عبر ( 37 ) نصا شعريا بالعامية المصرية، قدم لنا محمود رمضان تجربة شعرية جديدة، جديرة بالتوقف عندها، والتأمل فيها، فالشاعر صاغ تجربته في شكل جديد، ألزم نفسه به في كل نصوصه، فيستهل كل نص بالحرف " لو " وهو من حروف الشرط، ويقتضي جملتين إحداهما مرتبة على الأخرى، ولا أريد من البداية أن أعيد ماسبق دراسته في كتب النحو، وللمزيد : أحيل القارئ إلى رسالة دكتوراه للدكتور محمد حسانين بعنوان " أوجه استعمال لو في الأساليب العربية "، وحصل عليها الباحث في جامعة " لاهور " عام 1978م، ويمكن للقارئ أن يطالعها على العديد من المواقع ومنها موقع مجمع اللغة العربية.
والشاعر أفاد أيضا من الحرف" لو " ومن استعمالاته ووظائفه في علمي المنطق والرياضيات، حيث في المنطق نبدأ بالفروض ثم نصل إلى النتائج، مقدمات صحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة غالبا، وهو ما يعرف في الرياضيات هي الأخرى : " بما أن .... إذن ... "
فالشاعر اختار أن يبدأ كل نص من نصوصه بالحرف " لو" ثم يفرض فروضه ويحكي حكاياته أو يبثنا شجونه وأحلامه وانكساراته أو .. أو .. ومن ثم يصل من خلال هذه الفروض / المقدمات إلى نتائج، وهذا الشكل الذي لجأ إليه الشاعر بالنسبة لي على الأقل جديدا، وهو خروج وتمرد على الأشكال الشعرية المتوارثة والحديثة، فهل لجأ إلى هذا الشكل عمدا، أم فرضته أسباب موضوعية؟.
الشعر تعبير عن نبضات القلب وفيوضات الروح، لغة القلب، أما النثر لغة العقل، وثنائية القلب والعقل حاضرة بقوة في نصوص الشاعر، وكذلك ثنائية الحياة والموت، والواقع والخيال / الوهم، والطبيعة وما وراء الطبيعة، الشاعر بطل النصوص كلها يثير أسئلة كبرى، وجاءت لغته شعرية خالصة عندما يخاطب الوجدان، ونثرية عندما يخاطب العقل، وتأرجحت بين الشعرية والنثرية في حالات تأرجحه بين العقل والقلب، والصراع بينهما.
محمود رمضان يقدم لنا أزمته وأزمة أبناء جيله وأزمة وطنه، وكأنه يقدم لنا سيرة إنسان / جيل / وطن، وسيرة الشعر أيضا، وربما يكون أجمل ما في هذه السيرة هو محاولة البحث عن أزمة الشاعر الإنسان، وأزمة الشعر نفسه، وأزمة الوطن، والبحث عن طوق نجاة، وربما هذا ماجعله يغير من أدواته، ويبدل وسائله، ويطرح لنا هذا الشكل، الذي يقترب من صرامة ودقة المنطق والفلسفة والعلم، وهذا الشكل جاء من الرحابة بحيث يسمح للشاعر أن يعبر عن عاطفته ووجدانة بحرية، ولكن دون اسهاب أو إطناب، وسنحاول في هذه العجالة أن نقترب أكثر وأكثر من الشاعر ونصوصه، وما تثيره من قضايا موضوعية وفنية.
.......
الشاعر في كل نص ينقل لنا تجربة حياتية أو إنسانية أو اجتماعية أو سياسية، ولا يقدمها بضمير الأنا، ولكنه يقدمها بضمير المخاطب، وكأنه يلجأ إلى حيلة وخدعة تبادل الأدوار، بينه وبين القارئ، فبعد كلمة لو ... يخاطب القارئ، فأنت أيها القارئ لو رأيت كذا ..، أوسمعت كذا ..، أوحصل لك كيت وكيت ..، ماذا أنت فاعل؟
والشاعر يضع عدة حلول أمام القارئ ولا يفرض عليه حلا أوحد، وكأنه أفاد من علم الاحتمالات، فيضعها كلها أمام القارئ فهو يثير عقله كما يثير وجدانه، ويدفعه دفعا لإعمال العقل، والتفكير، ليختار بين بدائل واحتمالات، فالشاعر قد وصل إلى كل الاحتمالات الممكنة، وقلّب القضية أو المشكلة على كل الجوانب، ونظر إليها من كل الزوايا، ونجح بمهارة في إثارة العقل والوجدان معا، وبنفس الدرجة، ووازن بينهما توازنا جميلا ومدهشا.
.....
شهوة الاصلاح :
أزمة الشاعر الحقيقية هي حلمه في تغيير العالم والكون، ولا يملك غير قلمه، فنور الحرية مسجون، والناس استسلمت للعبودية، فيقول :
( لو ...!!
واقف مستني النور
المسجون جوه سواد الليل
والكل مسلم للعبودية
بيوطي يبوس على إيد الغول )
فالشاعر هنا ينشد الحرية، وينتقد سلبية الناس التي استسلمت للعبودية، وبدلا من أن ينحنوا لله ينحنوا للغول، بل يتسابقون لتقبيل يد من سلبهم الحرية.
وينتقد بعض أمراض المجتمع الأخلاقية :
( وحرامي بيسرق
قوت أهله
مش فارق معاه )
فيرى الشاعر :
( الكل اتحول أشباح )
أما هو فيقول عن نفسه :
( ولوحدك شايل
هم البشرية
وما حدش حاسس بيك )
وبعد عرض القضية والأزمة يضع أمام القارئ أكثر من حل أو احتمال، فيسأل لو تبادلنا الأدوار وأنت مكاني، هل؟ ..
1 - تبيع القضية وتنسى ما تنادي وتحلم به :
(ح تحاول يوم تنساهم
عشان يسيبوك )
وترك لنا فضاءات واسعة للتأويل، فلن يتركوك إذا استمررت في مقاومتهم ورفض ممارستهم للقهر والذل، وسرقة أقوات الناس، إذا اخترت طريق المقاومة والاصلاح فعليك أن تقرأ العواقب جيدا وتكون مستعدا لها,
2 - ولا تفكر تكتب شعر؟
وأغلب الظن سيكون الشعر الذي ترضى عنه السلطة.
3 - ولا تكمل جوه الوهم؟
.....
ومن أجواء إحدى القصائد الجياد التي تناولت قضية الحرية من منظور الشاعر المعاصر :
( لو ..!
كان الخيط في إيديك مشدود
والطياره القزاز بتشد معاك
عايزه تروح لبعيد
عايزه تسافر
لهناك ..
ح تفكر تقطع خيط الطيارة
وتسيبها تطير
والا تشوف نفسك
فوق ظهر الطياره
طيار بيطير ..
من غير ما يقيدكوا
خيط في إيدين إنسان
قادر يتحكم في مسارك
ماسك مفاتيح أسرارك
بيوجه رحلة أفكارك )
......
الشاعر كما يقول صلاح عبدالصبور يملك شهوة الإصلاح، وشاعرنا يريد تغيير العالم والكون إلى الأفضل، يقاوم القبح والفساد ويسعى إلى سيادة الخير والحق والجمال والعدل.
فالشاعر لم يحتمل قلبه الرقيق خيانة الأصدقاء له، وهو كان لهم الصاحب والخل الوفي، وآياديه ممدودة لهم بالخير، فأصاب قلبه العطب.
( وف لحظة صابك المرض
قلبك تعب
شرايين فؤادك سدها
جشع الغراب واللعوب والسرسري )
ويوقفنا على تجربة مرضه بالقلب :
( فهربت منهم لحضن الطبيب المؤتمن
لجل يعملك قسطرة
وتركيب دعاماتك الأربعه
فسديت بيبانك كلها )
.....
يبدو لي الشاعر أحيانا مثل " دون كيشوت " يحارب طواحين الهواء، أو كما رموه بأنه حصان من ورق، فلماذا معاركه قبل أن تبدأ خاسرة؟
الشاعر آمن بقضيته، ويدافع عنها، ويفضح من باعوه وخانوه، وتركوه في الميدان وحيدا.
( أيوه كتير وياك
بس مفيش حد بيسند ضهرك )
( وانت لوحدك
ومالكش صديق )
......
ويشعر الشاعر بالهوة تتسع بينه وبين البشر، وأنه في واد وهم في واد آخر، وعلى أعينهم عصابة تجعلهم لا يرونه جيدا، وغير قادرين على معرفة قلبه الأخضر، الذي يسعهم، ويسع جميع الموجودات.
( ما شافوش الورد اللي مفتح
ومزهر من حواليك
وأن جناين روحك
منشورة فوق حبل الخير
ومشابك قلبك
شابكة الكل في عود الفل )
.....
الشاعر النبي.
ويرفع محمود رمضان من قدر الشاعر إلى عنان السماء، ويرفعه إلى مقام الأنبياء.
( لو ..!
هربان في ضلمة ليل
وماسك حلمك في إيديك
اتوضى برزاز الروح
واقفل قلبك ع المساكين
تصبح نبي في زمن البلا )
فالشاعر الحقيقي هو صاحب القضية وصاحب المبدأ :
( الكل باع وانت لوحدك تشتري
طول عمرك على عرش العطا
ضد النفاق
ضد الرياء والأغنيا )
فالشاعر للفقراء يمثل الدفء والأمان والعطاء.
( نحتاج دفا تصبح دفا
نحتاج أمان نلقى حضنك ضمنا
وانت العطا في الزمن البخيل )
......
الشاعر والجن.
الشاعر في نومه تفزعه الكوابيس، ويرى الجن فيظهر له على صورة وحش هستيري مرة، ومرة أخرى يظهر له في هيئة كلاب أقزام.
( لو ..!
قمت من النوم فجأة
على صوت تشخير مش عادي
صوت جامع بين صوت إنسان
وأنين وحش سجين بينادي
وحاولت تزحزح كوعك
اللي ما بين وشك والصوت
وكأنك بتصارع لجل تعيش
ل تموت ..! )
وصورة كابوسية أخرى :
( وظهر لك من باب الأوضه المفتوح
على نور الصاله سرب كلاب .. أقزام ..!
وبيجروا يم البلكونه
وما قمتش من نومك
ولا راح الصوت
إلا اماقريت آية الكرسي
بصوت بيطلع في الروح )
فالشاعر يأخذنا إلى عالم ما وراء الطبيعة ( الميتا فيزيقا )، يأخذنا إلى هذا العالم الغيبي الذي يرى فيه الجن ويتحاور معه أحيانا,
( تاني مره تشوف الجن بيتحرك قدامك
أيوه شوفته كتير )
......
والشاعر يستدعي قرينه أيضا، فيقول :
( لو ..!
جيت مره قابلت قرينك
ح تلومه
على إنه ما جاش ولا مرة يزورك
ولا شاف إيه ناقص عندك
فيزود هولك
ح تلومه
ولاّ هتجري عليه وتضمه
زي الطفل اللي بيفرح بامه
وح تطلب منه ساعتها
يخدك للكون المنقوش بحروف من نور)
.......
هاجس الموت.
احتل الموت مساحة واسعة من هذا الديوان، والشاعر محاصر بالموت، ومطارد به، فيقول :
( لو ..!
دايما
دايما
بتشوف الموت بعنيك
أيوه بيبقى قريب منك
بس ما بيخلصش عليك
وانت ساعات تتمناه
وساعات تخشاه )
والشاعر يأخذنا في لقطة فارقة :
( لو بعد الموت
قدامك باب مفتوح
على نفس الدنيا
ح تفكر ترجع؟! )
والحس الديني يسيطر على الكاتب، فكأنه يكتب لنا الآية الكريمة " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " شعرا، فيقول :
( لو ..!
قفلت بيبانك
وقزاز شبابيبك
وكمان الشيش
وبقيت لا داخل ولا خارج
خايف من موت متربص لك
في الخارج
وبدأت تكيف نفسك
على إنك في أمان
مع نفسك بتعيش
ونسيت أن الموت
داخل .. داخل ..
عمره ما كان محتاج لمداخل )
....
ويضعنا الشاعر في صورة مفزعة من صور الموت :
( لو ..!
متكبل في الحيط
بكلبشات وسلاسل
وسلاح متوجه ليك
فيه ألف رصاصه
بيبص بارودهم في عنيك
إيه الاحساس اللي يجيك
ح تحاول تتخيل إيه شكل الموت
ولاّ ح تستنجد بالنوم
يمكن لما تنام
ما تحسش بالموت
لكن المره دي ح تموت
مش ح تقوم )
....
والشاعر يحاول أن يفيد من صور العبث والفانتازيا، فيقدم لنا هذا المشهد:
( لو ..!
كنت معدي
والساعة حداشر قبل الضهر
على طرب العيله
ولمحت صوابع طالعه
وبتظهر إيد من تحت الأرض
أنت عارفها
متأكد منها
أيوه دي نفس الإيد
اللي كتير عدت روحها عليك
ياما وقفت حارس وبيحميك )
.....
ومن تجارب العبث والفانتازيا أيضا :
( لو ..!
بصيت من أوراق الشيش
ولقيت الدنيا قصادك
عماله بتجري
على أكل العيش
وف لمح البرق
تتخشب ..
حركة كل الناس
وتلاقي الدنيا جماد
وعباد واقفة كما التماثيل
م بتمشيش
وعرفت ..
إن خلاص مكتوب لك
وحدك في الدنيا تعيش )
....
الصوت واللون.
من القصائد الجياد تلك القصيدة التي تعامل فيها بحس رهيف وشفيف مع الأصوات، صوت القطار، صوت المياه، صوت الضمير، صوت السجين، الغريق، صوت الحقد، ...إلخ.
فالشاعر تستوقفه تلك الأصوات التي قد تمر على الناس دون أن تثير سمعهم، ولكنه الشاعر الذي ينجح في التقاطها، وصهرها ومزجها في داخله وإعادة انتاجها لنا بهذا الشكل الجميل والمبهر.
( وكتير أصوات في الكون بتعدي
على المخاليق
أما أنت ف الصوت ليك صاحب
وخيال .. وطريق .. فيه صوت
كما زحف الحيه
ناعم. كما شعر حصان
فوق جسم كمان
فيه صوت يشبه لطريق بيضيق
أو صرخة سجينه في جوف غرقان
فيه صوت للحقد بيشبه للغليان )
والشاعر ينبهنا إلى ضرورة :
(ح توطي أصوات الضعف اللي مخليك
تسمع أصوات الدمع الواقف ف عنيك
وتعلي في صوت الفجر المسجون في ضلوعك )
.....
وأفاد الشاعر أيضا من مدارس الفن الحديثة، ومن الألوان، وتخليطها، وقدم لنا نصا يحاور فيه الواقع وتحولاته، وترد الحبيبة في هذا النص، كما وردت في نصين آخرين من قبل، ويبدو أن الشاعر نجح في إيقاف الزمن عند الحبيبة في زمن الحب الأول، وصورة الحبيبة التي تخايل الشاعر وتراوده، هي الفتاة الجميلة التي لم تبلغ العشرين منذ التقاها أو رآها لأول مرة، فالشاعر يريد أن يوقف الزمن :
( ولاّ تتشعبط على ساعة الحيط
تمسك عقاربها
يمكن مرة تبطل لف
أو تتحرك بشويش )
وحلم الشاعر في الاقتران بالحبيبة يبدو أنه لم يتحقق.
( حلمك طال
عمال بينقط
مسك وعنبر
يرسم براويز جوه الحيط
فيها حبيبتك بنت العشرين
اللي ما بتكبرش )
وصورة الحبيبة عند هذا السن هي المحتفظ بها الشاعر في القلب، ويعتمد على الألوان ويقدم لنا نصا، يتجادل فيه مع كل لون ودلالته ومع الحبيبة واللون المناسب لها، وتتجادل الألوان كلها وتتصارع.
( الأخضر كان أنسب لون للكون
ولآخر خط في وش حبيبتك )
أما لماذا لم يكن الأبيض أو الموف أو الأزرق أو .. أو ..؟
( الأبيض لون الطيبه
عانت منها كتير )
( الموف لون حب الذات
ياما شال من خيرها راقات )
( وتجرب باللون الأزرق
بس ده لون روحاني
والروح ف وجود الذات
لازم ح تعاني )
ولا يستقر الشاعر على لون، فيلجأ إلى خلط كل الألوان.
( ضرب كل الألوان .. طلع منهم لون
بس دا لون لخبطة الدنيا
لون عالم مجنون )
....
تجربة الشاعر محمود رمضان في هذا الديوان تجربة ثرية، وتحتاج إلى قراءات وقراءات، وأرجو أن توضع هذه التجربة تحت مجهر النقد، وأشكر الشاعر والناقد أحمد إسماعيل إسماعيل أول من تعامل مع هذه التجربة نقديا، وقدم لنا قراءة ممتازة نشرت ملحقة بالديوان، والشكر كل الشكر لشاعرنا الجميل الذي أمتعنا بقراءة ديوانه " لو .. هتفكر ترجع ".، وأرجو أن أكون نثرت ولو قليل من قطرات الضوء على هذا الديوان البديع والماتع.
والشاعر أفاد أيضا من الحرف" لو " ومن استعمالاته ووظائفه في علمي المنطق والرياضيات، حيث في المنطق نبدأ بالفروض ثم نصل إلى النتائج، مقدمات صحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة غالبا، وهو ما يعرف في الرياضيات هي الأخرى : " بما أن .... إذن ... "
فالشاعر اختار أن يبدأ كل نص من نصوصه بالحرف " لو" ثم يفرض فروضه ويحكي حكاياته أو يبثنا شجونه وأحلامه وانكساراته أو .. أو .. ومن ثم يصل من خلال هذه الفروض / المقدمات إلى نتائج، وهذا الشكل الذي لجأ إليه الشاعر بالنسبة لي على الأقل جديدا، وهو خروج وتمرد على الأشكال الشعرية المتوارثة والحديثة، فهل لجأ إلى هذا الشكل عمدا، أم فرضته أسباب موضوعية؟.
الشعر تعبير عن نبضات القلب وفيوضات الروح، لغة القلب، أما النثر لغة العقل، وثنائية القلب والعقل حاضرة بقوة في نصوص الشاعر، وكذلك ثنائية الحياة والموت، والواقع والخيال / الوهم، والطبيعة وما وراء الطبيعة، الشاعر بطل النصوص كلها يثير أسئلة كبرى، وجاءت لغته شعرية خالصة عندما يخاطب الوجدان، ونثرية عندما يخاطب العقل، وتأرجحت بين الشعرية والنثرية في حالات تأرجحه بين العقل والقلب، والصراع بينهما.
محمود رمضان يقدم لنا أزمته وأزمة أبناء جيله وأزمة وطنه، وكأنه يقدم لنا سيرة إنسان / جيل / وطن، وسيرة الشعر أيضا، وربما يكون أجمل ما في هذه السيرة هو محاولة البحث عن أزمة الشاعر الإنسان، وأزمة الشعر نفسه، وأزمة الوطن، والبحث عن طوق نجاة، وربما هذا ماجعله يغير من أدواته، ويبدل وسائله، ويطرح لنا هذا الشكل، الذي يقترب من صرامة ودقة المنطق والفلسفة والعلم، وهذا الشكل جاء من الرحابة بحيث يسمح للشاعر أن يعبر عن عاطفته ووجدانة بحرية، ولكن دون اسهاب أو إطناب، وسنحاول في هذه العجالة أن نقترب أكثر وأكثر من الشاعر ونصوصه، وما تثيره من قضايا موضوعية وفنية.
.......
الشاعر في كل نص ينقل لنا تجربة حياتية أو إنسانية أو اجتماعية أو سياسية، ولا يقدمها بضمير الأنا، ولكنه يقدمها بضمير المخاطب، وكأنه يلجأ إلى حيلة وخدعة تبادل الأدوار، بينه وبين القارئ، فبعد كلمة لو ... يخاطب القارئ، فأنت أيها القارئ لو رأيت كذا ..، أوسمعت كذا ..، أوحصل لك كيت وكيت ..، ماذا أنت فاعل؟
والشاعر يضع عدة حلول أمام القارئ ولا يفرض عليه حلا أوحد، وكأنه أفاد من علم الاحتمالات، فيضعها كلها أمام القارئ فهو يثير عقله كما يثير وجدانه، ويدفعه دفعا لإعمال العقل، والتفكير، ليختار بين بدائل واحتمالات، فالشاعر قد وصل إلى كل الاحتمالات الممكنة، وقلّب القضية أو المشكلة على كل الجوانب، ونظر إليها من كل الزوايا، ونجح بمهارة في إثارة العقل والوجدان معا، وبنفس الدرجة، ووازن بينهما توازنا جميلا ومدهشا.
.....
شهوة الاصلاح :
أزمة الشاعر الحقيقية هي حلمه في تغيير العالم والكون، ولا يملك غير قلمه، فنور الحرية مسجون، والناس استسلمت للعبودية، فيقول :
( لو ...!!
واقف مستني النور
المسجون جوه سواد الليل
والكل مسلم للعبودية
بيوطي يبوس على إيد الغول )
فالشاعر هنا ينشد الحرية، وينتقد سلبية الناس التي استسلمت للعبودية، وبدلا من أن ينحنوا لله ينحنوا للغول، بل يتسابقون لتقبيل يد من سلبهم الحرية.
وينتقد بعض أمراض المجتمع الأخلاقية :
( وحرامي بيسرق
قوت أهله
مش فارق معاه )
فيرى الشاعر :
( الكل اتحول أشباح )
أما هو فيقول عن نفسه :
( ولوحدك شايل
هم البشرية
وما حدش حاسس بيك )
وبعد عرض القضية والأزمة يضع أمام القارئ أكثر من حل أو احتمال، فيسأل لو تبادلنا الأدوار وأنت مكاني، هل؟ ..
1 - تبيع القضية وتنسى ما تنادي وتحلم به :
(ح تحاول يوم تنساهم
عشان يسيبوك )
وترك لنا فضاءات واسعة للتأويل، فلن يتركوك إذا استمررت في مقاومتهم ورفض ممارستهم للقهر والذل، وسرقة أقوات الناس، إذا اخترت طريق المقاومة والاصلاح فعليك أن تقرأ العواقب جيدا وتكون مستعدا لها,
2 - ولا تفكر تكتب شعر؟
وأغلب الظن سيكون الشعر الذي ترضى عنه السلطة.
3 - ولا تكمل جوه الوهم؟
.....
ومن أجواء إحدى القصائد الجياد التي تناولت قضية الحرية من منظور الشاعر المعاصر :
( لو ..!
كان الخيط في إيديك مشدود
والطياره القزاز بتشد معاك
عايزه تروح لبعيد
عايزه تسافر
لهناك ..
ح تفكر تقطع خيط الطيارة
وتسيبها تطير
والا تشوف نفسك
فوق ظهر الطياره
طيار بيطير ..
من غير ما يقيدكوا
خيط في إيدين إنسان
قادر يتحكم في مسارك
ماسك مفاتيح أسرارك
بيوجه رحلة أفكارك )
......
الشاعر كما يقول صلاح عبدالصبور يملك شهوة الإصلاح، وشاعرنا يريد تغيير العالم والكون إلى الأفضل، يقاوم القبح والفساد ويسعى إلى سيادة الخير والحق والجمال والعدل.
فالشاعر لم يحتمل قلبه الرقيق خيانة الأصدقاء له، وهو كان لهم الصاحب والخل الوفي، وآياديه ممدودة لهم بالخير، فأصاب قلبه العطب.
( وف لحظة صابك المرض
قلبك تعب
شرايين فؤادك سدها
جشع الغراب واللعوب والسرسري )
ويوقفنا على تجربة مرضه بالقلب :
( فهربت منهم لحضن الطبيب المؤتمن
لجل يعملك قسطرة
وتركيب دعاماتك الأربعه
فسديت بيبانك كلها )
.....
يبدو لي الشاعر أحيانا مثل " دون كيشوت " يحارب طواحين الهواء، أو كما رموه بأنه حصان من ورق، فلماذا معاركه قبل أن تبدأ خاسرة؟
الشاعر آمن بقضيته، ويدافع عنها، ويفضح من باعوه وخانوه، وتركوه في الميدان وحيدا.
( أيوه كتير وياك
بس مفيش حد بيسند ضهرك )
( وانت لوحدك
ومالكش صديق )
......
ويشعر الشاعر بالهوة تتسع بينه وبين البشر، وأنه في واد وهم في واد آخر، وعلى أعينهم عصابة تجعلهم لا يرونه جيدا، وغير قادرين على معرفة قلبه الأخضر، الذي يسعهم، ويسع جميع الموجودات.
( ما شافوش الورد اللي مفتح
ومزهر من حواليك
وأن جناين روحك
منشورة فوق حبل الخير
ومشابك قلبك
شابكة الكل في عود الفل )
.....
الشاعر النبي.
ويرفع محمود رمضان من قدر الشاعر إلى عنان السماء، ويرفعه إلى مقام الأنبياء.
( لو ..!
هربان في ضلمة ليل
وماسك حلمك في إيديك
اتوضى برزاز الروح
واقفل قلبك ع المساكين
تصبح نبي في زمن البلا )
فالشاعر الحقيقي هو صاحب القضية وصاحب المبدأ :
( الكل باع وانت لوحدك تشتري
طول عمرك على عرش العطا
ضد النفاق
ضد الرياء والأغنيا )
فالشاعر للفقراء يمثل الدفء والأمان والعطاء.
( نحتاج دفا تصبح دفا
نحتاج أمان نلقى حضنك ضمنا
وانت العطا في الزمن البخيل )
......
الشاعر والجن.
الشاعر في نومه تفزعه الكوابيس، ويرى الجن فيظهر له على صورة وحش هستيري مرة، ومرة أخرى يظهر له في هيئة كلاب أقزام.
( لو ..!
قمت من النوم فجأة
على صوت تشخير مش عادي
صوت جامع بين صوت إنسان
وأنين وحش سجين بينادي
وحاولت تزحزح كوعك
اللي ما بين وشك والصوت
وكأنك بتصارع لجل تعيش
ل تموت ..! )
وصورة كابوسية أخرى :
( وظهر لك من باب الأوضه المفتوح
على نور الصاله سرب كلاب .. أقزام ..!
وبيجروا يم البلكونه
وما قمتش من نومك
ولا راح الصوت
إلا اماقريت آية الكرسي
بصوت بيطلع في الروح )
فالشاعر يأخذنا إلى عالم ما وراء الطبيعة ( الميتا فيزيقا )، يأخذنا إلى هذا العالم الغيبي الذي يرى فيه الجن ويتحاور معه أحيانا,
( تاني مره تشوف الجن بيتحرك قدامك
أيوه شوفته كتير )
......
والشاعر يستدعي قرينه أيضا، فيقول :
( لو ..!
جيت مره قابلت قرينك
ح تلومه
على إنه ما جاش ولا مرة يزورك
ولا شاف إيه ناقص عندك
فيزود هولك
ح تلومه
ولاّ هتجري عليه وتضمه
زي الطفل اللي بيفرح بامه
وح تطلب منه ساعتها
يخدك للكون المنقوش بحروف من نور)
.......
هاجس الموت.
احتل الموت مساحة واسعة من هذا الديوان، والشاعر محاصر بالموت، ومطارد به، فيقول :
( لو ..!
دايما
دايما
بتشوف الموت بعنيك
أيوه بيبقى قريب منك
بس ما بيخلصش عليك
وانت ساعات تتمناه
وساعات تخشاه )
والشاعر يأخذنا في لقطة فارقة :
( لو بعد الموت
قدامك باب مفتوح
على نفس الدنيا
ح تفكر ترجع؟! )
والحس الديني يسيطر على الكاتب، فكأنه يكتب لنا الآية الكريمة " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " شعرا، فيقول :
( لو ..!
قفلت بيبانك
وقزاز شبابيبك
وكمان الشيش
وبقيت لا داخل ولا خارج
خايف من موت متربص لك
في الخارج
وبدأت تكيف نفسك
على إنك في أمان
مع نفسك بتعيش
ونسيت أن الموت
داخل .. داخل ..
عمره ما كان محتاج لمداخل )
....
ويضعنا الشاعر في صورة مفزعة من صور الموت :
( لو ..!
متكبل في الحيط
بكلبشات وسلاسل
وسلاح متوجه ليك
فيه ألف رصاصه
بيبص بارودهم في عنيك
إيه الاحساس اللي يجيك
ح تحاول تتخيل إيه شكل الموت
ولاّ ح تستنجد بالنوم
يمكن لما تنام
ما تحسش بالموت
لكن المره دي ح تموت
مش ح تقوم )
....
والشاعر يحاول أن يفيد من صور العبث والفانتازيا، فيقدم لنا هذا المشهد:
( لو ..!
كنت معدي
والساعة حداشر قبل الضهر
على طرب العيله
ولمحت صوابع طالعه
وبتظهر إيد من تحت الأرض
أنت عارفها
متأكد منها
أيوه دي نفس الإيد
اللي كتير عدت روحها عليك
ياما وقفت حارس وبيحميك )
.....
ومن تجارب العبث والفانتازيا أيضا :
( لو ..!
بصيت من أوراق الشيش
ولقيت الدنيا قصادك
عماله بتجري
على أكل العيش
وف لمح البرق
تتخشب ..
حركة كل الناس
وتلاقي الدنيا جماد
وعباد واقفة كما التماثيل
م بتمشيش
وعرفت ..
إن خلاص مكتوب لك
وحدك في الدنيا تعيش )
....
الصوت واللون.
من القصائد الجياد تلك القصيدة التي تعامل فيها بحس رهيف وشفيف مع الأصوات، صوت القطار، صوت المياه، صوت الضمير، صوت السجين، الغريق، صوت الحقد، ...إلخ.
فالشاعر تستوقفه تلك الأصوات التي قد تمر على الناس دون أن تثير سمعهم، ولكنه الشاعر الذي ينجح في التقاطها، وصهرها ومزجها في داخله وإعادة انتاجها لنا بهذا الشكل الجميل والمبهر.
( وكتير أصوات في الكون بتعدي
على المخاليق
أما أنت ف الصوت ليك صاحب
وخيال .. وطريق .. فيه صوت
كما زحف الحيه
ناعم. كما شعر حصان
فوق جسم كمان
فيه صوت يشبه لطريق بيضيق
أو صرخة سجينه في جوف غرقان
فيه صوت للحقد بيشبه للغليان )
والشاعر ينبهنا إلى ضرورة :
(ح توطي أصوات الضعف اللي مخليك
تسمع أصوات الدمع الواقف ف عنيك
وتعلي في صوت الفجر المسجون في ضلوعك )
.....
وأفاد الشاعر أيضا من مدارس الفن الحديثة، ومن الألوان، وتخليطها، وقدم لنا نصا يحاور فيه الواقع وتحولاته، وترد الحبيبة في هذا النص، كما وردت في نصين آخرين من قبل، ويبدو أن الشاعر نجح في إيقاف الزمن عند الحبيبة في زمن الحب الأول، وصورة الحبيبة التي تخايل الشاعر وتراوده، هي الفتاة الجميلة التي لم تبلغ العشرين منذ التقاها أو رآها لأول مرة، فالشاعر يريد أن يوقف الزمن :
( ولاّ تتشعبط على ساعة الحيط
تمسك عقاربها
يمكن مرة تبطل لف
أو تتحرك بشويش )
وحلم الشاعر في الاقتران بالحبيبة يبدو أنه لم يتحقق.
( حلمك طال
عمال بينقط
مسك وعنبر
يرسم براويز جوه الحيط
فيها حبيبتك بنت العشرين
اللي ما بتكبرش )
وصورة الحبيبة عند هذا السن هي المحتفظ بها الشاعر في القلب، ويعتمد على الألوان ويقدم لنا نصا، يتجادل فيه مع كل لون ودلالته ومع الحبيبة واللون المناسب لها، وتتجادل الألوان كلها وتتصارع.
( الأخضر كان أنسب لون للكون
ولآخر خط في وش حبيبتك )
أما لماذا لم يكن الأبيض أو الموف أو الأزرق أو .. أو ..؟
( الأبيض لون الطيبه
عانت منها كتير )
( الموف لون حب الذات
ياما شال من خيرها راقات )
( وتجرب باللون الأزرق
بس ده لون روحاني
والروح ف وجود الذات
لازم ح تعاني )
ولا يستقر الشاعر على لون، فيلجأ إلى خلط كل الألوان.
( ضرب كل الألوان .. طلع منهم لون
بس دا لون لخبطة الدنيا
لون عالم مجنون )
....
تجربة الشاعر محمود رمضان في هذا الديوان تجربة ثرية، وتحتاج إلى قراءات وقراءات، وأرجو أن توضع هذه التجربة تحت مجهر النقد، وأشكر الشاعر والناقد أحمد إسماعيل إسماعيل أول من تعامل مع هذه التجربة نقديا، وقدم لنا قراءة ممتازة نشرت ملحقة بالديوان، والشكر كل الشكر لشاعرنا الجميل الذي أمتعنا بقراءة ديوانه " لو .. هتفكر ترجع ".، وأرجو أن أكون نثرت ولو قليل من قطرات الضوء على هذا الديوان البديع والماتع.