فوقَ الرّصيفِ ، جَلَست تَجترّ همومها في صمتٍ كصمتِ الموتى ، ليست كأترابِها اللاتي تناثرن بين الطُرقاتِ ؛ يَعتَرضن المَارّة ، في سَخفٍ واِلحَاح ، من بعيدٍ تلتمعُ عيناها كقطرِ النّدى الوضّاء ، رغم اسمالها المُهلهلة ، تستجلي من الوهلةِ الأولى أنقاض نعمة عابرة ، وبصيص من كرامةٍ ذاهبة ، رأيتها لأولِ وهلةٍ تفترشُ الأرضَ إلى جوارِ المقهى ، ترمقُ السّماءَ بعينينِ حالمتين ، تفيضان وداعة ولطفا ، تشيع على قسماتها ابتسامة كئيبة خرساء ، تقدّمت مني على استحياءٍ ، تُشرِقُ بوجهها ، مدّت يدها النّحيلة ترتعش ، في جزعٍ وتردد، قائلة : حاجة لله يا بيه .
جعلت أُطالعُ في سكونٍ هيئة الملاك المُهمل أمامي، وقد رسبت في قرارةِ نفسي حُثالة من الألمِ ، ووخز الضّمير ، احملقُ في غيرِ فتورٍ أو ملل ، حرّكت يدي في هدوءٍ ؛ انتزعُ قطعة العملة ، دفعتها إليها في تحنّنٍ ، طفحَ وجهها بِشرا ، تحيطني بهالةٍ من بسماتها اللّطاف ، مضت تيّاهة تتخطّر في سعادةٍ ، وعلى شفتيها تُصلصل الضحكات ، ثم انخرطت مع أقرانها في حديثٍ هامسٍ ، كان منظرها قد غزا مناطق تفكيري ، عُدتُ إلى البيتِ مشدوها بما جرى ، قضيتُ ليلة ليلاء ، مهتاج النّفس لا املك لأوصالي من قرارٍ ، يلفني صمت وسهوم ، ينفض عني فتور المنام ، اتقلّبُ على جمرٍ حتى لاحت طلائع الفجر ، وانصدعَ عمود الصُّبح ، طوعا قصدت المقهى ، لحظات واقبلن في مرائي البؤسِ والشّحاذة ، فيهن الفتاة بدت متعبة منهوكة ، جاهدت كي تتحاشى نظراتي الوجلة ، وعلى حينِ فجأةٍ جعلَ القلقُ يضطرِبُ في ناظريها ، لم اترك لها من خَيارٍ ، امسكت بيدها المعرّقة ، قالت بشيءٍ من التّهيبِ : لم افعل شيئا يا بيه صدقتي ! ، دفعت إليها قطعة النّقد ، انجاب الشّكّ عن فؤادها ، وعاد إليها رواؤها وحسن سمتها ، هكذا مرّت الأيام بيننا ، حتى توطّدت الأُلفة بيني وبينَ الشّريدةِ ، لكنّها ظلّت في نظري موضع الرِّيبة، ومَثارَ الشّك ، حتى عرفت أنّها سليلة أسرة كريمة قعدها الدّهر ، غافلتها ذاتَ مساءٍ ، حتى خبرت مكمنها ، راعتني الصّدمةُ ، لقد كانت فتاتي ابنة لأرملةٍ من أعرقِ البيوتِ ثراءً ، هَرَبت من بيتِ أسرتها ؛ لتتزوّج من ابن البستاني ، اسَدلَ الزّمن عليها سَجفه وحُجبه ، ولمّا ذهبَ عني الرّوع ، عُدتُ أدراجي هائما في الطُّرقاتِ بلا هدايةٍ ، أبكي تصاريف الزَّمن العمياء ، واندِب حَظَّ المُحبين العاثِر .
محمد فيض خالد / مصر
جعلت أُطالعُ في سكونٍ هيئة الملاك المُهمل أمامي، وقد رسبت في قرارةِ نفسي حُثالة من الألمِ ، ووخز الضّمير ، احملقُ في غيرِ فتورٍ أو ملل ، حرّكت يدي في هدوءٍ ؛ انتزعُ قطعة العملة ، دفعتها إليها في تحنّنٍ ، طفحَ وجهها بِشرا ، تحيطني بهالةٍ من بسماتها اللّطاف ، مضت تيّاهة تتخطّر في سعادةٍ ، وعلى شفتيها تُصلصل الضحكات ، ثم انخرطت مع أقرانها في حديثٍ هامسٍ ، كان منظرها قد غزا مناطق تفكيري ، عُدتُ إلى البيتِ مشدوها بما جرى ، قضيتُ ليلة ليلاء ، مهتاج النّفس لا املك لأوصالي من قرارٍ ، يلفني صمت وسهوم ، ينفض عني فتور المنام ، اتقلّبُ على جمرٍ حتى لاحت طلائع الفجر ، وانصدعَ عمود الصُّبح ، طوعا قصدت المقهى ، لحظات واقبلن في مرائي البؤسِ والشّحاذة ، فيهن الفتاة بدت متعبة منهوكة ، جاهدت كي تتحاشى نظراتي الوجلة ، وعلى حينِ فجأةٍ جعلَ القلقُ يضطرِبُ في ناظريها ، لم اترك لها من خَيارٍ ، امسكت بيدها المعرّقة ، قالت بشيءٍ من التّهيبِ : لم افعل شيئا يا بيه صدقتي ! ، دفعت إليها قطعة النّقد ، انجاب الشّكّ عن فؤادها ، وعاد إليها رواؤها وحسن سمتها ، هكذا مرّت الأيام بيننا ، حتى توطّدت الأُلفة بيني وبينَ الشّريدةِ ، لكنّها ظلّت في نظري موضع الرِّيبة، ومَثارَ الشّك ، حتى عرفت أنّها سليلة أسرة كريمة قعدها الدّهر ، غافلتها ذاتَ مساءٍ ، حتى خبرت مكمنها ، راعتني الصّدمةُ ، لقد كانت فتاتي ابنة لأرملةٍ من أعرقِ البيوتِ ثراءً ، هَرَبت من بيتِ أسرتها ؛ لتتزوّج من ابن البستاني ، اسَدلَ الزّمن عليها سَجفه وحُجبه ، ولمّا ذهبَ عني الرّوع ، عُدتُ أدراجي هائما في الطُّرقاتِ بلا هدايةٍ ، أبكي تصاريف الزَّمن العمياء ، واندِب حَظَّ المُحبين العاثِر .
محمد فيض خالد / مصر