أمل الكردفاني- باطن- قصة

(ولدنا طيبين وتعلمنا الشر..
ولدنا أوفياء وتعلمنا الخيانة
ولدنا أبرياء وتعلمنا الخبث
ولدنا....)..

يغني الأطفال، وينظر لهم بعينين خائرتين من البعد..فتقول زوجته:
- ما هذه المدرسة الغريبة..
وتنظر إليه فتجده جالساً بصمت كعادته:
- ألا تسمعني؟
يلتفت إليها منتبهاً:
- الا تهتم بمستقبل طفلنا؟
فتجحظ عيناه:
- أنا مهتم..
فتمسح ظهره بيدها وتقول:
- لكنك لم تعلق على ما يعلمونه لهم في هذه المدرسة الغريبة..
قال برعب:
- ماذا يعلمونهم؟
قالت:
- ألا تسمع هذه الأغنية..
يدير راسه ويسمع الاطفال:
"ولدنا شفوقين فعلمونا القسوة
ولدنا أمينين فعلومنا السرقة..
ولدنا..)...
ثم عاد فنظر نحو زوجته مستفهماً، قالت ووجها الممتليء بالشحم يهتز:
- ألا تسمع؟.. هل هذه أغنية يعلمونها للأطفال؟
عاد ونظر نحو الأطفال فأضافت:
- ألم تفهمها؟
أغمض عينيه وهمس:
- فهمتها..
فقالت بإصرار:
- ماذا تعني؟
سها ببصره:
- تعني...تعني...
وحين فرغ صبره قال:
- متى سينتهون؟ أشعر بتعب..
أجابته:
- لا زالت هناك ساعتان..
قال وهو يعض بجفنيه:
- سأذهب..أنا متعب..
ثم نهض وصعد المصاطب المتدرجة خارجاً من الملعب، وهناك ركب سيارة نقل كبيرة.
كان في نهار اليوم السابق قد نقل قرابة طن من الطوب والمونة أثناء عمله كبناء.. بعد أن انتهى سأله أحد العمال:
- لماذا لم تضع المونة على الرافع الكهربائي؟
فقال بدهشة:
- هل هناك رافع؟
أشار له زميله نحو الرافع..فلوى شفتيه وحصل على أجرته عائداً إلى المنزل.
قال له المقاول:
- لا تعد للعمل بعد اليوم..
قالت له زوجته بأنه ربما اقترف خطأً ما، فأخبرها بقصة حمله للمونة بنفسه؛ لكنها قالت بأن ذلك أدعى أن يمنحوه ترقية..وسألته:
- هل هناك ترقية في عملكم هذا؟
فسها ببصره كما يفعل دائماً وقال:
- لا أدري..
قالت:
- هل يحصل زملاؤك على نفس الأجر؟
فسها ببصره وأجاب كالمعتاد:
- لا أدري..
في الليل عادت ومعها الطفل فوجدته نائماً، أتصلت بشقيقها:
- يا أخي وشقيقي وحبيبي..
- ماذا هناك..هل من خطب؟..
قالت بهمس:
- لا أعرف العلة ..ولكنني تاخرت كثيراً في طلب الاستشارة هذه من أحد..
ثم انزوت في ركن وقالت:
- مضت ثلاثة عشر عاماً على زواجنا.. أنت قد تعرف ذلك فأنت من قمت بكل متطلبات الزفاف..أما أنا فلا أعرف..ولكنه لا يلاحظ أي شيء في هذا العالم.. إنه لا يلاحظ حتى الفرق بين كوب الشاي والقهوة.. لا يلاحظ اختلاف الجُمل.. إنه ليس مختلاً عقلياً لكنه متبلد قليلاً.. لقد تحملت ذلك طيلة هذه السنوات ومستعدة لأن أتحمل كل سنوات عمري من أجله فأنا أحبه..ولكنني أود فقط أن اعرف ما طبيعة الخلل في عقله؟
جاء صوت شقيقها:
- لا يلاحظ شيئاً؟..
- ولا شيء..ولا حتى الفرق بين النملة والثلاجة..
- أتذكر أنه كان جارنا.. وحتى لا أكذب عليك، فهو لم يخطبك بل فعل أبي ذلك..كان يراه رجلاً هادئاً ورزيناً وشغيلاً بعضلات يده..
- بالفعل هو كذلك.. جسده ما يزال يتمتع ببعض الصحة رغم أنه يقترب من الستين...لكن رزانته ليست رزانة في الحقيقة بل ضعفاً في القدرة على الملاحظة.. إنه لا يعرف إن كان ظالماً أم مظلوماً..لقد سرحوه من العمل اليوم وهو لم يسأل نفسه لماذا تم تسريحه..وطيلة سنوات عمره لم يسأل عما إذا كان يحصل على نفس أجرة زملائه.. البارحة منحوه مبلغاً أعلى بقليل من أجره المعتاد ولكنه لم يلاحظ هذا الفرق..
- الا تتحدثان سوياً يا شقيقتي؟
- نتحدث..
- ماذا يقول؟
- لا يقول شيئاً..لقد ظننت انني لم أمنحه فرصة الحديث لكنني فعلت ذات مرة فاكتشفت بالفعل أنني أنا من كان يتحدث فقط..إنه لا يضحك لأنه لا يملك قدرة اكتشاف المفارقات المضحكة.. أخشى أن يحمل طفلي الذي في بطني الآن هذا المرض..
- لقد نجا ابنك الأول إذاً؟..
- تعرف أنه قد نجا..
- ربما يكون شخصاً غير اكتراثي..أو عدمياً..
- لا أفهم لكنه لا يملك كتلة أفكار مثلك..إنه كالحمار يا شقيقي..يؤدي وظيفته كما يؤمر بها...لا أكثر ولا أقل..
- ولذلك هو عامل جيد..
- ربما..
- هذا شيء محير.. نحن نحترمه لأنه يبدو وقوراً دائماً معنا..على أي حال فالعائلة في المقدمة..
- نعم أنا متمسكة بعائلتي.. هل يمكنك أن تجد له عملاً؟..
- لا أعرف.. لقد قال مالك المحل الذي أعمل فيه أنه بحاجة لعامل في مزرعته لنقل العلف من المخازن إلى الحظائر..
- هذا ممتاز..تأكد ألا يمنح الفرصة لغير زوجي..
- سأفعل..إلى اللقاء..
وحين أطلت برأسها داخل الغرفة وجدته منكمشاً على جسده وجسده يتصبب عرقاً.. اقتربت منه ولاحظت انه نائم ولكنه يهذي أيضاً..وقفت قليلاً ثم مدت راحتها فوضعتها فوق جبينه وأحست بحرارة عالية..
- إنه مريض..
حاولت إيقاظه فارتعش جسده ونهض ليتقيأ ممسكاً بطنه..
- زنجية..زنجية..
كان يهمس..وعيناه زائغتان وقد فقد التركيز تماماً..
- هل هي ملاريا؟..
انتفض فجأة واتسعت عيناه ..
- لا أستطيع التنفس..
قال ذلك ببطء:
- أشعر بالرعب...أنا خائف..
احتضنته وهي تقول:
- ما الذي يخيفك؟
- لا أعرف...لا أعرف..
في الصباح كانت كل نتائج فحوصاته سلبية، ثم أن طبيب امتياز همس لها:
- إذهبي به لطبيب عصبي..
ثم وصف لها عنوان طبيبة محددة ولما بلغاها أخبرتها بأن زوجها مصاب بانهيار عصبي..وكان ذلك خبراً صادماً..
فنظرت إلى وجهه الشاحب وقالت بسخط:
- من هي زنجية؟ اخبرني؟..
رفع عينيه الخائرتين إلى وجهها..ثم عاد فطأطأ رأسه..
نظرت إلى الأفق وقالت بصوت هامس:
- يجب أن تنسى..حاول أن تنسى..إن الماضي لا يعود..
فحدق في الأفق وسمع صوت غناء الأطفال:
(ولدنا أوفياء وتعلمنا الخيانة..
ولدنا أبرياء وتعلمنا الخبث..
ولدنا محبين فتعلمنا الكره..
ولدن...)...

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى