نصيب الملائكة
___________
- ما الذي نجيده حقاً؟
- العيش وفق إمكانياتنا المحدودة..
- أن نقتل الطموح؟
- بلى..
وخرج من الباب الخاطئ فوجد مكتباً عتيقاً وعلى الطاولة زجاجة كونياك وكأس مقلوبة، وشبكة عنكبوت تلمع في الظلام..وفأر يعبر يتشمم التراب العالق في الأثاث. فأغلق الباب.
- غرفة جدنا؟
- كما هي..
- برائحة الموت..
- لم يتبق لنا الكثير..هل تعتقد ذلك؟
- ليس أكثر من عشرين عاماً اخرى..
- تبدو طويلة..
- نعم..تبدو طويلة..
وفتح البابَ الصحيح وخرج..
إذاً؛ فقد كان يشرب، يشرب أجود أنواع الخمور، كما لو كان يعيش في دولة أخرى.
- والآن..معي بضع دولارات.. ولا شيء آخر..
سار بخطوات متأنية..
- لن أشتري سلاحاً..فالجميع باتوا يحملون أسلحة حتى فقد وجوده معناه..
قليل من العمل..التفكير بمنهج أعمق..
- لكنك لن تستطيع رسم خطة..
يقول لنفسه، ويتأمل ما حوله:
- الحياة مخاطرة..هكذا يمكننا أن نتعامل مع قانونها..
ومع ذلك؛ فمهما حاولنا أن نتجنب وضع دراسة منهجية فإننا نفشل، فحتى المخاطرة لن نطلق عليها مخاطرة إن لم نخضعها لمقارنة منهجية مع ما لا يعد مخاطرة..
- كان جدي عابثاً..
ود أن يقول ذلك لابن عمه، لكنه لم يتذكر..ابن عمه يحفظ تاريخ العائلة عن ظهر قلب..
- لولا عبثه لكنا أغنياء..
قالت شقيقته وهي تتأمل زوجها القادم من بعيد..بدا له انها كانت تعتبر زوجها الخيار الوحيد..لم يكن أمامها سواه.. وكان عليها أن تخاطر..لكنها لم تكن مخاطرة..بل راية بيضاء.
صبيتان يلعبان وسط الزقاق الضيق المرشوش بماء البالوعات، كان رائحة صابون الحمام واضحة وشيء من العفونة يتخلل موجات الحر الشفافة..
- لم يتغير المناخ أبداً عما كان عليه قبل أربعين عاماً أليس كذلك.. نفس الحر...العصر الذي تتخله رائحة ياسمين عابرة بين رائحة طمي وورق شجرة الليمون..وذات الصوت لنهيق حمار لم يره قط..
- ها هو البيت الكبير..
يمد أصابعه ويزيح الباب فتهطل الأتربة ويصدر أزيز مزعج قليلاً.. فيمد رأسه ويرى المنزل..
- لم يكن كبيراً..كنا نعتقد ذلك..
تحرك قاطعاً الباحة الترابية المجدبة، ووقف أمام باب المدخل الذي يتوسط بين غرفتين جانبيتين..
- ها هو المفتاح..إن الأتربة ومضي الزمان لم يعرقلا عبوره في فتحة الكالون..كانت الصناعات في ذلك الزمان متينة..
في الركن الأيسر رفرفت حمامة وعبرت من شقة مكسورة من زجاج النافذة..
- يحتاج لنظافة .. نظافة كثيرة جداً..
كانت الغرف الخمسة مغلقة جيداً..المرحاض الخارجي نظيف ولكنه مبطن بالتراب..صنبور الماء متيبس..
- ستعود الحياة إليك مجدداً يا بيت الجد ..
وغادر بعدها دون أن يلتفت إلى الخلف..
ليس أكثر من خمسة عشر عاماً.. لقد أضاف لها خمس سنوات لكي يشعر ابن عمه بالإحباط.. إن خمسة عشر عاماً طويلة أكثر مما يجب..
- هكذا إذاً..
- بلى.. لا أعرف ما فائدة كل هذا!
- تقصد ما نفعله؟
- هذا الجهاد من أجل النجاة..
- زجاجة معتقة ستعطك الإجابة..
- لقد توقفت عن الشرب..
- لماذا؟
- لا أدري..يبدو الأمر كله عبثياً..عندما ..
- عندما تتأمل التاريخ..
- بالفعل..
- عندما تتأمل التاريخ يبدو الحاضر عبثياً..
- ولكنه كذلك بالفعل يا ابن عمي..
- هل تعلم أن تعتيق الكونياك يفقده بعض الكحول والماء..
- لا..
- يسمون تلك الخسارة بنصيب الملائكة..
- مضحك جداً..
- نعم..إلى حد ما.. فمن الجيد الإيمان بوجود ملائكة مخمورة طيلة العام..وهذه هي حقيقتنا.. نحن في الواقع نمنح الحياة معناها المعنوي دائماً لنتجاوز فسادها الحتمي..كان جدنا عابثاً..يعشق الحياة كما لو كان أوروبياً وليس كأفريقي عليه مسؤوليات جسام..لقد خان جدتنا كثيراً..ولكنها لم تخنه حتى في الذاكرة..
- ما أدراك بذلك؟..
- هي أخبرتني ولم تكن تكذب..
- وكيف علمت أنها لم تكن تكذب؟..
- لعدة اسباب..فقد كنت صبياً في ذلك الوقت وكانت تفضفض دون أن تنتظر مني شيئاً.. أتذكر أن عينيها الرماديتين كانتا تبرقان قليلاً..شفتيها مضمومتان بتأمل عميق..ثم خبا البريق فجأة فعلمت بأنها ماتت.. شاهدت الموت لأول مرة..
- لا شك أنه لم يغادر ذاكرتك..
- كادت أن تحل محله مشاهد موت أخرى كثيرة بعدها..مع ذلك فطيفه متشبث بذاكرتي..لا زلت اتذكر نبرة صوتها..
فتح زجاجة الكونياك وصب منها على كأسه ثم رفعه أمام وجهه:
- مُصِر..
- لا..
تشمم الكأس ثم جرع منه بتحفظ..
- ماذا لو أعتدنا على ذلك..لو أصبحنا مدمني خمر..
- لا أستطيع تخيل ذلك..
- الا يمكنك استنتاج شيء..
- لا..إنني حتى لا أستطيع تخيل موتي..
- حقاً؟
- حقاً..حتى أنني أعتقد بأنني خالد..
وضع الكأس على رخام الطاولة، ثم فتح الباب الخاطئ:
- ليس مرة أخرى..
ضحك ابن عمه فقال:
- لا.. لم أخطئ..
كان كل شيء في مكانه كما كان من قبل..
زجاجة كونياك..كأس مقلوب.. بيت عنكبوت..وفأر ميت ومتعفن الجثة..
(تمت)
---------
الخونة
_____
وكان رقصهم غريباً، لكنهم كمحبين للحياة منحوا لرقصهم مقبولية، بحيث يضحى من الصعب أن نسخر منهم، بل تضحى السخرية إعلانَ عدوان حربي. يرقصون دائماً حتى وهم يزرعون، بل وماشيتهم نفسها ترقص أثناء سعيها الطويل في السهول المعشبة. وعندما يأكلون يهتزون لأنهم لا يتوقفون عن الرقص. وحتى وهم نائمون يرقصون، ويحلمون بالرقص.
- لكن يا سيدي ألا يبدو الرقص الكثير فيه شيء من انتقاص الذات..
قال لنا وهو يهز كتفيه راقصاً:
- إن الكره والغضب والجريمة هم الذين ينتقصون من إنسانيتنا، والرقص يملأ ساعتنا فلا نفكر في السوء..
وقالت فتاة ضاحكة وهي ترقص:
- لا نفكر عندما نرقص..أنظر..فيهمني هذا التوازن فوق الأرض أكثر من الانشغال بالأعداء إن كان لي أعداء..
قرية الراقصين، لا تهدأ..ومن لا يعرفهم سيشعر بالخوف حين يراهم وهم يرقصون باستمرار..
- هذه رقصة لشروق الشمس..
- وهذه رقصة لغروبها..
- وهذه رقصة للاستيقاظ..
- وهذه رقصة الإفطار..
- وهذه رقصة الذهاب للعمل..
- وهذه رقصة العمل..
- وهذه رقصة انتهاء العمل..
- وهذه رقصة العودة للمنزل..
- وهذه رقصة زيارة الأحباء في المساء
- وهذه....
غير أن التفكير لن يكون إبداعياً وأنتم منشغلون عن العمق بالرقص؟
تجيب امرإة وهي تضحك أثناء رقصها:
- ألا تكفيكم إجاباتنا العميقة...إنكم تضيعون عمركم في التفكير في التفاهات..في مشاهدة التلفزيون والاستماع للراديو..
- هناك أشياء أخرى ظهرت في العالم..تكنولوجيا جديدة..
- حقاً..فلنحتفل بذلك..
ويختلقون رقصة لظهور تكنولوجيا جديدة...
لماذا نسعى لإقناعهم بغير مفاهيمهم؟
سأل أحدنا..
ولم نجد إجابة، فحتى زميلتنا التي قالت:
- لأننا موظفون وملتزمون بتحقيق انضباط البشر..
لم تقنعنا إجابتها..
وقفنا على مشارف القرية لنتشاور وهم من بعيد يرقصون..
- لن يفكروا في مقاومة الحكومة أبداً..
- لن يفكروا في خوض حرب لو هاجمتنا جيوش الأعداء..
قالت زميلتنا:
- لن يشتروا التكنولوجيا الجديدة..
- وهذه خسارة كبيرة للشركات..
- سيؤدي ذلك إلى ركود..
- ربما فوق هذا سوف يظل السوق خامداً..وهكذا تهبط أسعار السلع..
- سينهار الاقتصاد القومي..
- وحينها يحدث انفلات أمني..
- فتضعف الدولة..
- وتكون الدولة جاهزة للإحتلال..
كان ذلك كافياً..
تقدما من الشعب الراقص ببطء..أطفأ بعضنا سجاره على الأرض وسحقه بقدمه وهو يسير، زميلتنا أخرجت حقيبتها وأعادت رسم شفاهها بالأصباغ الحمراء اللزجة المقززة..
وحين وقفنا أمام أهالي القرية الراقصين لم يتوقفوا عن الرقص لينظروا إلينا..حينها استللنا أسلحتنا من خلف ظهورنا..وشرعنا في إطلاق زخات الرصاص عليهم...سقطوا واحداً وراء آخر...سقطوا ورقصت جثثهم قليلاً ثم خمدت.
فتنفسنا الصعداء...
-خونة
قلنا بصوت واحد...
وعبرت ريح ساخنة سماء ذلك المساء، حاملة عفونة كتل الجثث السوداء الموزعة فوق الأعشاب...
(تمت)
------
معنى الحياة
_________
لم يعد من المفيد التفكير في الموت الحتمي، لقد أضحى حقيقة أكثر مما يجب. هناك أدوات ربط وتسبيب لم تعد ذات معنى، مثل (لذلك)، (لأن)، فالعالم فقد رغبته في اكتشاف الأسباب. هكذا في لحظة حاسمة في التاريخ قرر جميع البشر الاكتفاء بما هو كائن للاستمتاع بما هو متاح خلال سانحة الحياة، مع ذلك فقصص الحب الفاشلة لم تنتهِ، البكاء من الحرمان استمر. لأن المعايير لم تهبط. ولأن الحياة بمافيها من مشاعر مؤسسة على معايير. ولكي تنتهي محنة الحب، كان على البشر أن يتساووا جميعهم. لقد استخدموا كل علومهم ليجعلوا كل البشر متماثلين، متماثلون في كل شيء، في أشكالهم وطباعهم ومشاعرهم. كان ذلك هو الحل الذي توصلوا إليه لتنتهي مأساة الحب في العالم الإنساني. ولا أستطيع تخيل نفسي في ذلك العالم، حيث أشبه الجميع والجميع يشبهوني، يشعرون كما أشعر وأشعر كما يشعرون. صحيح أنني حين أكتشف من خلال قراءتي أن استهلاكنا للأطعمة قد انخفض بالنسبة لبعض الاطعمة وأرتفع فيما نتشارك حبه جميعنا كبشر، كما أنه لم يعد هناك من سبب للعنصرية، أو الكره أو المقت، أو حتى ارتداء ملابس مختلفة، فإن ذلك قد دفع بنا كبشر إلى المساواة والعدالة والسلام والحب، غير أن هناك فراغاً ما عمنا جميعاً، فراغٌ روحي. إنني أمد رأسي من النافذة فأرى نفسي في كل من يسير في الشاعر، أزداد شعوري بالتلاحم العاطفي مع توائمي. لقد قابلتنا معضلة توجهنا نحو نفس الأعمال، لقد رفضنا جميعنا كبشر القيام بالأعمال الوضيعة، لأننا نحمل نفس طريقة التفكير والمشاعر. وهكذا وبدون أي إعلان، وجدنا إنفسنا جميعا نتوجه نحو ساحة الحلول، لإيجاد حل، رغم أن الحل كان مُعطى في جميع أدمغتنا، وهو ضرورة التخفيف من حدة التماثل بتخفيف التماثل الدماغي، يجب أن نفكر بطريقة مختلفة، ولكن كيف سيحدث ذلك إن لم نخفض من ذكاء بعضنا؟ لذلك اخترنا القرعة، فوقعت القرعة على بعض سيئي الحظ، الذين خضعوا لعملة تخفيض دماغي بنزع جزء من أجزاء مخهم. وهكذا قبل هؤلاء العمل ببعض الأعمال الوضيعة الضرورية.ونتيجة لذلك فقد تعرضوا للاستغلال العنيف. لقد رفض بعض من وقعت عليهم عمليات التخفيض العمل في السخرة، فاضطررنا لمراقبتهم، غير أنهم كانوا يتماثلون معنا في الشكل مما ساعدهم على التسلل من بيننا. وكان علينا تمييزهم ببعض العلامات على خدودهم. أصبحت هناك طبقتان، طبقة معلَّمي الوجوه وطبقة الأحرار. وهكذا كدنا أن نصدق بأننا قد تجاوزنا معضلة التماثل، غير أن ذلك لم يتحقق بالفعل، فنحن فعلياً لم نكن قادرين على تطوير حياتنا بشكل فاعل وعلى وجه التحديد فإننا لم نزدد سعادة، كان علينا أن نتجاوز أزمة الموت الجماعي، لأن تماثلنا سيجعلنا ننقرض بكل بساطة في وقت واحد. الموت الذي لم يكن مهماً أضحى من المهم اليوم أن ننظر له بعين الإعتبار، إذ لا يجب أن نموت كلنا في وقت واحد، بل يجب أن نموت في فترات مختلفة، حتى نضمن بقاء الجنس البشري، لذلك اخترنا القرعة لاختيار ساعات موت مختلفة لبعضنا البعض عبر الإطاحة بعنصر التماثل الحيوي. يجب أن يشيخ البعض ويموت آخرون مبكراً، لكن، ورغم أهمية ذلك الاختلاف، كنا جميعنا مرعوبين من أن نخوض قرعة جديدة، قد توقع بعضنا في أعمار قصيرة. لكن لا بد مما ليس منه بد. لقد تم تحديد ساعة وفاتي في عمر الثانية والخمسين، وبعضنا سقط ميتاً على الفور. والبعض سيعيش فوق المائة عام. كان ذلك التباين في الأعمار سبباً أساسياً في بحث كل واحد منا عن أكبر قدر من اللذة قبل وفاته. والبعض من المعمرين لم يعودوا يعبأون بالقيام بأي أعمال ذات أهمية بعد أن ضمنوا حياة مديدة، لكننا لا نستطيع أن نلومهم، فنحن نتماثل في أسلوب التفكير والشعور، ولو وقعت لنا أعمار مديدة لفعلنا مثل ما فعلوا..غير أن المشكلة تفاقمت، وزادت حالات التسيب في أداء الأعمال، وكان يجب أن نجد حلاً، وهو أن نعيد أحاسيسنا لحالة التباين والاختلاف من جديد، لكي نجد مبررا للعقاب بنفي الحتمية. وبالفعل أعدنا أحاسيسنا لحالة الاختلاف، لتنتج مشكلة أكبر، فبعض النساء وقعن في حب طبقة الوضيعين، مهددين تماثلنا، بل وأضحى كل واحد منا يملك دافعاً مختلفاً للأنشطة التي يقوم بها، وهكذا عادت مآسي الحب القديمة والحرمان التي كنا قد ارتحنا منها منذ عقود. لقد اختلفنا ولم نعد نتشابه إلا في الشكل. كنا نشعر بأننا نخون أنفسنا. هكذا عدنا لنرى شعراء ورسامين، ومتعاطي مخدرات، ومجرمين وقتلة وحروب، كان الرجل يشنق شبيهه، فيشعر بأن هناك خطأ ما، ويتعمق شعوره بالخزي، لذلك قررنا إنهاء ذلك التشابه لكي يمكنك أن ترفع المسدس وتطلق منه رصاصة على الشخص الذي يركع أمامك بدون تأنيب ضمير ما دام لا يشبهك. وبقرعة ضخمة تم توزيع أشكال مختلفة على أنفسنا، الوان مختلفة، أطوال وأحجام مختلفة، تقاطيع مختلفة...
وهكذا عدنا كما كنا، عدنا للقصص الحزينة، للعنصرية، للحروب، للقتل والدماء والدموع وقصص النجاح والفشل، لكننا كنا ندرك بلا اي جدل، أن ذلك كله هو معنى الحياة.
___________
- ما الذي نجيده حقاً؟
- العيش وفق إمكانياتنا المحدودة..
- أن نقتل الطموح؟
- بلى..
وخرج من الباب الخاطئ فوجد مكتباً عتيقاً وعلى الطاولة زجاجة كونياك وكأس مقلوبة، وشبكة عنكبوت تلمع في الظلام..وفأر يعبر يتشمم التراب العالق في الأثاث. فأغلق الباب.
- غرفة جدنا؟
- كما هي..
- برائحة الموت..
- لم يتبق لنا الكثير..هل تعتقد ذلك؟
- ليس أكثر من عشرين عاماً اخرى..
- تبدو طويلة..
- نعم..تبدو طويلة..
وفتح البابَ الصحيح وخرج..
إذاً؛ فقد كان يشرب، يشرب أجود أنواع الخمور، كما لو كان يعيش في دولة أخرى.
- والآن..معي بضع دولارات.. ولا شيء آخر..
سار بخطوات متأنية..
- لن أشتري سلاحاً..فالجميع باتوا يحملون أسلحة حتى فقد وجوده معناه..
قليل من العمل..التفكير بمنهج أعمق..
- لكنك لن تستطيع رسم خطة..
يقول لنفسه، ويتأمل ما حوله:
- الحياة مخاطرة..هكذا يمكننا أن نتعامل مع قانونها..
ومع ذلك؛ فمهما حاولنا أن نتجنب وضع دراسة منهجية فإننا نفشل، فحتى المخاطرة لن نطلق عليها مخاطرة إن لم نخضعها لمقارنة منهجية مع ما لا يعد مخاطرة..
- كان جدي عابثاً..
ود أن يقول ذلك لابن عمه، لكنه لم يتذكر..ابن عمه يحفظ تاريخ العائلة عن ظهر قلب..
- لولا عبثه لكنا أغنياء..
قالت شقيقته وهي تتأمل زوجها القادم من بعيد..بدا له انها كانت تعتبر زوجها الخيار الوحيد..لم يكن أمامها سواه.. وكان عليها أن تخاطر..لكنها لم تكن مخاطرة..بل راية بيضاء.
صبيتان يلعبان وسط الزقاق الضيق المرشوش بماء البالوعات، كان رائحة صابون الحمام واضحة وشيء من العفونة يتخلل موجات الحر الشفافة..
- لم يتغير المناخ أبداً عما كان عليه قبل أربعين عاماً أليس كذلك.. نفس الحر...العصر الذي تتخله رائحة ياسمين عابرة بين رائحة طمي وورق شجرة الليمون..وذات الصوت لنهيق حمار لم يره قط..
- ها هو البيت الكبير..
يمد أصابعه ويزيح الباب فتهطل الأتربة ويصدر أزيز مزعج قليلاً.. فيمد رأسه ويرى المنزل..
- لم يكن كبيراً..كنا نعتقد ذلك..
تحرك قاطعاً الباحة الترابية المجدبة، ووقف أمام باب المدخل الذي يتوسط بين غرفتين جانبيتين..
- ها هو المفتاح..إن الأتربة ومضي الزمان لم يعرقلا عبوره في فتحة الكالون..كانت الصناعات في ذلك الزمان متينة..
في الركن الأيسر رفرفت حمامة وعبرت من شقة مكسورة من زجاج النافذة..
- يحتاج لنظافة .. نظافة كثيرة جداً..
كانت الغرف الخمسة مغلقة جيداً..المرحاض الخارجي نظيف ولكنه مبطن بالتراب..صنبور الماء متيبس..
- ستعود الحياة إليك مجدداً يا بيت الجد ..
وغادر بعدها دون أن يلتفت إلى الخلف..
ليس أكثر من خمسة عشر عاماً.. لقد أضاف لها خمس سنوات لكي يشعر ابن عمه بالإحباط.. إن خمسة عشر عاماً طويلة أكثر مما يجب..
- هكذا إذاً..
- بلى.. لا أعرف ما فائدة كل هذا!
- تقصد ما نفعله؟
- هذا الجهاد من أجل النجاة..
- زجاجة معتقة ستعطك الإجابة..
- لقد توقفت عن الشرب..
- لماذا؟
- لا أدري..يبدو الأمر كله عبثياً..عندما ..
- عندما تتأمل التاريخ..
- بالفعل..
- عندما تتأمل التاريخ يبدو الحاضر عبثياً..
- ولكنه كذلك بالفعل يا ابن عمي..
- هل تعلم أن تعتيق الكونياك يفقده بعض الكحول والماء..
- لا..
- يسمون تلك الخسارة بنصيب الملائكة..
- مضحك جداً..
- نعم..إلى حد ما.. فمن الجيد الإيمان بوجود ملائكة مخمورة طيلة العام..وهذه هي حقيقتنا.. نحن في الواقع نمنح الحياة معناها المعنوي دائماً لنتجاوز فسادها الحتمي..كان جدنا عابثاً..يعشق الحياة كما لو كان أوروبياً وليس كأفريقي عليه مسؤوليات جسام..لقد خان جدتنا كثيراً..ولكنها لم تخنه حتى في الذاكرة..
- ما أدراك بذلك؟..
- هي أخبرتني ولم تكن تكذب..
- وكيف علمت أنها لم تكن تكذب؟..
- لعدة اسباب..فقد كنت صبياً في ذلك الوقت وكانت تفضفض دون أن تنتظر مني شيئاً.. أتذكر أن عينيها الرماديتين كانتا تبرقان قليلاً..شفتيها مضمومتان بتأمل عميق..ثم خبا البريق فجأة فعلمت بأنها ماتت.. شاهدت الموت لأول مرة..
- لا شك أنه لم يغادر ذاكرتك..
- كادت أن تحل محله مشاهد موت أخرى كثيرة بعدها..مع ذلك فطيفه متشبث بذاكرتي..لا زلت اتذكر نبرة صوتها..
فتح زجاجة الكونياك وصب منها على كأسه ثم رفعه أمام وجهه:
- مُصِر..
- لا..
تشمم الكأس ثم جرع منه بتحفظ..
- ماذا لو أعتدنا على ذلك..لو أصبحنا مدمني خمر..
- لا أستطيع تخيل ذلك..
- الا يمكنك استنتاج شيء..
- لا..إنني حتى لا أستطيع تخيل موتي..
- حقاً؟
- حقاً..حتى أنني أعتقد بأنني خالد..
وضع الكأس على رخام الطاولة، ثم فتح الباب الخاطئ:
- ليس مرة أخرى..
ضحك ابن عمه فقال:
- لا.. لم أخطئ..
كان كل شيء في مكانه كما كان من قبل..
زجاجة كونياك..كأس مقلوب.. بيت عنكبوت..وفأر ميت ومتعفن الجثة..
(تمت)
---------
الخونة
_____
وكان رقصهم غريباً، لكنهم كمحبين للحياة منحوا لرقصهم مقبولية، بحيث يضحى من الصعب أن نسخر منهم، بل تضحى السخرية إعلانَ عدوان حربي. يرقصون دائماً حتى وهم يزرعون، بل وماشيتهم نفسها ترقص أثناء سعيها الطويل في السهول المعشبة. وعندما يأكلون يهتزون لأنهم لا يتوقفون عن الرقص. وحتى وهم نائمون يرقصون، ويحلمون بالرقص.
- لكن يا سيدي ألا يبدو الرقص الكثير فيه شيء من انتقاص الذات..
قال لنا وهو يهز كتفيه راقصاً:
- إن الكره والغضب والجريمة هم الذين ينتقصون من إنسانيتنا، والرقص يملأ ساعتنا فلا نفكر في السوء..
وقالت فتاة ضاحكة وهي ترقص:
- لا نفكر عندما نرقص..أنظر..فيهمني هذا التوازن فوق الأرض أكثر من الانشغال بالأعداء إن كان لي أعداء..
قرية الراقصين، لا تهدأ..ومن لا يعرفهم سيشعر بالخوف حين يراهم وهم يرقصون باستمرار..
- هذه رقصة لشروق الشمس..
- وهذه رقصة لغروبها..
- وهذه رقصة للاستيقاظ..
- وهذه رقصة الإفطار..
- وهذه رقصة الذهاب للعمل..
- وهذه رقصة العمل..
- وهذه رقصة انتهاء العمل..
- وهذه رقصة العودة للمنزل..
- وهذه رقصة زيارة الأحباء في المساء
- وهذه....
غير أن التفكير لن يكون إبداعياً وأنتم منشغلون عن العمق بالرقص؟
تجيب امرإة وهي تضحك أثناء رقصها:
- ألا تكفيكم إجاباتنا العميقة...إنكم تضيعون عمركم في التفكير في التفاهات..في مشاهدة التلفزيون والاستماع للراديو..
- هناك أشياء أخرى ظهرت في العالم..تكنولوجيا جديدة..
- حقاً..فلنحتفل بذلك..
ويختلقون رقصة لظهور تكنولوجيا جديدة...
لماذا نسعى لإقناعهم بغير مفاهيمهم؟
سأل أحدنا..
ولم نجد إجابة، فحتى زميلتنا التي قالت:
- لأننا موظفون وملتزمون بتحقيق انضباط البشر..
لم تقنعنا إجابتها..
وقفنا على مشارف القرية لنتشاور وهم من بعيد يرقصون..
- لن يفكروا في مقاومة الحكومة أبداً..
- لن يفكروا في خوض حرب لو هاجمتنا جيوش الأعداء..
قالت زميلتنا:
- لن يشتروا التكنولوجيا الجديدة..
- وهذه خسارة كبيرة للشركات..
- سيؤدي ذلك إلى ركود..
- ربما فوق هذا سوف يظل السوق خامداً..وهكذا تهبط أسعار السلع..
- سينهار الاقتصاد القومي..
- وحينها يحدث انفلات أمني..
- فتضعف الدولة..
- وتكون الدولة جاهزة للإحتلال..
كان ذلك كافياً..
تقدما من الشعب الراقص ببطء..أطفأ بعضنا سجاره على الأرض وسحقه بقدمه وهو يسير، زميلتنا أخرجت حقيبتها وأعادت رسم شفاهها بالأصباغ الحمراء اللزجة المقززة..
وحين وقفنا أمام أهالي القرية الراقصين لم يتوقفوا عن الرقص لينظروا إلينا..حينها استللنا أسلحتنا من خلف ظهورنا..وشرعنا في إطلاق زخات الرصاص عليهم...سقطوا واحداً وراء آخر...سقطوا ورقصت جثثهم قليلاً ثم خمدت.
فتنفسنا الصعداء...
-خونة
قلنا بصوت واحد...
وعبرت ريح ساخنة سماء ذلك المساء، حاملة عفونة كتل الجثث السوداء الموزعة فوق الأعشاب...
(تمت)
------
معنى الحياة
_________
لم يعد من المفيد التفكير في الموت الحتمي، لقد أضحى حقيقة أكثر مما يجب. هناك أدوات ربط وتسبيب لم تعد ذات معنى، مثل (لذلك)، (لأن)، فالعالم فقد رغبته في اكتشاف الأسباب. هكذا في لحظة حاسمة في التاريخ قرر جميع البشر الاكتفاء بما هو كائن للاستمتاع بما هو متاح خلال سانحة الحياة، مع ذلك فقصص الحب الفاشلة لم تنتهِ، البكاء من الحرمان استمر. لأن المعايير لم تهبط. ولأن الحياة بمافيها من مشاعر مؤسسة على معايير. ولكي تنتهي محنة الحب، كان على البشر أن يتساووا جميعهم. لقد استخدموا كل علومهم ليجعلوا كل البشر متماثلين، متماثلون في كل شيء، في أشكالهم وطباعهم ومشاعرهم. كان ذلك هو الحل الذي توصلوا إليه لتنتهي مأساة الحب في العالم الإنساني. ولا أستطيع تخيل نفسي في ذلك العالم، حيث أشبه الجميع والجميع يشبهوني، يشعرون كما أشعر وأشعر كما يشعرون. صحيح أنني حين أكتشف من خلال قراءتي أن استهلاكنا للأطعمة قد انخفض بالنسبة لبعض الاطعمة وأرتفع فيما نتشارك حبه جميعنا كبشر، كما أنه لم يعد هناك من سبب للعنصرية، أو الكره أو المقت، أو حتى ارتداء ملابس مختلفة، فإن ذلك قد دفع بنا كبشر إلى المساواة والعدالة والسلام والحب، غير أن هناك فراغاً ما عمنا جميعاً، فراغٌ روحي. إنني أمد رأسي من النافذة فأرى نفسي في كل من يسير في الشاعر، أزداد شعوري بالتلاحم العاطفي مع توائمي. لقد قابلتنا معضلة توجهنا نحو نفس الأعمال، لقد رفضنا جميعنا كبشر القيام بالأعمال الوضيعة، لأننا نحمل نفس طريقة التفكير والمشاعر. وهكذا وبدون أي إعلان، وجدنا إنفسنا جميعا نتوجه نحو ساحة الحلول، لإيجاد حل، رغم أن الحل كان مُعطى في جميع أدمغتنا، وهو ضرورة التخفيف من حدة التماثل بتخفيف التماثل الدماغي، يجب أن نفكر بطريقة مختلفة، ولكن كيف سيحدث ذلك إن لم نخفض من ذكاء بعضنا؟ لذلك اخترنا القرعة، فوقعت القرعة على بعض سيئي الحظ، الذين خضعوا لعملة تخفيض دماغي بنزع جزء من أجزاء مخهم. وهكذا قبل هؤلاء العمل ببعض الأعمال الوضيعة الضرورية.ونتيجة لذلك فقد تعرضوا للاستغلال العنيف. لقد رفض بعض من وقعت عليهم عمليات التخفيض العمل في السخرة، فاضطررنا لمراقبتهم، غير أنهم كانوا يتماثلون معنا في الشكل مما ساعدهم على التسلل من بيننا. وكان علينا تمييزهم ببعض العلامات على خدودهم. أصبحت هناك طبقتان، طبقة معلَّمي الوجوه وطبقة الأحرار. وهكذا كدنا أن نصدق بأننا قد تجاوزنا معضلة التماثل، غير أن ذلك لم يتحقق بالفعل، فنحن فعلياً لم نكن قادرين على تطوير حياتنا بشكل فاعل وعلى وجه التحديد فإننا لم نزدد سعادة، كان علينا أن نتجاوز أزمة الموت الجماعي، لأن تماثلنا سيجعلنا ننقرض بكل بساطة في وقت واحد. الموت الذي لم يكن مهماً أضحى من المهم اليوم أن ننظر له بعين الإعتبار، إذ لا يجب أن نموت كلنا في وقت واحد، بل يجب أن نموت في فترات مختلفة، حتى نضمن بقاء الجنس البشري، لذلك اخترنا القرعة لاختيار ساعات موت مختلفة لبعضنا البعض عبر الإطاحة بعنصر التماثل الحيوي. يجب أن يشيخ البعض ويموت آخرون مبكراً، لكن، ورغم أهمية ذلك الاختلاف، كنا جميعنا مرعوبين من أن نخوض قرعة جديدة، قد توقع بعضنا في أعمار قصيرة. لكن لا بد مما ليس منه بد. لقد تم تحديد ساعة وفاتي في عمر الثانية والخمسين، وبعضنا سقط ميتاً على الفور. والبعض سيعيش فوق المائة عام. كان ذلك التباين في الأعمار سبباً أساسياً في بحث كل واحد منا عن أكبر قدر من اللذة قبل وفاته. والبعض من المعمرين لم يعودوا يعبأون بالقيام بأي أعمال ذات أهمية بعد أن ضمنوا حياة مديدة، لكننا لا نستطيع أن نلومهم، فنحن نتماثل في أسلوب التفكير والشعور، ولو وقعت لنا أعمار مديدة لفعلنا مثل ما فعلوا..غير أن المشكلة تفاقمت، وزادت حالات التسيب في أداء الأعمال، وكان يجب أن نجد حلاً، وهو أن نعيد أحاسيسنا لحالة التباين والاختلاف من جديد، لكي نجد مبررا للعقاب بنفي الحتمية. وبالفعل أعدنا أحاسيسنا لحالة الاختلاف، لتنتج مشكلة أكبر، فبعض النساء وقعن في حب طبقة الوضيعين، مهددين تماثلنا، بل وأضحى كل واحد منا يملك دافعاً مختلفاً للأنشطة التي يقوم بها، وهكذا عادت مآسي الحب القديمة والحرمان التي كنا قد ارتحنا منها منذ عقود. لقد اختلفنا ولم نعد نتشابه إلا في الشكل. كنا نشعر بأننا نخون أنفسنا. هكذا عدنا لنرى شعراء ورسامين، ومتعاطي مخدرات، ومجرمين وقتلة وحروب، كان الرجل يشنق شبيهه، فيشعر بأن هناك خطأ ما، ويتعمق شعوره بالخزي، لذلك قررنا إنهاء ذلك التشابه لكي يمكنك أن ترفع المسدس وتطلق منه رصاصة على الشخص الذي يركع أمامك بدون تأنيب ضمير ما دام لا يشبهك. وبقرعة ضخمة تم توزيع أشكال مختلفة على أنفسنا، الوان مختلفة، أطوال وأحجام مختلفة، تقاطيع مختلفة...
وهكذا عدنا كما كنا، عدنا للقصص الحزينة، للعنصرية، للحروب، للقتل والدماء والدموع وقصص النجاح والفشل، لكننا كنا ندرك بلا اي جدل، أن ذلك كله هو معنى الحياة.