ألف ليلة و ليلة أحمد سعداوي - تأويل السندباد البحري..

هناك "طاقة" دائمة مختزنة في النصوص القديمة، تستخرجها القراءات الجديدة من خلال التأويل، أفكّر بذلك وأنا أطالع المجلّد الثاني من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وتحديداً مع بداية الليلة 537 حيث تبدأ شهرزاد برواية حكاية مصادفة لقاء السندباد الحمّال "البرّي" مع السندباد البحري في بيتٍ بغداديٍّ فارِهٍ، وسماعه منه لحكايات رحلاته العجيبة التي منحته في المحصّلة النهائية حياةً رغيدةً، وجاهاً وعزّاً وثراءً كبيراً.

في المقاصد التي اعتنى بها من نَسَجوا حكايات السندباد البحري كانت غرائبية الرحلات هي بؤرة الجذب للسامع، بما أن النصّ الأصلي كان شفاهياً، وفاعليته في الروي والسماع، لذلك لم يعتنوا كثيراً بالحكاية الإطارية لهذه الحكايات، فهي مجرد مدخل، والراوي والسامع كلاهما في عقدٍ خفيٍّ يبرّر عدم الوقوف طويلاً مع الحكاية الإطارية، فما هي إلا مقدمة لا تعني الشيء الكثير سوى أن تفتح باباً لمغامرات السندباد في لُجَّة البحار ومواجهته لغرائب الأحداث والوحوش وطباع المجتمعات التي يصادفها.

وقد تعزّزت مقاصد هذا "العقد الخفي" لاحقاً بتحويل حكايات السندباد البحري إلى قصص "كومكس" أو أفلام ومسلسلات تلفزيونية ورسوم متحرّكة، فنحن هنا ندخل إلى الرحلات نفسها مباشرةً من دون الحكاية الإطارية، التي رأى صنّاع هذه المنتجات الفنية الحديثة أنها غير ضرورية.

ولكن، استناداً إلى طاقة التأويل، بإمكاننا قلب المعادلة، فتكون الحكاية الإطارية هي الأساس، بينما سلسلة المغامرات العجيبة شيئاً ثانوياً، بمتابعة عناصر ومعطيات موجودة في الليالي العربية نفسها.

تروي لنا هذه الليالي أن السندباد الحمّال جلس صدفةً على مصطبةٍ أمام بابٍ مفتوحٍ لقصر السندباد البحري، ثم قادَهُ الفضول للدخول إلى حديقة القصر وما فيها من نباتات وطيور، ثم تتوالى الأحداث حتى وجَدَ نفسَهُ مدعواً إلى مائدة السندباد البحري، ثم ليكون "جمهوراً" يسمع لحكايات السندباد البحري الغريبة.

إن السندباد البحري شخصٌ معزولٌ خلف حجبٍ من الثراء والخدم والحشم، غير أن عزلته الأكثر آتيةٌ من عدم ثقته بالآخرين، فلا يريد أن يختلط مع الناس ويسير وفقَ ما يُريدون منه، ولكنه مع ذلك يترك بابَهُ مفتوحاً يحمل شذا عطور حديقته وأصوات غناء طيوره، كنوعٍ من المصيدة، لانتقاء من يرغب بمجالسته.

لقد اختار أن يجالس السندباد البرّي، ولو لم يُعجبه لتركه يرحل لحال سبيله من دون دعوة إلى غداء وأكلٍ وشراب، ولكن هذا أيضاً ليس الهدف الأساسي عند السيّد الثري، وإنما البحث عن جمهورٍ يسمع حكايته الغريبة.

من دون أن يشعر؛ يخضع السندباد البرّي الفقير المُعْدَم لسطوة الحكايات لأنه جرى تكريمُهُ بالطعام اللذيذ والشراب وسماع الموسيقى والمغنيّات في قصر السندباد البحري. سيجد نفسه ملزماً بأن لا يعترض على ما في الحكايات من غرابة. سينتظر حتى ينهي السيّد الثري حكاياته ليغادر متحرِّراً من حرج الاعتراض على غرابة الحكايات وعدم واقعيَّتِها، ولكنه سيقول مع نفسه؛ بأن إنصاته المهذَّب، حتى وإن كان من دون تصديق، هو ثمن معقول لكرم هذه الضيافة الاستثنائية، فمن يا ترى من أثرياء بغداد سيُقْدِم على دعوة مماثلة لرجلٍ حمّال رَثّ الثياب والحال؟!

إن غرائبية حكاية السندباد ليست في صعوده على ظهر حوت، أو مصاحبته لطائر الرّخّ، وإنما أن ينتقي صاحباً من عامّة الناس بشكلٍ اعتباطيٍّ، لتنتهي الحكاية بأن يبقيا رفيقَيْن حتى يأتي هادم اللذات ومفرّق الجماعات.

إنها نهاية تعسُّفية لا منطق فيها، وضَعَها راوي الحكايات مثل خاتمة ثابتة لكلّ حكايات الليالي العربية، من دون مراعاةٍ لمناسبة هذه الخاتمة شِبْه الموحّدة مع مقاصد الحكايات المتنوّعة.

أمّا النهاية المسكوت عنها والأكثر واقعية؛ فهي ذهاب السندباد البرّي إلى حال سبيله ما إن انتهى السندباد البحري من سرد حكاياته، لأن هناك بالأصل، وكما قدَّمَتْ الحكاية من البداية، حملاً متروكاً عند باب البيت، هو لأحد زبائن السندباد البرّي، ويجب عليه أن يُوصِلَهُ إليه، وهو ما غفل عنه سارد الحكاية الأصلي.

سيقول السندباد البرّي الحمّال في طريق عودته؛ إن هذا الرجل الثري حصل على ثروته، ولا شكّ، من طريق غير مشروع. لقد عثر على هذه الأموال بضربة حظٍ حسَن، أو أنه كان بالأصل قاطع طريق واستولى على أموال قافلة من التجّار. إن السندباد البحري لا يملك حكايةً شرعيةً لثرائه، ولهذا هو يتوسَّل بصناعة حكاية تبالغ في قدراته الاستثنائية في المغامرة وخوض الصعاب، من أن أجل أن يبرّر ثراءَهُ. ولكنه لا يملك سرد حكاياته الغريبة غير القابلة للتصديق لكلّ من هبّ ودبّ من عامّة الناس، لأنهم لن يصدّقوه، وربما هو فعل ذلك في بداية إقامته في هذا القصر، ثم انفضَّ الناس من حولِهِ لأنهم شعروا بأنه شخصٌ كذّاب ومريب.

ينهمك الخدم في إعداد وجبات الطعام المختلفة على مائدة التاجر البغدادي الثري، وحالما ينتهون من صفّ الصحون وجفنات الثريد وساقية العصائر وكؤوسها، وما اقتطفوه من ثمار الموسم من حديقة القصر الكبيرة، يأمرهم سيّدهم بأن يُعلوا من أصوات الموسيقى والغناء في الحديقة، ويبقى هو على الشرفة من وراء ستار يراقب الفضوليين الذين يجتذبهم صوت الغناء، فيأمر بحركةٍ مِن يدِهِ بطَرْدِ من لا يعجبه مظهره، ويختار في النهاية ذلك الذي يبدو "فريسة" مناسبة لسماع حكاياته الغريبة.

يدخل "فاتح المعمار" [وهو اسم افتراضي] إلى حديقة القصر ويختاره التاجر البغدادي كي يكون ضيفاً على مائدته، وحين يسمع باسم الضيف، يقول صاحبنا التاجر متصنّعاً المفاجأة: أنا أيضاً اسم فاتح، ولكني فاتح البحّار، وليس المعمار، ثم يعاود سرد حكاياته البحرية العجيبة.

يغيّر في الحكايات في كلّ مرّة، يقصّرها أو يَمُطّها، حسب المزاج، وحسب التأثير الذي يراهُ على وجه الضيف السامع، ولكنه في آخر النهار يعرف جيّداً أنه صنع دهشةً لإنسانٍ ما في هذه المدينة. إنسان مكبّل بالعرفان لكرم ضيافته، ومشوّش الرأس بالشراب الرائق من الأباريق والأقداح والحكايات العجيبة، التي أجبر على تقبّلها كحقائق، ولكنها ستعود، ما إن يخطو خارج باب قصر التاجر، إلى طبيعتها الأصلية؛ حكايات لتزجية الوقت والتسلية.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى