د. أبوزيد بيومي - الخَفِيُّ والجَلِيُّ في حكايات "كليلة و دمنة"

نظرا لطبيعة الإنسان التي تأنف ـ في كثير من الأحيان ـ أن تقبل النصح والمراجعة المباشرة ؛ نجد أن البعض يتلطف في توجيه نصحه ، و ذلك بتعريض مقاصد الكلام ، من خلال ترميز دلالاته ، ليصيب مطلوبه بطريقة غير مباشرة و ذلك ببسط المعاني وتعميم الدلالات . و قد قالوا قديما " في التعريض مندوحة عن التصريح " ، و كان النبي ـ عليه الصلاة و السلام ـ يتلطف مع أصحابه حين يجد في أحدهم ما يستوجب النصح فيقول " ما بال أقوام يفعلون كذا و كذا .... " ، فهو يوجه صاحب الفعل إلى الصواب ـ من ناحية ـ ، رافعا الحرج عنه من ـ ناحية أخرى . و قد تكون هذه الطريقةُ مُلحّةً حين يستوجبها مقام الخطاب ، خاصة عندما يكون المخاطَبُ صاحبَ سطوة و شوكة ، فيكون التلطف معه أوجب مما لو كان مع غيره . و يبدو أن هذه الطريقة هي مشترك إنساني موجود في الثقافات جميعها ؛ فهي ليست مقصورة على زمن دون غيره ، ولا على ثقافة دون سواها ، بل كانت مركبا أساسيا في أقوال الفلاسفة والحكماء الذين لجأوا إلى تعميم الأحكام بما يجعلها متوافقة مع كل زمان ومكان . فالمقدمات المتشابهة لابد و أن تفضى إلى نتائج متشابهة ، فلا يكون استشراف الأحداث ـ حينئذ ـ ضربا من ضروب الغيب ، بل يصبح معلوما بالضرورة ، عندما يكون الحاضر مشابها لحاضر أقوام سبقوا . فيكون حاضر السابقين واجب الوجود لوجودٍ صار ممكنا في حاضرِ مَن يأتي بعدهم . مثلما كان هذا الواجب ممكناً لواجبٍ سَبَقه . ومن هنا يكون من الكياسة الأخذ به والقياس عليه طلبا لنفع مُحقَّق ، و دفعا لضرر مُحدِق .
وقد تلطف البعض حين ساق حكمته على ألسنة الحيوان والطير ، من خلال حكايات أصابت النفع والجمال . فالنفع من خلال تَضَمُّنِها خلاصة التجارب الإنسانية التي لا ينضب معينها ، ولا يَخْلَق ثوبُها ، ولا يجف ماؤها على كثرة الواردين و تزاحم الطالبين . أما الجمال فيتمثل في المتعة المتحَصَّلة من طرافة الشكل القصصي الذي تساق من خلاله الأحداث المسلية ، والتي تحمل داخلها الحكمة بصورة مباشرة أحيانا ، وغير مباشرة أحيانا أخرى .
فها هو أيسوب ذلك العبد اليوناني الحكيم الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد ـ و إن كان وجوده موضع شك ـ إلا أن البعض نسب إليه بعض الحكايات على لسان الحيوان ، تلك الحكايات التي تحمل ـ على بساطتها و ضَعف حبكتها ـ إسقاطات بدائية لصنوف من الناس يستنبطها القارئ من صنوف الحيوان ، فصورة الماكر والضعيف والقوي والداهية وصاحب الحيلة .. .. و غيرها من الصور في دنيا الحيوان لها ما يشبهها في دنيا الناس . فالذي يصيبه القارئ من التجارب المطروحة في ذلك العالم المتخيَّل لابد و أن يجد له ما يساويه في عالم الحقيقة ، و لكن يلزمه أن يكون صاحب بصيرة و فطنة ليتمكن من استخراج الحكمة التي نُسجت من أجلها الحكاية . فما سميت الحكاية بهذا الاسم إلا لمحاكاتها للواقع . و إلا فإنه لن يخرج بشيء منها إلا التسلية و بعض الطرافة .
ثم يأتي كتاب " الفصول الخمسة " ـ للحكيم الهندي بيدبا ، والذي نُقل إلى العربية تحت عنوان " كليلة و دمنة " ، وهو الكتاب الأشهر في هذا المجال ـ ليؤكد هذا الاتجاه في توصيل الحكمة المستخلصة من التجارب ، من خلال حكايات أجراها صاحبها على لسان الطير و الحيوان . و هو كتاب قدمه بيدبا للملك دبشليم ، والذي كان في زمان الإسكندر المقدوني في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد . و قد كان دبشليم طاغية ، سار في الناس سيرة غير حسنة ، حتى تصدى له بيدبا بحكمته ؛ راجيا أن يكون سببا في رَدّه إلى جادّة الطريق القويم . و بعد أن نجح في ذلك ، كتب له هذا الكتاب ليُضَمِّنه خلاصة حكمته ، وقد بنى حكاياته على حوار بينه و بين دبشليم كإطار فني بسيط يجمعها في سياق واحد .
و رغم أن حكايات الكتاب جاءت على لسان الحيوان إلا أن كثيرا منها تضمن لفظة الرجل . والرجل في قواميس المعاني تعني " الذكر البالغ من بني آدم " ، وليس في هذا اللفظ ما يعني أن الخطاب موجه إلى الرجال دون النساء ، بل هو موجه إلى سائر أفراد بني آدم ممن توفرت لديه صفة العقل . وقد جاء في القرآن الكريم ما يوافق ذلك مثل " يا أيها الإنسان .. " ، و" يا بني آدم " ، ... " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " .. من المؤمنين رجال " . وذلك لأن آدم ـ و هو الذَّكَر ـ هو الأصل في خلق بني الإنسان ، و إليه ينسب سائر أفراد النوع من ذكر و أنثى . و هو ما تؤكده السنة النبوية المطهرة في قوله صلى الله عليه و سلم " كلكم لآدم .. ". ولذا فإن لفظة الرجل تكون آكد في الدلالة على أن الخطاب موجه إلى الذكر والأنثى من بني آدم على السواء . كما أن لها دلالة أن الخطاب موجه إلى العاقل ، و هو ما يشير إليه التعريف المعجمي للفظة الرجل ، إذ لا نفع يرجى من الخطاب إن كان موجها لغير العاقل و إن كان من بني الإنسان .
و تعتمد لغة الحكاية في هذا الكتاب على الإسقاط في توصيل المعنى المطلوب ، والإسقاط عملية يتم من خلالها إنزال معاني النص منازل أبعد و أعمق من تلك المنازل التي يبدو عليها ظاهر اللفظ ، وذلك من خلال إشارات تربط الجلي بالخفي ، والمكشوف بالمستور ، و هو باب من أبواب التلطف في توجيه الخطاب الذي يقتضيه المقام ـ كما ذكرنا من قبل .
و حكايات " كليلة ودمنة " تعتمد على الإسقاط من خلال سحب مدلول الحكاية على الواقع من خلال استخلاص الحكمة منها ، فيسهل على الأفراد الأخذ بها إن مَرّوا في حياتهم بأحداث مشابهة لأحداث هذه الحكايات .
و يمكن تصنيف إسقاطات الحكايات في كليلة و دمنة ـ تبعا لدرجة الكشف عن المعنى فيها ـ إلى أصناف ثلاث : إسقاط خفيّ ، و إسقاط جليّ ، و إسقاط مقلوب . و يعتمد ذلك التصنيف على الطريقة التي ذُكرت بها ألفاظ ٌ كـ " رجل ، و عاقل ، و إنسان .. " و غيرها من الألفاظ الدالة على أن المقصود من الحكاية هو الإنسان دون غيره ، مع مجيء الحكاية على لسان الحيوان ، أو مع مجيئها على لسان الإنسان و يكون أبطالها من الحيوان ، أو أن يكون أبطالها من بني الإنسان و يكون القاص داخل الحكاية من بني الحيوان .
فمن القصص التي جاء فيها الإسقاط خفيا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تلك القصة التي جاءت على لسان دمنة حين تقرَّب من الأسد ، و كان الأسد قد أخافه صوت لم يألفه ، و كان الصوت لـ " شَتْربَة " الثور ، فأراد دمنة أن يطمنئه أن ْ " ليس مِن كل الأصوات تجب الهيبة ". ثم قص عليه قصةً يؤكد له بها ذلك المعنى . فقص عليه قصة الثعلب الذي أتى شجراً كثيفا معلقا عليه طبل يحدث صوتا كلما هبت الرياح عليه ، فأيقن الثعلب في نفسه بكثرة الشحم واللحم ، فلما شق جوفها رآه أجوف لا شيء فيه . قال : " لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتا ، وأعظمها جثة " . وكذلك قصة الثلاث سمكات التي توانت إحداها عن إيجاد المخرج قبل وقوع الخطر ، بينما تمكنت صاحبتاها " الكيِّسة والأكيس منها " من الهرب لأنهما اجتهدتا في الأخذ بأسباب النجاة عند استشعار الخطر . فلما سُدّ عليها الطريق قالت : " فرَّطتُ و هذه عاقبة التفريط " . فهاتان الحكايتان وما شابههما من الحكايات يأتي فيها الإسقاط خفيا يستنبطه القارئ من أحداثها . حيث لم تدخل فيها ألفاظ تخالط السياق كلفظة رجل أو إنسان أو عاقل ... بل كان البطل فيها حيوانا أو طيرا ، أنطقه المؤلف بالحكمة المعبرة عن حاله هو كحيوان داخل الحكاية .
أما الإسقاط الجلي وهو النوع الثاني ؛ الذي يُفصح فيه بيدبا عن مقصوده في ثنايا الحكاية . فهو يورد الحكاية ـ مثل معظم حكايات كتابه ـ على لسان الحيوان ، إلا أن سياق بعض كلام أبطال حكاياته من الحيوان يأتي متضمِّنا تلك الألفاظ التي سبقت الإشارة إليها ، مثل " رجل ، إنسان.. إلخ ، بطريقة تكشف البعد الإنساني لحكاياتٍ جاءت على لسان غير الإنسان من المخلوقات . فيكون الإسقاط جليا ـ من هذه الوجهة .
من ذلك ـ مثلا ـ الحوار الذي دار بين كليلة و دمنة حين أراد دمنةُ أن يوقع بين الأسد و الثور بعد أن احتل الثور مكانةً عند الأسد حسده دمنةُ عليها . جاء في هذا الحوار قول كليلة : " فراجع عقلك ، واعلم أن لكل إنسان منزلة وقدرا ، فإن كان في منزلته التي هو فيها متماسكا كان حقيقا أن يقنع " . نلاحظ أن الحوار ـ هنا ـ بين حيوانين ، إلا أن لفظة " إنسان " جعلت مقصود الكلام جليا ، و أن كليلة و دمنة ما هما إلا قناعان للمؤلف يسوق من خلالهما المعنى المطلوب . وقد جاءت عبارات شبيهة سيقت على لسان الحيوان في عدد من الحكايات والمواقف ؛ كقول المؤلف على لسان دمنة : " فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يُبطل حقا أو يُحق باطلا لفعل " . و كقوله على لسان كليلة في الحوار ذاته : " و قد قالت العلماء إن أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج ، ولا يسلم منهن إلا قليل ، وهي : صحبة السلطان ، وائتمان النساء على الأسرار ، و شرب الخمر للتجربة " . هذه النماذج وغيرها تفصح عن الغرض الذي من أجله وضع بيدبا كتابه و تجعله جليا لا يخفى على ذي عقل و نظر ، حيث يرتفع بكتابه من مواطن التسلية والسَّمر ، إلى مراتب الحكمة والعبر .
ثم يأتي الإسقاط المقلوب ليقدم شكلا مختلفاً عن أشكال الحكاية الواردة في هذا الكتاب ؛ وهي حكايات يكون أبطالها من الحيوان ، و في ثناياها يقوم أحد الحيوانات بتقديم حكمة أو عبرة لحيوان مثله ، من خلال حكاية ٍ أبطالُها من بني البشر . و هنا تسير الأحداث في اتجاه مقلوب . فالذي يقوم باستخلاص الحكمة ـ هنا ـ هو الحيوان ، ويستخلصها لحيوان مثله . بينما يكون الإنسان ـ على غير ما هو معتاد ـ في موقع المُعتبَر منه ، والمُتَمَثَّلِ به . كل ذلك يتم في جزء من الحكاية الأصلية التي أبطالها من الحيوان ، بينما تأتي القصة التي أبطالها من بني البشر جزءاً أو فرعاً منها . و لكن عندما تنتهي الحكاية الأم تعود الأمور إلى نصابها الأصلي ، فترجع مهمةُ استخلاص المعني إلى القارئ أو المسمتع للحكاية . ومن الحكايات التي جاء فيها الإسقاط مقلوبا تلك الحكاية التي رواها كليلة لدمنة ليبين له عاقبة الخيانة . وهي تدور حول رجلين كانا شريكين في تجارة ، أحدهما مخادع ، و الآخر مغفل . حيث وجد ذلك المغفل كيسا فيه ألف دينار ، واتفق مع صاحبه على اقتسام المال . ولكن أراد ذلك المخادع أن ينفرد بالمال ، فدبر حيلة ليتم له ذلك ، حيث اتفق مع صاحبه المغفل على أن يدفنا المال في مكان تحت شجرة ، على أن يأخذ كلاهما من نصيبه عند الحاجة . ثم قام المخادع بسرقة المال ، و فوق ذلك قام باتهام المغفل بالسرقة . ولما احتكما إلى قاضي المدينة ، كشف القاضي ـ من خلال حيلة احتالها ـ عن شخصية السارق ، و عوقب المخادع بالضرب والصفع ، بينما كان المال كله من نصيب صاحبه المغفل . ثم عقّب كليلةُ على الحكاية بقوله : " و إنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الخب ( المخادع ) و الخديعة ربما كان صاحبهما هو المغبون " .
ففي هذه الحكاية وما شابهها من الحكايات نجد أن الحيوان هو من يتمثل بأحداث وقعت مع أشخاص من بني الإنسان ، و من ثم ينقلب اتجاه المثل من كونه موجها إلى العاقل من الناس ، ليصبح موجها إلى حيوان يراد توجيهه أو وعظه داخل الحكاية .
ولكن يمكن تصنيف مثل هذه الحكايات في باب الإسقاط الجلي ، لأن أبطالها من بني الإنسان ، و لأن المثل في النهاية مضروب ليأخذ به شخصٌ يعقل الحكمة من وراء الحكاية ، إذ هو المقصود على كل حال من الخطاب المتضمن داخلها .
و هكذا فإنّ حكايات كليلة و دمنة بإسقاطاتها ـ على اختلاف أشكالها و صورها ـ تُعَدُّ حكايات تعليمية ، تركز على الجانب الأخلاقي ، من خلال تقديمه في صورة فلسفية ، تعتمد على رمزية الحكاية ؛ تلك الرمزية التي تُمَكِّنُ القارئ من تعميم أحكامها ، فتكون صالحة لكل زمان و مكان .


# أبوزيد بيومي


الوعي الإسلامي (مارس 2017)




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى