العرب، وكان يقدم قديما للكبار، ولكنه صار محببا أكثر عند الصغار في العصر الحديث، وارتبطت أكثر عروضه بالأطفال في عصرنا هذا.


علي خليفة


- مقال منشور بنشرة المهرجان القومي ١٣ للمسرح المصري ٢٠٢٠
العدد الرابع



تعليقات

عناصر الفرجة عند العرب قديما للاستاذ علي خليفة موضوع مهم وثري بالمعلومات حول أشكال الفرجة عند العرب.. بالرغم من انه لا عصر يخلو من اشكال الترويح عن النفس، والتمثيل والمحاكاة والسخرية، وتقليد الكائنات، وان سميت تحت شتى الاسماء ، ونشير هنا الى ما ذكره خورخي لويس بورخيس عن ابن رشد .. وهو يشاهد من شرفته مجموعة من الأطفالا وهم يلهون باقامة محاكمة صورية لأحد أترابهم، حتى اننا نعتقد أن فن المسرح كما وصل الينا عن اليونان استنبطه الفقراء لتسلية الاثرياء والسخرية من مجتمعهم المليء بالمتناقضات والبؤس الاخلاقي والجشع

موضوع شائق ويغري بالقراءة

محبات
 
أعلى