✍ - كلبك هذا مزعج يا سيدتي، كما أنني لا أفهم معنى وجوده في الجنة؟
قال السيد عارف هذا الكلام من وراء السور السحابي الذي يفصل بين جنته وجنة جارته التي لم يعرف إسمها منذ أن بُعث للجنة قبل ستة أشهر.
سمع صوتها وهي تقول:
- إنه كلبي "لاسي"، لقد توفينا سوياً في حادث مروري، كان يرافقني دائماً وأنا في السيارة.
- سبب وجيه.. هل يتحدث أم بذات غبائه الأرضي؟
- لا .. لقد طلبت منهم أن يبعثوه بذات وضعه الحيواني..
قال عارف بأسى:
- ولكن يا سيدتي فوق أن هذه أنانية منك وأعذريني على قول ذلك..فوق هذا ما كان لينبح بعد بعثه ويزعجني لو كان يعقل.. صحيح أن جنتي واسعة بحيث تمتد لآلاف الهكتارات، لكن صوت نباحه يصل إلى أقاصي الجنة فالهواء هنا لا يصد الصوت، وفي نفس الوقت لا أستطيع أن أطلب منهم حرمانه من النباح لأنه داخل حدود جنتك..
- آسفة يا سيد عارف ولكنني لا أملك طلب منعه من النباح..أنت لا تفهم..فأنا -عندما ينبح هو- أتذكر كل حياتي على الأرض..صحيح لم تكن بذات هذا الجمال..لكنه الحنين..هل تفهمني يا سيدي؟
- عذراً ولكن ما اسمك؟
- أنا لطيفة..
- وكيف عرفتِ اسمي..
جاء صوت ضحكتها من خلف الجدار السحابي رقيقاً:
- كثيرون بهذه الجنة يعرفونك يا سيد عارف.. لقد مت قبلي..ومت عندما تم تفجير سيارتك المفخخة..اليس كذلك؟
صمت السيد عارف قليلاً ثم قال:
- آه..هل تصدقين بأنني لا أتذكر شيئاً من ذلك كله.. بدا الأمر غريباً فقد توجهت لفتح باب سيارتي ثم لم أشعر بشيء بعد ذلك إلا وأنا هنا..لا أحد يصدق أن الموت ليس فيه ألم..
قالت المرأة:
- صحيح.. إننا لا نتألم إلا عندما نكون أحياء..
ثم أضافت:
- غير أنني حتى الآن لم أفهم سبب إدخالنا إلى الجنة.. أنت لم تكن مؤمناً وأنا كنت لا أدرية..وهناك مجرمون دخلوا إلى الجنة..يبدو أن الناس كلهم يدخلون الجنة..
- آه يا سيدتي.. تبدو حياتنا السابقة لا معنى لها..تبدو كمزحة سخيفة.. الكره والقتل والإرهاب والخوف ليس سوى مرض من أمراض القلوب والعقول..ربما كان وجوده ضروريا لتكون لحياتنا الأرضية معنى..لذلك لا أرى سبباً يمنع من إدخال الجميع إلى الجنة.. وإن كنت أكثر صدقاً مع نفسي فسأقول بأننا كلنا كنا مجرمين بصورة أو بأخرى..
قالت بلطف:
- لماذا لا تدخل إلى جنتي لنتسامر.. ربما عندما يشم لاسي رائحتك سيتوقف عن النباح..
فكر عارف قليلاً وقال:
- لا أريد ازعاجك.. مع ذلك فبحسب اللافتات المكتوبة تبدو جنتي أكبر من جنتك قليلاً.. لذلك يمكنك أن تدخلي لنتمشى في جنتي ونتسامر أثناء مشاهدتك لما فيها من أشياء جميلة..
أجابته بسرعة:
- حسنٌ..افتح باباً في الجدار السحابي..
هز راسه موافقاً فانفتحت فجوة صغيرة عبرت منها لطيفة إلى الداخل، وسارا في ممشى أخضر جميل تحفه شجيرات قصيرة ذات أزهار ملونة.
- إنك جميلة جداً يا سيدة لطيفة..
- أشكرك..رغم أننا جميعنا نكون جميلين في الجنة..إنها خاصية غريبة فأشكالنا لا تتبدل لكن قلوبنا هي التي تتبدل..أقصد طريقة ترجمة مشاعرنا تجاه الموجودات..
قال وهو يعقد يديه خلف ظهره:
- لا أعرف.. ولكن لو كان الأمر كذلك فهذا يعني أننا نعيش حلماً خادعاً..
قالت وهي تقلده فتعقد يديها خلف ظهرها:
- لا يهم...المهم أن حياتنا هنا أفضل..كل شيء نشعر بجماله هنا..أليس كذلك..ليس كما كنا في الأرض؟
- لا يا سيدتي.. ليس كما كنا في الأرض.. تعلمين أنني كنت شخصية مشهورة في حياتي الأرضية..والآن لا أحد يهتم بي هنا في السماء..مع ذلك..فأنا هنا بلا هموم..خفيف الروح..أشعر بدفء لطيف يغمر قلبي..جزل وغبطة يحفان بمشاعري..
- نعم..وأناْ كذلك..إنه شيء أقرب لتدخين الحشيش عندما كنت في الأرض..
سألها بتعجب:
- هل جربتِ تدخين المخدرات؟
جلجلت منها ضحكة مغتبطة وقالت:
- بالتأكيد وهل هناك من لم يجرب؟
قال بحيرة:
- أنا.. لم أدخن ولم أحتسِ الخمر أبداً..
توقفت ونظرت نحوه بدهشة باسمة:
- لااااا؟!!!
قال بجدية:
- أقسم لك..
ثم واصلا السير وهو يشرح لها:
- كان أبي رجل دين متزمت..لقد ضرب أخي الأكبر ضرباً مبرحاً حين علم أنه قد دخن سجارة عادية.. منذ ذلك الوقت أصبحت أخشى من التجربة..وعندما كبرت قليلاً انخرطت في العمل السياسي وكان لزاماً عليَّ أن أكون حذراً ودقيقاً في تصرفاتي لذلك لم أجرب أي شيء غير مشروع حتى الخمر رغم أن القانون لم يكن يمنعها..مع ذلك فلا أشعر بأنه قد فاتني الكثير..
قالت:
- لا أعرف ولكنني أعتقد أنه قد فاتك الكثير بالفعل..
قال:
- لم يفت شيء..ما رأيك أن ندخن الحشيش هنا والآن..فهنا كل شيء جائز..
قالت ضاحكة:
- طبعاً وعلى الفور...
نبتت أمامها نبتة حشيش فخصفا منها قليلاً وأخذا يدخنان وهما يضحكان..
- تباً.. الحشيش هنا أفضل من حشيش الأرض..
قال بتعجب:
- حقاً؟..
- أقسم لك..إنني أراك تبدو كالأرنب الآن..
تضحك بهستيريا، فيضحك هو كذلك:
- أما أناْ فأراكِ.. فأراكِ..
صاحت تشجعه:
- هيا هيا..تراني ماذا؟
قال وهو ينفض يده:
- لا لا لا .. إنني تربيت على إحترام النساء لذلك لن أخبرك..
ضحكا في وقت واحد:
- هيا هيا.. ودعك من التحفظ.. نحن في الجنة..
-حسنٌ..سأخبرك..
- لقد..لقد رأيتك في صورة زهرة مبتسمة..
قالت بدهشة:
- ياااه..
قال:
- دعيني اكمل..
- حسنٌ اكمل..
- رأيتك بالفعل في صورة زهرة ولكن ليس لديك ساق واحدة بل سيقان قرد كثيف الشعر..
ضحكت بسعادة:
- يا إلهي تذكرني بمسرحية يوجين أونيل..
- من هذا؟
غابت الرؤية أمام عينيها فأمسكت رأسها بأصبعين:
- آه.. إنه قوي جداً..هل أشبه يانك..لقد انعكس كل شيء.. فالمخدرات هنا تجعلنا نرى حقيقة الأشياء لا الخيال.. أنظر لقدمي وجسدي.. إن الشعر يملأ سيقاني..يا إلهي..
امسك بها وهو يقول بتوتر:
- حسناً يا سيدتي..هذا غير صحيح.. ما نراه هو الخيال فقط..
نظرت إلى الأفق وقالت بهلع:
- لا لا.. أنظر..ألا ترى ما أرى.. فهذه ليست أشجاراً إنما أسلاك معدنية سوداء مغطاة بالديدان والعقارب..
ضغط على كتفيها وقال:
- إجلسي أرجوك..
همت بالجلوس لكنها تراجعت للخلف وصرخت:
- لا.. الأرض مغطاة بالأفاعي والأشواك..
قال:
- ليست مؤذية..ليست مؤذية..
أمسكت راسه بكفيها وهي تقرب وجهها له باكية:
- نحن نتعرض لخدعة كبرى..خدعة كبرى... ألا تشعر بالخوف مثلي؟
قال:
- ليس من المفروض ان نشعر بالخوف هنا...لكنني حقاً بدأت أشعر بالخوف..ولكن المسألة هنا تتعلق بالحقيقة..أيهما حقيقي..هل ما كنا نراه أم ما نراه الآن؟
- إنك ترى نفس ما أشاهده الآن..
- وكذاك نفس ما كنتِ ترينه قبل تدخين هذه الحشيشة الملعونة..
احتضنته بقوة وهي تبكي فقال بأسى:
- لا بأس..إهدئى إهدئي..لقد قطعنا شوطا ونحن نسير..دعينا نستمتع باكتشاف الوجه الآخر للحقيقة..
احتضنها وهما يسيران بصمت..ثم نظر في عينها وقال:
- رغم كل شيء فلا زلتِ جميلة..جميلة ومتوحشة..
ضحكت وقالت:
- وأنت كذلك يا أرنبي الضخم..
- فلنعش كحبيبين إذاً..
- هل أحببتني بالفعل؟
- منذ أن سمعت صوتك خلف الجدار السحابي..نفذ إلى قلبي سهم ثلجي ثم غمر جسدي دفء غريب..
- ما كنت لأعبِّر عن مشاعري بمثل تلك الجملة كما فعلت..لكنها تمثل شعوري أنا كذلك..
- أياً ما كانت الحقيقة لكن الجيد أن مشاعرنا هذه لم تتغير بعد تدخين الحشيش..لم تصبح قبيحة خلافاً لما حدث..
- قد يكون الحب هو الحقيقة الخالصة التي لا يشوبها التزييف..
ثم أدارت رأسها لتشاهد ما حولها:
- تعود الأشياء لما كانت عليه..
- أو لما أريد لها أن تكون عليه..
- حسنٌ..المهم أنها عادت..
ثم أضافت:
- عارف؟
- نعم..
- هل ترى هناك..
نظر إلى البعيد فرأى شجرة ضخمة تضيئ أغصانها بأنوار ملونة فهمس:
- الشجرة الملعونة؟
قالت:
- لا يمكن أن تكون ملعونة وهي في قلب الجنة...فلنسألها..
اقتربا منها ورأيا جذعها العالي وقد تغطت قمته بفروع متشابكة حجبت عنهما رؤية صفحة السماء الزرقاء. ثم مدَّ عارف أصابع يده ولمسها فتأوهت؛ حينها تراجع وهو يقول:
- إنك حية؟ شجرة حية؟
قالت الشجرة:
- هذا ما تريدانه أنتما..إن كل شيء في هذا المكان يعتمد على ما تريدانه وليس كالأرض، فهنا لا يعيش الإنسان جزءً من جماعة، لذلك فقدره ليس مرتبطاً بأقدار الآخرين.. أما هناك على الأرض فلا فِكاك من حياة الجماعة فيتوقف قدر كل فرد على أقدار الآخرين..
قالت المرأة:
- ولكننا نحب بعضنا وسنكون هنا سوياً إلى الأبد..
حسمت الشجرة قولها:
- لن يحدث..
قال الرجل:
- ولكننا نحب بعضنا ومن العدالة أن نكون معاً..
- صحيحٌ أن من العدالة أن تكون معاً، ولكن ذلك يناقض فردانية الجنة..هنا حيث يفر الجميع من الجميع فلا ترتبط أقدارهم ببعضهم البعض ويكون لكل فرد منكما إرادته المطلقة..ولو اجتمعتما مع ببعضكما فقد انتقصتما من تلك الإرادة وهذا يجعلكما غير مهيأين لحياة السماء بل فقط لحياة الأرض..
قالت لطيفة:
- ألن تكون إرادتنا غير مطلقة حينما نُحرم من إرادة أن نكون جماعة؟
- لا يا سيدة لطيفة..على العكس؛ فحيث تكونين مع جماعة لن تتوقف الإرادة على إرادتك وحدك بل إرادات الآخرين وهذا هو النقص بعينه..لذلك فهنا ليس بإمكانكما تطوير ذلك الحب..وليس أمامكما سوى الهبوط إلى الأرض إن كنتما تفضلان قوانينها..
تأوه عارف وغمغم:
- ألا يوجد شيء كامل في هذا الوجود..
أجابته الشجرة:
- لا شيء كامل..ولا شيء حقيقي..حتى كلبك لاسي يا سيدة لطيفة ليس حقيقياً..
قالت لطيفة:
- وما هو مفهومك للحقيقة أيتها الشجرة..
تراقصت أغصان الشجرة لبرهة ثم سكنت حين قالت الشجرة:
- ألا يكون هناك شيء..فبانتفاء الشيئية تتجلى الحقيقة المحضة بذاتها كلا شيء..
نظر الإثنان لبعضهما وقد لفتهما الحيرة، أيعودان للأرض أم يرتضيا خسارة حبهما.
همست لطيفة:
- لن أتخلى عن هذا الحب..هل ستفعل؟
قال عارف:
- لا أدري..
- ماذا؟!.. هل تتخلى عني منذ البداية..
قال:
- ليس تخلياً عنك.. بل عن إرادتك مقابل إرادتي.. تريدين الرحيل ولا أريد..هل فهمتِ منطق الجنة.. هناك..على الأرض هناك عدة فرص لاختبار إراداتنا..أما هنا.. فهي فرصة واحدة..إن ذهبنا فقد لا نعود..وإن بقينا فلن نذهب..هنا نستطيع أن نأمر أنفسنا بتجاهل هذا الحب..أما هناك فلن نستطيع..
احتضنته بشدة وهي تقول:
- هل نمحو ذاكرتنا من هذا اللقاء الذي لم يزد عن ساعة؟
- نعم.. أرى صواب ذلك..لم نتعذب في العالم الأرضي إلا بسبب ضعف قدرتنا على السيطرة على ذاكرتنا...أما هنا..فلا..هنا نستطيع أن نتجاوز صدمة الحب بسهولة.. أليس كذلك ايتها الشجرة الحكيمة؟
قالت الشجرة:
- بالتأكيد..
قالت المرأة:
- إذاً، فلتمحِ ذاكرتينا من هذا اللقاء.. وباعدي المسافة بين جنتينا...
وجد السيد عارف نفسه ملقىً على فرش من الطلع الأصفر، وسمع حينها صوت ببغاء يأتيه من بعيد، فنهض وتوجه نحوه..حينها الفاه صادراً من خلف ستار سحابي يفصل بينه وبين جنة جاره، وسمع صوت شاب يقول من ورائه:
- كل أيها الببغاء اللطيف..لقد كنا مجرد شخصيات كرتونية في حياتنا الارضية.. هل تتذكر..
كرَّ الببغاء بصوته وهو يصيح
"جزيرة الكنز..جزيرة الكنز"..
فضحك الشاب بصوت عذب..
(تمت)
قال السيد عارف هذا الكلام من وراء السور السحابي الذي يفصل بين جنته وجنة جارته التي لم يعرف إسمها منذ أن بُعث للجنة قبل ستة أشهر.
سمع صوتها وهي تقول:
- إنه كلبي "لاسي"، لقد توفينا سوياً في حادث مروري، كان يرافقني دائماً وأنا في السيارة.
- سبب وجيه.. هل يتحدث أم بذات غبائه الأرضي؟
- لا .. لقد طلبت منهم أن يبعثوه بذات وضعه الحيواني..
قال عارف بأسى:
- ولكن يا سيدتي فوق أن هذه أنانية منك وأعذريني على قول ذلك..فوق هذا ما كان لينبح بعد بعثه ويزعجني لو كان يعقل.. صحيح أن جنتي واسعة بحيث تمتد لآلاف الهكتارات، لكن صوت نباحه يصل إلى أقاصي الجنة فالهواء هنا لا يصد الصوت، وفي نفس الوقت لا أستطيع أن أطلب منهم حرمانه من النباح لأنه داخل حدود جنتك..
- آسفة يا سيد عارف ولكنني لا أملك طلب منعه من النباح..أنت لا تفهم..فأنا -عندما ينبح هو- أتذكر كل حياتي على الأرض..صحيح لم تكن بذات هذا الجمال..لكنه الحنين..هل تفهمني يا سيدي؟
- عذراً ولكن ما اسمك؟
- أنا لطيفة..
- وكيف عرفتِ اسمي..
جاء صوت ضحكتها من خلف الجدار السحابي رقيقاً:
- كثيرون بهذه الجنة يعرفونك يا سيد عارف.. لقد مت قبلي..ومت عندما تم تفجير سيارتك المفخخة..اليس كذلك؟
صمت السيد عارف قليلاً ثم قال:
- آه..هل تصدقين بأنني لا أتذكر شيئاً من ذلك كله.. بدا الأمر غريباً فقد توجهت لفتح باب سيارتي ثم لم أشعر بشيء بعد ذلك إلا وأنا هنا..لا أحد يصدق أن الموت ليس فيه ألم..
قالت المرأة:
- صحيح.. إننا لا نتألم إلا عندما نكون أحياء..
ثم أضافت:
- غير أنني حتى الآن لم أفهم سبب إدخالنا إلى الجنة.. أنت لم تكن مؤمناً وأنا كنت لا أدرية..وهناك مجرمون دخلوا إلى الجنة..يبدو أن الناس كلهم يدخلون الجنة..
- آه يا سيدتي.. تبدو حياتنا السابقة لا معنى لها..تبدو كمزحة سخيفة.. الكره والقتل والإرهاب والخوف ليس سوى مرض من أمراض القلوب والعقول..ربما كان وجوده ضروريا لتكون لحياتنا الأرضية معنى..لذلك لا أرى سبباً يمنع من إدخال الجميع إلى الجنة.. وإن كنت أكثر صدقاً مع نفسي فسأقول بأننا كلنا كنا مجرمين بصورة أو بأخرى..
قالت بلطف:
- لماذا لا تدخل إلى جنتي لنتسامر.. ربما عندما يشم لاسي رائحتك سيتوقف عن النباح..
فكر عارف قليلاً وقال:
- لا أريد ازعاجك.. مع ذلك فبحسب اللافتات المكتوبة تبدو جنتي أكبر من جنتك قليلاً.. لذلك يمكنك أن تدخلي لنتمشى في جنتي ونتسامر أثناء مشاهدتك لما فيها من أشياء جميلة..
أجابته بسرعة:
- حسنٌ..افتح باباً في الجدار السحابي..
هز راسه موافقاً فانفتحت فجوة صغيرة عبرت منها لطيفة إلى الداخل، وسارا في ممشى أخضر جميل تحفه شجيرات قصيرة ذات أزهار ملونة.
- إنك جميلة جداً يا سيدة لطيفة..
- أشكرك..رغم أننا جميعنا نكون جميلين في الجنة..إنها خاصية غريبة فأشكالنا لا تتبدل لكن قلوبنا هي التي تتبدل..أقصد طريقة ترجمة مشاعرنا تجاه الموجودات..
قال وهو يعقد يديه خلف ظهره:
- لا أعرف.. ولكن لو كان الأمر كذلك فهذا يعني أننا نعيش حلماً خادعاً..
قالت وهي تقلده فتعقد يديها خلف ظهرها:
- لا يهم...المهم أن حياتنا هنا أفضل..كل شيء نشعر بجماله هنا..أليس كذلك..ليس كما كنا في الأرض؟
- لا يا سيدتي.. ليس كما كنا في الأرض.. تعلمين أنني كنت شخصية مشهورة في حياتي الأرضية..والآن لا أحد يهتم بي هنا في السماء..مع ذلك..فأنا هنا بلا هموم..خفيف الروح..أشعر بدفء لطيف يغمر قلبي..جزل وغبطة يحفان بمشاعري..
- نعم..وأناْ كذلك..إنه شيء أقرب لتدخين الحشيش عندما كنت في الأرض..
سألها بتعجب:
- هل جربتِ تدخين المخدرات؟
جلجلت منها ضحكة مغتبطة وقالت:
- بالتأكيد وهل هناك من لم يجرب؟
قال بحيرة:
- أنا.. لم أدخن ولم أحتسِ الخمر أبداً..
توقفت ونظرت نحوه بدهشة باسمة:
- لااااا؟!!!
قال بجدية:
- أقسم لك..
ثم واصلا السير وهو يشرح لها:
- كان أبي رجل دين متزمت..لقد ضرب أخي الأكبر ضرباً مبرحاً حين علم أنه قد دخن سجارة عادية.. منذ ذلك الوقت أصبحت أخشى من التجربة..وعندما كبرت قليلاً انخرطت في العمل السياسي وكان لزاماً عليَّ أن أكون حذراً ودقيقاً في تصرفاتي لذلك لم أجرب أي شيء غير مشروع حتى الخمر رغم أن القانون لم يكن يمنعها..مع ذلك فلا أشعر بأنه قد فاتني الكثير..
قالت:
- لا أعرف ولكنني أعتقد أنه قد فاتك الكثير بالفعل..
قال:
- لم يفت شيء..ما رأيك أن ندخن الحشيش هنا والآن..فهنا كل شيء جائز..
قالت ضاحكة:
- طبعاً وعلى الفور...
نبتت أمامها نبتة حشيش فخصفا منها قليلاً وأخذا يدخنان وهما يضحكان..
- تباً.. الحشيش هنا أفضل من حشيش الأرض..
قال بتعجب:
- حقاً؟..
- أقسم لك..إنني أراك تبدو كالأرنب الآن..
تضحك بهستيريا، فيضحك هو كذلك:
- أما أناْ فأراكِ.. فأراكِ..
صاحت تشجعه:
- هيا هيا..تراني ماذا؟
قال وهو ينفض يده:
- لا لا لا .. إنني تربيت على إحترام النساء لذلك لن أخبرك..
ضحكا في وقت واحد:
- هيا هيا.. ودعك من التحفظ.. نحن في الجنة..
-حسنٌ..سأخبرك..
- لقد..لقد رأيتك في صورة زهرة مبتسمة..
قالت بدهشة:
- ياااه..
قال:
- دعيني اكمل..
- حسنٌ اكمل..
- رأيتك بالفعل في صورة زهرة ولكن ليس لديك ساق واحدة بل سيقان قرد كثيف الشعر..
ضحكت بسعادة:
- يا إلهي تذكرني بمسرحية يوجين أونيل..
- من هذا؟
غابت الرؤية أمام عينيها فأمسكت رأسها بأصبعين:
- آه.. إنه قوي جداً..هل أشبه يانك..لقد انعكس كل شيء.. فالمخدرات هنا تجعلنا نرى حقيقة الأشياء لا الخيال.. أنظر لقدمي وجسدي.. إن الشعر يملأ سيقاني..يا إلهي..
امسك بها وهو يقول بتوتر:
- حسناً يا سيدتي..هذا غير صحيح.. ما نراه هو الخيال فقط..
نظرت إلى الأفق وقالت بهلع:
- لا لا.. أنظر..ألا ترى ما أرى.. فهذه ليست أشجاراً إنما أسلاك معدنية سوداء مغطاة بالديدان والعقارب..
ضغط على كتفيها وقال:
- إجلسي أرجوك..
همت بالجلوس لكنها تراجعت للخلف وصرخت:
- لا.. الأرض مغطاة بالأفاعي والأشواك..
قال:
- ليست مؤذية..ليست مؤذية..
أمسكت راسه بكفيها وهي تقرب وجهها له باكية:
- نحن نتعرض لخدعة كبرى..خدعة كبرى... ألا تشعر بالخوف مثلي؟
قال:
- ليس من المفروض ان نشعر بالخوف هنا...لكنني حقاً بدأت أشعر بالخوف..ولكن المسألة هنا تتعلق بالحقيقة..أيهما حقيقي..هل ما كنا نراه أم ما نراه الآن؟
- إنك ترى نفس ما أشاهده الآن..
- وكذاك نفس ما كنتِ ترينه قبل تدخين هذه الحشيشة الملعونة..
احتضنته بقوة وهي تبكي فقال بأسى:
- لا بأس..إهدئى إهدئي..لقد قطعنا شوطا ونحن نسير..دعينا نستمتع باكتشاف الوجه الآخر للحقيقة..
احتضنها وهما يسيران بصمت..ثم نظر في عينها وقال:
- رغم كل شيء فلا زلتِ جميلة..جميلة ومتوحشة..
ضحكت وقالت:
- وأنت كذلك يا أرنبي الضخم..
- فلنعش كحبيبين إذاً..
- هل أحببتني بالفعل؟
- منذ أن سمعت صوتك خلف الجدار السحابي..نفذ إلى قلبي سهم ثلجي ثم غمر جسدي دفء غريب..
- ما كنت لأعبِّر عن مشاعري بمثل تلك الجملة كما فعلت..لكنها تمثل شعوري أنا كذلك..
- أياً ما كانت الحقيقة لكن الجيد أن مشاعرنا هذه لم تتغير بعد تدخين الحشيش..لم تصبح قبيحة خلافاً لما حدث..
- قد يكون الحب هو الحقيقة الخالصة التي لا يشوبها التزييف..
ثم أدارت رأسها لتشاهد ما حولها:
- تعود الأشياء لما كانت عليه..
- أو لما أريد لها أن تكون عليه..
- حسنٌ..المهم أنها عادت..
ثم أضافت:
- عارف؟
- نعم..
- هل ترى هناك..
نظر إلى البعيد فرأى شجرة ضخمة تضيئ أغصانها بأنوار ملونة فهمس:
- الشجرة الملعونة؟
قالت:
- لا يمكن أن تكون ملعونة وهي في قلب الجنة...فلنسألها..
اقتربا منها ورأيا جذعها العالي وقد تغطت قمته بفروع متشابكة حجبت عنهما رؤية صفحة السماء الزرقاء. ثم مدَّ عارف أصابع يده ولمسها فتأوهت؛ حينها تراجع وهو يقول:
- إنك حية؟ شجرة حية؟
قالت الشجرة:
- هذا ما تريدانه أنتما..إن كل شيء في هذا المكان يعتمد على ما تريدانه وليس كالأرض، فهنا لا يعيش الإنسان جزءً من جماعة، لذلك فقدره ليس مرتبطاً بأقدار الآخرين.. أما هناك على الأرض فلا فِكاك من حياة الجماعة فيتوقف قدر كل فرد على أقدار الآخرين..
قالت المرأة:
- ولكننا نحب بعضنا وسنكون هنا سوياً إلى الأبد..
حسمت الشجرة قولها:
- لن يحدث..
قال الرجل:
- ولكننا نحب بعضنا ومن العدالة أن نكون معاً..
- صحيحٌ أن من العدالة أن تكون معاً، ولكن ذلك يناقض فردانية الجنة..هنا حيث يفر الجميع من الجميع فلا ترتبط أقدارهم ببعضهم البعض ويكون لكل فرد منكما إرادته المطلقة..ولو اجتمعتما مع ببعضكما فقد انتقصتما من تلك الإرادة وهذا يجعلكما غير مهيأين لحياة السماء بل فقط لحياة الأرض..
قالت لطيفة:
- ألن تكون إرادتنا غير مطلقة حينما نُحرم من إرادة أن نكون جماعة؟
- لا يا سيدة لطيفة..على العكس؛ فحيث تكونين مع جماعة لن تتوقف الإرادة على إرادتك وحدك بل إرادات الآخرين وهذا هو النقص بعينه..لذلك فهنا ليس بإمكانكما تطوير ذلك الحب..وليس أمامكما سوى الهبوط إلى الأرض إن كنتما تفضلان قوانينها..
تأوه عارف وغمغم:
- ألا يوجد شيء كامل في هذا الوجود..
أجابته الشجرة:
- لا شيء كامل..ولا شيء حقيقي..حتى كلبك لاسي يا سيدة لطيفة ليس حقيقياً..
قالت لطيفة:
- وما هو مفهومك للحقيقة أيتها الشجرة..
تراقصت أغصان الشجرة لبرهة ثم سكنت حين قالت الشجرة:
- ألا يكون هناك شيء..فبانتفاء الشيئية تتجلى الحقيقة المحضة بذاتها كلا شيء..
نظر الإثنان لبعضهما وقد لفتهما الحيرة، أيعودان للأرض أم يرتضيا خسارة حبهما.
همست لطيفة:
- لن أتخلى عن هذا الحب..هل ستفعل؟
قال عارف:
- لا أدري..
- ماذا؟!.. هل تتخلى عني منذ البداية..
قال:
- ليس تخلياً عنك.. بل عن إرادتك مقابل إرادتي.. تريدين الرحيل ولا أريد..هل فهمتِ منطق الجنة.. هناك..على الأرض هناك عدة فرص لاختبار إراداتنا..أما هنا.. فهي فرصة واحدة..إن ذهبنا فقد لا نعود..وإن بقينا فلن نذهب..هنا نستطيع أن نأمر أنفسنا بتجاهل هذا الحب..أما هناك فلن نستطيع..
احتضنته بشدة وهي تقول:
- هل نمحو ذاكرتنا من هذا اللقاء الذي لم يزد عن ساعة؟
- نعم.. أرى صواب ذلك..لم نتعذب في العالم الأرضي إلا بسبب ضعف قدرتنا على السيطرة على ذاكرتنا...أما هنا..فلا..هنا نستطيع أن نتجاوز صدمة الحب بسهولة.. أليس كذلك ايتها الشجرة الحكيمة؟
قالت الشجرة:
- بالتأكيد..
قالت المرأة:
- إذاً، فلتمحِ ذاكرتينا من هذا اللقاء.. وباعدي المسافة بين جنتينا...
وجد السيد عارف نفسه ملقىً على فرش من الطلع الأصفر، وسمع حينها صوت ببغاء يأتيه من بعيد، فنهض وتوجه نحوه..حينها الفاه صادراً من خلف ستار سحابي يفصل بينه وبين جنة جاره، وسمع صوت شاب يقول من ورائه:
- كل أيها الببغاء اللطيف..لقد كنا مجرد شخصيات كرتونية في حياتنا الارضية.. هل تتذكر..
كرَّ الببغاء بصوته وهو يصيح
"جزيرة الكنز..جزيرة الكنز"..
فضحك الشاب بصوت عذب..
(تمت)