كان المكتب مزدحماً بما فيه،صعبة هي البدايات،تلامست أطراف المكاتب واستدارت مع استدارة الجدران، وبقي ذلك الفضاء الصغير الذي يسمح فقط بالدخول من الباب، كان زياد مطرقاً، متّكئاً بمرفقه على سطح المكتب، وساعِدُهُ مرفوع وقلمه بين أصابعه كأنه صورة تجمّدت في لقطة، ولكنه نبس أخيراً موجها خطابه للزّجال الذي انتدبناه ليكتب أغاني حماسية، مستفسراً منه عما إذا كانت قريحته قد جادت بشيء، ولكنّ الأخير انتفض محتجّاً مستثيراً دهشة الجميع الذين حدّجوه بنظرة استغراب موحدة:
-لن أكتب شيئاً حتى تأتوني كما وعدتم بترجمة للأغاني الثورية الفيتنامية،أحذّركم ليس الشعر،الأغاني والأهازيج،علينا أن نستلهم الثورات الأخرى!
رفع زياد حاجبيه دهشة وكان على وشك أن ينفجر في وجهه حين غمزته بطرف عيني فصمت،ووجهت كلامي إلى الزجّال العتيد:
- طلبك عندي،أنا سأترجم لك بعض الاغاني الفيتنامية الثورية!
أدار ظهره لنا وهو يتهيّأ للمغادرة،ثم التفت من فوق كتفه معلناً:
:لا تتوقعوا أن اكتب أغاني على طريقة"هبت النار من راس السيجارة"!
وانتفض مغادراً!
وبعد أن اطمأننا إلى أنه ابتعد كفاية ،همس لي زياد وهو يميل نحوي مقرباً رأسه:
-ومن أين ستاتي لهذا المجنون بأغاني فيتنامية؟
-لا عليك! هذي عندي!
في الحقيقة فقد قررت بيني وبين نفسي،أن أؤلف من عندي أهازيج بحيث تبدو لأخينا وكأنها مترجمة عن الفيتنامية،وتفتّق قلمي عن هذه الكلمات:
نحن على وشك الزحف الأخير،لقد انقضت تلك الأيام الصعبة،التي كنّا نطلع فيها لعدوّنا من تحت أقدامه كالجن ونطلق عليه النار،من تحت أعشاب الغابة،إسفلت الشوارع وبطون المستنقعات،الآن أُصغي لوقع أقدام الرفاق ونحن نتقدم نحو "سايغون" بخطى ثابتة في مسيرة الزحف الكبير،الرفيق يان في المقدمة على اليسار وقد رفع طرف قبعته إلى أعلى في زهو، وعلى اليمين الرفيق يوان مطرقاً قليلاً وكأنه يتحسّب مما سيأتي به الغيب،أما أنا فقد كنت على ثقة تامة بأننا على وشك قطف الثمار فقد تفتحت أزهار الدم الحمراء في طول وعرض الوطن وقبيل حلول الربيع بقليل!
طويت الورقة وناولتها لزياد الذي فتحها على مهل ولم تلبث عيناه أن اتسعتا دهشة وارتفع حاجباه وانتصب في مقعده ونطقت عيناه بالتعجب:
- ومن أين ترجمت له هذه القصيدة؟أين عثرت عليها بربك؟
وبكل برود ودون أن يرف لي جفن قلت:
-لم أترجم أي شيء،لقد ألّفتُها بنفسي!يان ويوان ليست أسماء أشخاص أصلاً!إنها عملة!
وبدأ زياد يهتز في مقعده ضاحكاً:
- وهل تظن أن صاحبنا سيقتنع؟
- المسألة ليست مسالة اقتناع يا صديقي،هذه القصيدة"المترجمة "عن الفيتنامية..وغمزت ضاحكاً وأنا أردف:سترفع الغطاء عن العلبة التي حشر رأسه فيها،ستطلق خياله،وهذا هو المهم،إنها مسألة إلهام واستلهام اتصل به ليحضر وسترى!
جلس صديقنا واستوى وهو يقرأ ويعيد القراءة،هزّ رأسه راضياً دون أن ينبس بكلمة،تناول قلمه وبدأ في الكتابة:
طالعلك من تحت وفوق
من جوّا اشجار البرقوق
لاحُطّك حطب وقود
جوّى الطابون المحروق
الدم بيطلع أزهار
نجمة ع جبين الثوار
وفي يوم النصر الموعود
يوم اللي الطفل بيفوق
نمشي وكل الشعب شهود...
نهض من مقعده ومال نحو زياد مسلّماً إياه الورقة،والذي لم يكد يقرأها حتى وثب من وراء المكتب ليهجم عليه معانقاً ومقبّلاً رأسه!
لملم صاحبنا نفسه على عجل مستعداً للمغادرة،وهو يعلن:
- هذه أمانة عندكم،دوروا على ملحّن ،الموسيقا مش شغلتي.
هذه المرة لم يطق زياد الانتظار حتى يبتعد الرجل،استدار نحوي،وبكل ما تسع الكلمات من إطراء أعلن لي بملء صوته:
-انت عبقري يا رجل!
نزار حسين راشد
-لن أكتب شيئاً حتى تأتوني كما وعدتم بترجمة للأغاني الثورية الفيتنامية،أحذّركم ليس الشعر،الأغاني والأهازيج،علينا أن نستلهم الثورات الأخرى!
رفع زياد حاجبيه دهشة وكان على وشك أن ينفجر في وجهه حين غمزته بطرف عيني فصمت،ووجهت كلامي إلى الزجّال العتيد:
- طلبك عندي،أنا سأترجم لك بعض الاغاني الفيتنامية الثورية!
أدار ظهره لنا وهو يتهيّأ للمغادرة،ثم التفت من فوق كتفه معلناً:
:لا تتوقعوا أن اكتب أغاني على طريقة"هبت النار من راس السيجارة"!
وانتفض مغادراً!
وبعد أن اطمأننا إلى أنه ابتعد كفاية ،همس لي زياد وهو يميل نحوي مقرباً رأسه:
-ومن أين ستاتي لهذا المجنون بأغاني فيتنامية؟
-لا عليك! هذي عندي!
في الحقيقة فقد قررت بيني وبين نفسي،أن أؤلف من عندي أهازيج بحيث تبدو لأخينا وكأنها مترجمة عن الفيتنامية،وتفتّق قلمي عن هذه الكلمات:
نحن على وشك الزحف الأخير،لقد انقضت تلك الأيام الصعبة،التي كنّا نطلع فيها لعدوّنا من تحت أقدامه كالجن ونطلق عليه النار،من تحت أعشاب الغابة،إسفلت الشوارع وبطون المستنقعات،الآن أُصغي لوقع أقدام الرفاق ونحن نتقدم نحو "سايغون" بخطى ثابتة في مسيرة الزحف الكبير،الرفيق يان في المقدمة على اليسار وقد رفع طرف قبعته إلى أعلى في زهو، وعلى اليمين الرفيق يوان مطرقاً قليلاً وكأنه يتحسّب مما سيأتي به الغيب،أما أنا فقد كنت على ثقة تامة بأننا على وشك قطف الثمار فقد تفتحت أزهار الدم الحمراء في طول وعرض الوطن وقبيل حلول الربيع بقليل!
طويت الورقة وناولتها لزياد الذي فتحها على مهل ولم تلبث عيناه أن اتسعتا دهشة وارتفع حاجباه وانتصب في مقعده ونطقت عيناه بالتعجب:
- ومن أين ترجمت له هذه القصيدة؟أين عثرت عليها بربك؟
وبكل برود ودون أن يرف لي جفن قلت:
-لم أترجم أي شيء،لقد ألّفتُها بنفسي!يان ويوان ليست أسماء أشخاص أصلاً!إنها عملة!
وبدأ زياد يهتز في مقعده ضاحكاً:
- وهل تظن أن صاحبنا سيقتنع؟
- المسألة ليست مسالة اقتناع يا صديقي،هذه القصيدة"المترجمة "عن الفيتنامية..وغمزت ضاحكاً وأنا أردف:سترفع الغطاء عن العلبة التي حشر رأسه فيها،ستطلق خياله،وهذا هو المهم،إنها مسألة إلهام واستلهام اتصل به ليحضر وسترى!
جلس صديقنا واستوى وهو يقرأ ويعيد القراءة،هزّ رأسه راضياً دون أن ينبس بكلمة،تناول قلمه وبدأ في الكتابة:
طالعلك من تحت وفوق
من جوّا اشجار البرقوق
لاحُطّك حطب وقود
جوّى الطابون المحروق
الدم بيطلع أزهار
نجمة ع جبين الثوار
وفي يوم النصر الموعود
يوم اللي الطفل بيفوق
نمشي وكل الشعب شهود...
نهض من مقعده ومال نحو زياد مسلّماً إياه الورقة،والذي لم يكد يقرأها حتى وثب من وراء المكتب ليهجم عليه معانقاً ومقبّلاً رأسه!
لملم صاحبنا نفسه على عجل مستعداً للمغادرة،وهو يعلن:
- هذه أمانة عندكم،دوروا على ملحّن ،الموسيقا مش شغلتي.
هذه المرة لم يطق زياد الانتظار حتى يبتعد الرجل،استدار نحوي،وبكل ما تسع الكلمات من إطراء أعلن لي بملء صوته:
-انت عبقري يا رجل!
نزار حسين راشد