يبدو قويّا كغصنٍ شامخ مؤرِق ، يَفوقُ أقرانه مُنذ كان صبيّا ، يتبع خطوات أمه ، شبّ وترعرع لا يعرف والده ، يخفق قلبه في جزعٍ ، كلّما تذكّر ، سُرعَان ما يتلهى في كِسرةِ الفطير التي تخرجها الوالدة من تحتِ خمارها ، ينزوي بجوارِ الحَائِط ، والحُزن يحزّ قلبه الغَضّ حَزّا ، يتنهد مِنْ صدرٍ ثقيل ، يلقي على ذاكرتهِ سِتارا من الصَّمتِ ، يعدو مأخوذًا كعادتهِ ، بينَ الأزقةِ والدّروبِ ، وأصوات النِّساء تتطاير لمقدمهِ : يا أبو طويلة .. يا أبو طويلة ، يجأر بالشَّكوى مُتَأفِّفا ، يرفعُ رأسهُ مُتمِّتما في مرارةٍ ، وقد تقلَّصت ملامحه ، يبرطم مغضبا تحت وقعِ الالحاح ، لحظات ويلين للنداءِ بعد لأيٍ ، تستهويه في الأخيرِ حبات البلح المحمّص التي تجودُ بهِ الأيدي ، يتنقلُ من بيتٍ لبيتِ ، يقضي حوائج النِّساء ، لا يتحرّج من اقتحامِ الدُّور على أهلها دون عضاضةٍ ، بعد إذ تعوّدوه ، هو أبعد ما يكون عن كُلّ ريبةٍ ، بابتسامةٍ بلهاء يضحك ملء شدقيهِ ، حينَ تُداعب الأنامل ما بينَ فخذيهِ ، وصرخات الإثارة تعلو في صخبٍ وفوضى ، سُرعان ما يجتمع النّسوة في إثرهِ كبارا وصغارا ، ليتَّخذوه هزوا ، يرتجف صوته فَرَقا ، ثم يطلق ساقيه للرِّيحِ ، وقد انتَسَفَ لونه ، ومن خَلفهِ يَتصايَح الصِّبية في ابتهاجٍ وزَعيق : أبو طويلة .. أبو طويلة ، يطوف الشّوارع يتابع رحلته اليومية في رتابةٍ ، لكنّه رغم هذا لا يُعدم في تطوافهِ من الكلامِ المعسول ، تلكَ سلواه التي تُشعِره بفحولتهِ المُبكرة ، يطلق ضحكات بلهاء ، مُنتشيا في خجلٍ مُصطنع ، يُهرولُ يذرع البيوت هنا وهناك بلا تواني ، غير أنّ في قلبِ صاحبنا صخرة لا تنفذها أشعة الحُب ، مع أنّه في كثيرٍ من المراتٍ ، ما يكون محطّ أطماع غِلاظ القلوب من النِّسوةِ المُجترءات ، فمثله لا يبوح بسرٍّ ، ولا تُخشى مطامعه ، وتلكَ صفات قلّما توافرت لغيرهِ ، ها هو الدّهر الغشوم ، يضنُّ عليهِ بهنائتهِ ، تتلاحق أرزاء الأيام قاسية ، لتنتزع منه أمه ، لم يتبقى منها إلا اثرها العافي ، لصِيقا كدخانِ الموقد فوقَ حيِطانِ منزلها القديم ، جعل يذوي ويسحب لونه ، وشيئا فشيئا انقطعَ " أبو طويلة " عن لهوهِ وتسليتهِ ، هجرَ تجمعات النّساء بعد أن ضاقَ ذرعا بمشاكستهم ، ظَلّ على حالهِ يئنّ من أعماقِ قلبه، في سكونٍ يجيل بصره في المحيطينِ بهِ ، تبدو على وجههِ جهامة وانقباض ، على فتراتٍ تُهيمن عليهِ نوبة نشيج ، يقضي سحابة نهارهِ بعيدا عن البيتِ ، حتى إذا أظلّه اللّيلِ عادَ كاسفَ البال ، يُلقي بجسدهِ المُنهك أمام العتبةِ ، هكذا حتى الصّباح ، وفِي يومٍ صحا نهاره ، لكنّ " أبو طويلة " لم يستيقظ ، قلّبته الأيادي في وجلٍ ، ليجدوه جسدا مُسَجّى ، ليُغيّب في سِجلِ النسيان .
محمد فيض خالد / مصر
محمد فيض خالد / مصر