سهيل ياسين - جان دمو.. صدى الأيام الشاحبة

يفسر البعض من مثقفي الطغاة وسدنة البعد الواحد مفارقات الشاعر (جان دمو) وسلوكه الاحتجاجي على انه لم يكن نتاج احساسه الواعي ببؤس الثقافة ودعوى حريتها الكاذبة وما خلفته من جوانب سلبية بالغة السوء كان اقل مظاهرها بين المثقفين الاهمال والتشرد والانكفاء ،،،و يرون في ذلك التهكم تدبيرا وتحريضا كان وراءه اليساريون والديمقراطيون والمعادون لخط (الثورة ) الذين اكسبوا جان شهرته المبالغ بها وروج له بالقدر الذي لا تستحقه حسب اعتقادهم ،خلافا للحقيقة التي تمثل تعبيرا حقيقيا عن سخطهم للوضع او بالضد من الواجهة الرسمية للثقافة وشكل من اشكال الاستعاضة الاحتجاجية الجمعية، وكان دمو تجسيدا معلنا بالنيابة عنهم لظاهرة عامة وليست حالة فردية اختص بها (شيخ الصعاليك ) واريد التقليل منها بقدر ما هي شاملة ،طالت مفاصل الحياة الثقافية وما عانته من قطيعة واضحة ومقصودة بين المثقف والسلطة في مشهد يتكرر في كل مكان وزمان عند اختلال العلاقة بين المبدع والحاكم.

*
لم تخرج يوما وجلين خائفين ابان منتصف الثمانينيات وما تلاها من سنوات عصيبة في رفقة صاحب المتاهة جان دمو واحتجاجاته ضد السلطة وتعليقاته الساخرة ازاء الوضع آنذاك في مقاهي الادباء وحانات الرشيد، وابي نؤاس ،على الرغم من احساسنا بتوقع الشر او الشعور بالخطر الدائم ،تطاردنا الخواطر المقلقة والخشية من وشاة السلطة وعيون المتلصصين من مثقفي النظام.
كان جان طاغي الحضور في حلقاتنا الحميمية ،أول الذارعين بخطاه المضطربة على طريقنا العاثر في مسيرتنا اليومية، عبر رحلة الظهيرة من حسن عجمي ومراحلها الرتيبة، شارع المتنبي، سوق السراي، محلات شارع النهر، شريف وحداد،و عروض الرشيد ومعالمه الاربعينية الآيلة الى الشحوب ،مشاة نحبو حتى فضاءات ومساقي ابي نؤاس.
الكهنة في الاعالي
ذات مرة، اردنا ان نتحايل على جان ونشاكسه وقررنا تغيير المكان فاخترنا مكانا قريبا من ملتقانا المعهود لكنه كان منزويا، لا يطرأ على بال احد اطلاقا ،ولا يخطر في ذهن الخبراء والعارفين بمقاهي بغداد ومشاربها الخفية في شوارعها وازقتها الخلفية.
لا يوصل المخبأ (البار) الذي اخترناه والمعلق في طابق علوي، سوى مرقاة حجري، بعد ان يمهد له باب من حديد تآكلت حوافه مثل لوحة اعلانه المدلاة باسمه المحمو في زقاق فرعي بشارع الرشيد جوار الاسواق المركزية،في زاوية من فضائه المعتم ،بعد جلسنا قليلا ،معتقدين اننا ضللنا الطريق على جان، وما ان استرحنا بضع دقائق حتى فوجئنا بشبحه الضئيل، ينبثق من أسفل المرقاة وبهدوئه المعتاد في لحظة الصحو بادرنا قائلا دون مقدمات:
واخيرا وجدت الكهنة في الاعالي
ضحكنا ودعوناه للانضمام الينا
طائر طليق
ولأن جان لم يملك شيئا حتى يبخل به على احد فهو يعيش على مقدار ما يملكه،ويعني هذا انه كان صفر اليدين ،تنازل عن الامتلاك مقابل العيش في حدود يومه، وان يحيى تفاصيل لحظته، ولا يشغله ما ينبغي فعله في الخطوة القادمة.. ولأنه طائر طليق لا يقر في مكان، كثير الحركة والتنقل ،يتحول من مقهى الى مقهى نهارا ومن بارلبار ليلا فهو كعادته لم يستطع المكوث اكثر مما اعتاده بيننا في كل مساء، لابد من ان يكمل مشواره الطويل لأن هناك اكثر من لا مكان ينتظره، تحت ستر ليالي حانات ابي نؤاس ومقاهيهه ،قبل ان يغادرنا اكتشف ان كل ما يملكه غير مجز وكاف لمواجهة مفاجآت الليل وحساباته غير المتوقعة، كوجبة عشاء سريعة، أجرة المبيت لليلة واحدة، في احدى الفنادق الرخيصة الرثة.. جمعنا له مبلغا ليس بما فيه الكفاية فقال محتجا: هذا لا يكفي.. هاتوا المزيد.. لدي تحرك ليلي يقتضي مصاريف اكثر. ضحكنا وزدناه حتى غاب عنا في الظلام.
هل اختار جان منفاه طواعية.. ام قادته فكرة الرحيل من اجل الرحيل المتأخرة والخلاص الممكن من شبح المصير الغامض الذي ينتظره ويتوعده في بغداد، بالموت المؤجل ونهاية البداية لحكاية الفراق عن الوطن الذي جمعه هو وغيره من مثقفين كثيرين شتتهم المحنة خارج العراق عبر عمان لتتوزعهم عواصم غريبة وزوايا قصية من العالم.
لم ينفض دمو سرا من حفل الديكتاتور او عاجلا ام اجلا، متوجها الى نفيه مع آخر شعراء التكسب والاعطيات الذين فروا في اوائل التسعينيات خارج الحدود بعد الاحساس المبكر بزوال النعم الرئاسية وقبل ان تبرد ولائم السلطان الساخنة.
الخيار الأوحد
لماذا تطاردنا الشكوك والاحتمالات ،ويلاحقنا الشعور بالخيبة دوما كلما اقدمنا على فعل شيء حتى ولو كان بلا ثمن ... قبل منتصف ايلول 1994 من أعوام الحصار ،قادتنا الرغبة المضادة الى الرحيل غربا باتجاه اللااختيار نحو عمان خيارنا الاوحد ،استغرقتنا طويلا انا وجان وجمال كريم اجراءات التفتيش، عند الحدود بعد ان طالت بنا معاملات السفر اياما وازمانا مقلقة في مكاتب الجوازات ببغداد ثلاث ليال نتراوح متأرجحين في الخط الوهمي الفاصل بين مركز طربيل والرويشد وسط المد الصحراوي العاري بعد الفراغ من الاجراءات اللازمة والمقيتة ، ابتعدنا عن الوطن المشطر بالحروب والحصارات ،اجتزنا الحدود متوغلين عشرات الكيلومترات ،لكن احساسا غريبا بالخوف يتنامى في داخلنا، وكأن هناك من يتتبعنا مناديا في اعقابنا بصوت بوليسي آمر وأجش ... قف يا هذا ..ثمة خطأ هناك في جواز سفرك ..أ و اشتباه في أوراقك الثبوتية. هكذا تبدو لنا الاشياء مفزعة، مضادة، ولو سلكنا طرقا قانونية شرعية ..تلك هي مشاعر الخارجين من جحيم الداخل ،الناجون سهوا من حماة قانون الطاغية المرخصين بالقتل حسب الرغبة والطلب الذين ينظرون الينا شزرا في كل مفترق مروري، على الطريق الأضيق عند نقاط التفتيش ... في اول استراحة هرعنا الى دكاكين مفردة في صحراء الرويشد اخذ جان جرعة من (الكوكاكولا) التي لم يذق طعمها منذ سنين بفعل سنوات الحصار ،صاح معبرا عن حرمانه:
تبا لك يابي عار.. يا دكتاتور يا...
لم يحمل جان دمو سوى دراهم عراقية لا تعادل شيئا يذكر ولا تصلح في اكثر تقدير، الا لهواة المسكوكات النقدية القديمة انفرطت منه على ارضية الحافلة وهو يهم بالنزول منها ليطأ عمان ارض الرسوم والضرائب ويخطو بارتباك في بلدة ضاجة بالمصارف والبنوك واسواق التجارة الصاخبة بايقاعها السريع لا تحتفي بالصعاليك والمتغيبيين وحتى السواح، من دون مقابل او ثمن يتسلح به الزائر الغريب ازاء مكوثه الباهض فيها ولو كان ليلة واحدة او المرور بها فقط.
في الساحة الهاشمية ،مقهى السنترال ،قاعة الفينيق ،كازينو العاصمة التقينا شبان عراقيين كثيرين مثقفين وفنانين ،قابلنا على ارصفتها لاجئين من بغداد والجنوب يعقدون الصفقات السرية مع سماسرة وعملاء يعدونهم بمناف اسطورية في مكاتب علنية يتوافد عليها ضحايا التزوير وخائبين من الانتظار في طوابير مفزعة امام مبنى (اليو.أن ) واغاثة اللاجئين.
التقينا ستار كاووش مساء واخبرناه ان كان لديه الاستعداد للسفر مجانا الى اليمن فهناك امكانية لتوفير بطاقة دعوة شبه مزورة بالطائرة وعليه ان يقررصباحا ،ضحك جان وقال لستار:
لاحظ .. انت فنان تشكيلي، انصحك باية وجهة ما عدا اليمن فهي لا تختلف عن عراق صدام ..أيصح الانتقال من مقبرة لاخرى.
الموت الاخير
ربما مات جان من رتابة ايامه الاخيرة او ضيق الاقامة في غرفة صغيرة لم يحظ بها الا في جزيرة نائية في قلب المحيط باستراليا ،غرفة شكلت هاجسه الدائم ،حلم بها كثيرا باحثا عنها طوال حياته في بغداد ودافع عنها بحكمته المحتدة: (اعطني غرفة اعطيك حضارة) ربما ادرك جان اخيرا ان التجوال والضياع في بغداد او الموت على رصيف عراقي او في حانة بالكرخ أوالرصافة هو أسعد من حياة باذخة كاذبة داخل غرفة في سدني ضاق ذرعا بثرائها الذي قال عنه هازئا او جادا : (انه ثراء يا الهي.. لكنه لا يطاق ..).
أعلى