اخترتُ زاويةً عاتمة، مع كأسِ عرقٍ، فوجئ النادلُ بطلبي، فهنا أغلبُهم يطلبون الويسكي، لكن بما أن كلّ شيءٍ متاحٌ، لبى لي طلبي وراح يحدجني باستغرابٍ، بل باحتقارٍ.
من مكمني لا أميِّزُ لون عينيها، فالإضاءةُ المبهرةُ لا تكشفُ إلّا عن رموشٍ طويلةٍ لم أعهدها بوجهها من قبل. بدت كصرصارين حطَّا على جفنيها، يتراقصان تحت شعرٍ ذهبيٍّ لا يخصُّها، فستانُها الورديُّ الكاشفُ عن نهدين عارمين تضخّما في غيابي، مع كلِّ صول ومي أفتقد لتلك الشفتين ، كانتا برقَّةِ أوراقِ الورد،تبدوان الآن كقطعتي إسفنجٍ انتفختا بماءٍ أحمر.
يمسحُ فستانها بذيله الطويلِ أرضَ المنصةالمخمليّ، يتسلَّقُ نظري فتحةَ الفستانِ الجانبيّة التي تتسعُ مع كلّ اهتزازٍمبتذل لخصرِها، لينبثقَ منها بياضٌ ساطعٌ تحت نور يدور مع نشاز الموسيقى، ليضربَ أعصابي كما يفعل حذاؤها بكعبه العالي.
شعرتُ أن صوتها يخرجُ من حذائها، وأن حنجرتها التي كنت أعبدُها قد حبست بعيدا في مكانٍ يليقُ بصوتها الأوبرا لي، مسختْهُ هنا في قرارٍ لا جواب له، ولم تغادرْها وكأنّه حُرّم عليها الخروج منها، وهي من كنت أسمّيها ملكةَ السوبرانو، ومع كلّ كلمةٍ تافهةٍ من أغنيتها الهابطةِ كانت تُرفعُ لها الكؤوسُ والآهات.
لا أصدق أن من تغنّي الآن:
قرّب مني... حبك ...جنني
وتفردُ يديها اتِجاهَ الجمهورِ الثّملِ ، هي ذاتُها من كانت تدمعُ عينيها ونظراتها تغوصُ في عينيَّ وهي تصدحُ:
.. عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي
يا مُنيَةَ المُتَمَنّي
أَدَنَيتَني مِنكَ حَتّى
ظَنَنتُ أَنَّكَ أَني
قلتُ لها يومًا: جدائلُكِ السُوداءُ هما أجملُ سُلَّمٍ موسيقيٍّ تصعدُهُ روحي.
جبينُك هو نورٌ لعتمةِ المدينةِ التي يتداعى جمالُها وسنحييه يومًا ما،
وقلتُ أيضًا أنُ أهمَّ فرق الأوركسترا ستفتخرُ بأنُها تعزفُ لك.
ومن حفلةِ (اللحنِ الكليّ) الذي درّبتها عليه طويلاً سُرقت مني، يومها حلّقتُ فوق السّحابِ، وأنا أقفزُ من غيمةٍ لأخرى يغمرني صوتُها سحراً ذهبياً يشعُّ الكونُ فيه، وما كدتُ أحطُّ على المسرحِ في دار الأوبرا أمام فرقتي ومليكتي حتُى اختفت.
بمحاولةٍ عاجزةٍ مني كي أستردَ بقايا روحي. تشبّثتُ بتلابيبِ صوتِها،
تعشَّقتُ بمفاصلِ حبِّنا، توسَّلتُ إليها في آخر مواجهة بيننا :
لا أقوى على العيشِ فأنا أتنفّسُ صوتَك. بغيابك أيّامي فرغت من جدواها. أرجوكِ مازال حلٰمُنا في المهدِ، اصبري قليلًا كي يكبرَ، أنا وأنتِ قادرانِ على أن نحلقَ بالفنِّ، رسالتُنا ساميةٌ وحبُّنا طاهرٌ سيدمغانِ بأسطورةِ (اللحنِ الكليِّ)
قالت: لا تقفٰ في طريقي دعكَ من الأوهامِ، حبُّك ورسالتُكَ وألحانُ...
وعوَجَتْ فمَها باستهزاء:
- وألحانُك (الكلية)؟ وقهقهتْ بقسوة ثم تابعت، وأحلامُنا الساذجةُ كلُّها لا تشتري لي مثل هذا الحذاء، وبمخالبِها أشارت للأسفلِ حيث رفعت قدمَها قليلاً عن الأرض اتجاهي؛ ليلمعَ الحذاءُ المرصَّعُ باللؤلؤ، آخرُ ما رأيتُهُ كانت إضاءةـ تنعكسُ عنه فأعمتْ بصري. كانتْ يدي تنهالُ على وجهها الدبق بصفعاتٍ لم أسمع رنينها. عندما أوسعوني ركلاً كانت نظراتي معلَّقةً على حذائِها، وما إن استعدتُ توازني ووقفتُ، حتى لمحتُ نظرةَ الاحتقارِ والتّشفِّي من عينيها.
كم أنا هشٌ وتافهٌ. بلكزةٍ بسيطة من عقب حذائها هويتُ إلى القاع، عجزتُ عن التلحينِ وطلّقتُ فرقتي الموسيقيّةَ التي ما ملَّ أعضاؤها محاولةَ استردادي، وكنتُ أوقفُ حماسَهم ورجاءهم لي بحسمٍ وأقول: لا أستطيع.
فكلُّ ما أستطيعُهُ هو أنْ ألاحقَها متخفِّياً، إلى أن أقرفَ منها وأمتلئَ بكرهِها، علِّي أشفى منها.
أرتشِفُ الآن من كأسٍ بلّلها دمعي. وأغني:
ما لي بِغَيرِكَ أُنسٌ
إِذ كُنتَ خَوفي وَأَمني
صوتيَ الثمل فضح أمري، في سكتة مفاجئة للكهرباء، ترددَ نحيبي صدى لعتمة الصالة، فأيقظني تصفيقٌ حاد، لا أدري إن كان تعاطفا معي أم مع نزولها عن المنصة، وهي تتجه نحوي مع عودة النور، كانت العيونُ كلّها تبحث عني، عطرُها مازال هو ذاته، اخترقت نظراتي قناعها،أرى بوضوح وجهاً أعرفه، يغمرني، أعريّ عطرها عن شوائب مساحيق التجميل، تقف بقربي، أناملها تستند إلى كتفي، أحاول تسلّق شعاع الندم المسدل على غمامتي عينيها، أفرّقه عن نظرات الشفقة، أقاوم محاولة شفائي منها ، وأنفاسها تلفح خدي تذهب بثمالة الخمر لتثملني، وتحتلّ أنفاسي وتغني:
وَإِن تَمَنَّيتُ شَيئاً
فَأَنتَ كُلُّ التَمَنّي
يرسل مالكها وحوشَه، يكتمون صوتي وصوتَها، ويلقون بي خارجا على قارعة الشفاء.
صديقة علي
من مكمني لا أميِّزُ لون عينيها، فالإضاءةُ المبهرةُ لا تكشفُ إلّا عن رموشٍ طويلةٍ لم أعهدها بوجهها من قبل. بدت كصرصارين حطَّا على جفنيها، يتراقصان تحت شعرٍ ذهبيٍّ لا يخصُّها، فستانُها الورديُّ الكاشفُ عن نهدين عارمين تضخّما في غيابي، مع كلِّ صول ومي أفتقد لتلك الشفتين ، كانتا برقَّةِ أوراقِ الورد،تبدوان الآن كقطعتي إسفنجٍ انتفختا بماءٍ أحمر.
يمسحُ فستانها بذيله الطويلِ أرضَ المنصةالمخمليّ، يتسلَّقُ نظري فتحةَ الفستانِ الجانبيّة التي تتسعُ مع كلّ اهتزازٍمبتذل لخصرِها، لينبثقَ منها بياضٌ ساطعٌ تحت نور يدور مع نشاز الموسيقى، ليضربَ أعصابي كما يفعل حذاؤها بكعبه العالي.
شعرتُ أن صوتها يخرجُ من حذائها، وأن حنجرتها التي كنت أعبدُها قد حبست بعيدا في مكانٍ يليقُ بصوتها الأوبرا لي، مسختْهُ هنا في قرارٍ لا جواب له، ولم تغادرْها وكأنّه حُرّم عليها الخروج منها، وهي من كنت أسمّيها ملكةَ السوبرانو، ومع كلّ كلمةٍ تافهةٍ من أغنيتها الهابطةِ كانت تُرفعُ لها الكؤوسُ والآهات.
لا أصدق أن من تغنّي الآن:
قرّب مني... حبك ...جنني
وتفردُ يديها اتِجاهَ الجمهورِ الثّملِ ، هي ذاتُها من كانت تدمعُ عينيها ونظراتها تغوصُ في عينيَّ وهي تصدحُ:
.. عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي
يا مُنيَةَ المُتَمَنّي
أَدَنَيتَني مِنكَ حَتّى
ظَنَنتُ أَنَّكَ أَني
قلتُ لها يومًا: جدائلُكِ السُوداءُ هما أجملُ سُلَّمٍ موسيقيٍّ تصعدُهُ روحي.
جبينُك هو نورٌ لعتمةِ المدينةِ التي يتداعى جمالُها وسنحييه يومًا ما،
وقلتُ أيضًا أنُ أهمَّ فرق الأوركسترا ستفتخرُ بأنُها تعزفُ لك.
ومن حفلةِ (اللحنِ الكليّ) الذي درّبتها عليه طويلاً سُرقت مني، يومها حلّقتُ فوق السّحابِ، وأنا أقفزُ من غيمةٍ لأخرى يغمرني صوتُها سحراً ذهبياً يشعُّ الكونُ فيه، وما كدتُ أحطُّ على المسرحِ في دار الأوبرا أمام فرقتي ومليكتي حتُى اختفت.
بمحاولةٍ عاجزةٍ مني كي أستردَ بقايا روحي. تشبّثتُ بتلابيبِ صوتِها،
تعشَّقتُ بمفاصلِ حبِّنا، توسَّلتُ إليها في آخر مواجهة بيننا :
لا أقوى على العيشِ فأنا أتنفّسُ صوتَك. بغيابك أيّامي فرغت من جدواها. أرجوكِ مازال حلٰمُنا في المهدِ، اصبري قليلًا كي يكبرَ، أنا وأنتِ قادرانِ على أن نحلقَ بالفنِّ، رسالتُنا ساميةٌ وحبُّنا طاهرٌ سيدمغانِ بأسطورةِ (اللحنِ الكليِّ)
قالت: لا تقفٰ في طريقي دعكَ من الأوهامِ، حبُّك ورسالتُكَ وألحانُ...
وعوَجَتْ فمَها باستهزاء:
- وألحانُك (الكلية)؟ وقهقهتْ بقسوة ثم تابعت، وأحلامُنا الساذجةُ كلُّها لا تشتري لي مثل هذا الحذاء، وبمخالبِها أشارت للأسفلِ حيث رفعت قدمَها قليلاً عن الأرض اتجاهي؛ ليلمعَ الحذاءُ المرصَّعُ باللؤلؤ، آخرُ ما رأيتُهُ كانت إضاءةـ تنعكسُ عنه فأعمتْ بصري. كانتْ يدي تنهالُ على وجهها الدبق بصفعاتٍ لم أسمع رنينها. عندما أوسعوني ركلاً كانت نظراتي معلَّقةً على حذائِها، وما إن استعدتُ توازني ووقفتُ، حتى لمحتُ نظرةَ الاحتقارِ والتّشفِّي من عينيها.
كم أنا هشٌ وتافهٌ. بلكزةٍ بسيطة من عقب حذائها هويتُ إلى القاع، عجزتُ عن التلحينِ وطلّقتُ فرقتي الموسيقيّةَ التي ما ملَّ أعضاؤها محاولةَ استردادي، وكنتُ أوقفُ حماسَهم ورجاءهم لي بحسمٍ وأقول: لا أستطيع.
فكلُّ ما أستطيعُهُ هو أنْ ألاحقَها متخفِّياً، إلى أن أقرفَ منها وأمتلئَ بكرهِها، علِّي أشفى منها.
أرتشِفُ الآن من كأسٍ بلّلها دمعي. وأغني:
ما لي بِغَيرِكَ أُنسٌ
إِذ كُنتَ خَوفي وَأَمني
صوتيَ الثمل فضح أمري، في سكتة مفاجئة للكهرباء، ترددَ نحيبي صدى لعتمة الصالة، فأيقظني تصفيقٌ حاد، لا أدري إن كان تعاطفا معي أم مع نزولها عن المنصة، وهي تتجه نحوي مع عودة النور، كانت العيونُ كلّها تبحث عني، عطرُها مازال هو ذاته، اخترقت نظراتي قناعها،أرى بوضوح وجهاً أعرفه، يغمرني، أعريّ عطرها عن شوائب مساحيق التجميل، تقف بقربي، أناملها تستند إلى كتفي، أحاول تسلّق شعاع الندم المسدل على غمامتي عينيها، أفرّقه عن نظرات الشفقة، أقاوم محاولة شفائي منها ، وأنفاسها تلفح خدي تذهب بثمالة الخمر لتثملني، وتحتلّ أنفاسي وتغني:
وَإِن تَمَنَّيتُ شَيئاً
فَأَنتَ كُلُّ التَمَنّي
يرسل مالكها وحوشَه، يكتمون صوتي وصوتَها، ويلقون بي خارجا على قارعة الشفاء.
صديقة علي