رسائل الأدباء تسع رسائل من سيمون دو بوفوار إلى نيلسون ألغرين.. ترجمة : سعيد بوخليط

(الرسالة 1)
السبت ليلا
23فبراير 1947
(على متن قطار كاليفورنيا)

عزيزي نيلسون ألغرين؛
سأحاول الكتابة باللغة الانجليزية. لذلك، أتمنى سعة صدركم وأرنو إلى تسامحكم بخصوص مستواي اللغوي، وكذا توظيفي لبعض الكلمات على غير هدى معناها الحقيقي.أيضا،لا أمتلك خطَّا جميلا،ثم إنِّي بصدد الكتابة داخل قطار منطلق.
حينما افترقنا، أنهيتُ مقالتي في الفندق،أخشى أن لا تكون وفق المستوى المطلوب، لكن لايهم. تناولتُ طعام المساء مع هؤلاء الفرنسيين وقد أحدث لديَّ وجودهم الإحساس بالامتعاض والتقزز، ومن جهة ثانية بسبب كونهم شكلوا أمامي عقبة كي أتقاسم معكم وجبة العشاء تلك.
اتصلتُ بكم هاتفيا، بعدها وجدتُني جالسة على سرير داخل مقطورة القطار،منهمكة في قراءة كتابكم ''صحراء النيون''. استسلمتُ لحكايات صفحاته إلى أن غفوتُ.اليوم، أتابع القراءة بجوار النافذة، وأتملَّى بمتعة تلك المناظر الخارجية : يوم هادئ جدا، لكن قبل الذهاب للنوم، وددت التعبير عن مدى إعجابي بكتابكم، وأنتم أيضا أحببتكم شخصيا كثيرا.
أعتقد، بأنكم أدركتم ملامح هذا الشعور مع أننا لم نتحدث سوى قليلا.
لن أتقدم لكم بمزيد من عبارات الامتنان، لأنها ستكون بلا معنى، في المقابل أودُّ أن تعلموا مدى سعادتي وأنا بصحبتكم. لذلك مستاءة،أن أقول لكم إلى اللقاء، بل ربما وداعا على امتداد حياتي.
أحب حقا الرجوع إلى شيكاغو شهر أبريل، استمروا في استحضار سيرتي ثم أخبروني عنكم. هل سيكون الوقت لصالحنا؟ أتساءل،عموما : افترقنا البارحة ونحن منزعجان، ألن يكون فظيعا الافتراق بعد أن تقاسمنا معا خمسة أو ستة أيام وتحولنا بالتأكيد إلى صديقين جيِّدين؟لاأعرف.
عموما، إلى اللقاء أو وداعا، لن أنسى تلك اليومين في شيكاغو، توخيت القول لن أنساك.

سيمون دو بوفوار


****

(الرسالة الثانية )

صديقي العزيز،
حينما عدت من السفر إلى كاليفورنيا، صادفت رسالتكم وكذا هدية الكتب. أتدرون،لقد بحثت عن عناوين تلك الكتب عبر مختلف الوكالات التجارية لفندق بالمر هاوس، لكني أصبت بخيبة كبيرة جراء فشلي في العثور عليها، ليس فقط لأني أتوخى قراءتها، بل لكونها نفحة منكم، مما جعلها لدي ثمينة. لذلك، تغمرني سعادة حقيقية لأنها حاليا ماثلة بين يدي، بجانب الرسالة.
لازلت غير متأكدة هل سيكون بوسعي القدوم إلى شيكاغو شهر أبريل، بحيث تقتضي الفترة الحالية مني تقديم محاضرات عديدة في نيويورك. لكن عموما، أنا شبه متيقنة من عودتي السنة المقبلة إلى أمريكا. ذلك، أن أصدقائي المتواجدين في لوس أنجلس سيبيعون روايتي الأخيرة(1) إلى منتج سينمائي؛ وأنا سعيدة لهذا الأمر، بالتالي يمكنني الرجوع لقضاء فترة طويلة وخلالها أتدبّر حيثيات مسألة المكوث قليلا في شيكاغو.
هل ترغبون حقا في السفر إلى باريس؟ سأصطحبكم بسرور قصد اكتشاف تفاصيل المدينة.أتطلع قبل كل شيء للحصول على روايتكم(2)، حاولوا من فضلكم توفيرها إلي.
لقد أعجبتني كاليفورنيا كثيرا، ثم سان فرانسيسكو بمناظرها الرائعة ومدى لطف أهلها.التقيت هناك ثانية أفضل صديقة لي(3)، وقد انقطع الوصال معها طيلة سنة كاملة، بعد مغادرتها باريس لدواعي زواجها من أمريكي.
تمكنت من الاطلاع قليلا على مضمون رواية توماس وولف (4)، لابأس. غير أني سأتذكر باستمرار شارع شيكاغو(5)، والحانات الصغيرة القابعة في الحي البولوني،ثم الرياح الباردة : لن أنسى قط تلك الأجواء.
إلى اللقاء. سعيدة بهذه الفرصة التي أتاحت إلي إمكانية التعرف إليكم ومتيقنة من أننا سنلتقي مجددا، سواء خلال هذه السنة أو العام المقبل.

سيمون دو بوفوار.


***

الرسالة (3)
إلى أمي إليزابيت
بلدة سانس ،27 يناير 1862
جدِّي العزيز،
وصلتني منذ قليل رسالتكَ الجميلة والرائعة.يبدو جليا الآن اطلاعكَ على رسائلي السابقة.لقد استبقت مضامين أجوبتها،دون أن تدري جانبا من اعتراضاتك.اسمح لي بهذا الخصوص مناقشتكَ قليلا مرة أخرى.
أؤكد بأني لاأحتقر قط إدارة السجلات،فقط أعتبرها فضاء لايتناسب كفاية مع مؤهلاتي مقارنة مع التواجد داخل أسوار الجامعة.
لقد أخبرنا مدير الثانوية بأن أساتذة اللغات الحية الذين تمكنوا من اجتياز الامتحان ينتسبون إلى الجامعة.إن اتفقنا وسلمنا بعدم صحة تقديره :بمجرد الظفر بمنصب أستاذ للغات،يمكنني حينها اجتياز مستوى الإجازة.تحقق سعي كهذا،يجعلني تحديدا عند ذات موقع زملائي،وليس موقعا تاليا.
أشار حديثك إلى مدرسة المعلمين وكذا أستاذية الآداب.أعتقد،بهذا الخصوص أن مستقبلي سيضيِّع كثيرا من آفاقه قياسا لمستوى الطموح الذي يسكنني: هذا مايراه أيضا مدير الثانوية.
نادرا،يضيف،بل يستحيل،بالنسبة لأستاذ يدرِّس اللغات،مثقف،بوسعه الكتابة أو التكلم،وحائزا على درجة الدكتوراه عدم توفر إمكانية انتسابه إلى الجسم الأستاذي لكلية معينة.غير أن الأصعب بالنسبة إلي،قبل ذلك،يتمثل في شهادة الإجازة،وسأتمكن بفضل الاجتهاد من تحقيق هذا الانجاز،ثم تحت حافز يتماهى أكثر مع ذوقي قياسا ببقائي في إدارة السجلات،شيء من السحر ينبغي لذهن جاد امتلاكه.
لذلك،حسب تصوري إن لم تكن الأستاذية في الكلية أكثر اعتبارية فهي على الأقل أكثر إشعاعا من المكوث داخل مكتب إداري :أود القول أكثر إشعاعا بالنسبة إلي.
أما عن الجانب الصحي،فالعديد من أصدقائي الأساتذة يؤدون حصصهم داخل الفصل الدراسي دون صراخ ولايبذلون مجهودا يشعرهم بالتعب،مع ذلك يبدو عليهم الإرهاق، بالتالي،لاأتوخى أن أكون سواء قويا جبارا لأقصى حد،ولاأيضا في غاية الضعف .
حدثتني عن شخص اسمه السيد ”لويس”،”لاو” أو ”لان”(1)؟لاأعرف قط أحدا معينا بهذا الاسم. ذلك أن صديقي،وهو أيضا أستاذ في مدرسة سان سير العسكرية لاينحدر من لندن بل مدينة أوكسير،إنه فرنسي كما الشأن معي بحيث يبرهن اسمه على ذلك. للإشارة، ليس ارتقاؤه السريع،تجلت مراحله داخل بلدة سانس نفسها، من ألهمني هذا الطريق.
لاتجد أمي الوقت للكتابة إليكما :بدوري،لاأغادر مكتبي سوى في حدود الساعة الخامسة،ولايبقى امامي سوى حيز قصير للانكباب على تدوين أفكار وتأملات منصبة على ماجرى خلال اليوم،لأن المنصب في نهاية المطاف سينقضي أجله.
إلى اللقاء جدِّي العزيز،أقبلك وجدَّتي بمجموع قلبي،وأقدم لكما وعدا بإسعادكما من خلال نجاحاتي المهنية،لكن شريطة أن تفسحوا لي مجال انتشال ذاتي مما أرغب في مغادرته مؤمنا بعدم قدرتي في خضم السياق الحالي على تقديم الأفضل.
ستيفان.
(1)يتعلق الأمر تحديدا باسم ”لان” ( Lane).فقد بادرت السيدة ديسمولانس إلى مراسلة أستاذ اللغة الانجليزية في سان سير العسكرية بهدف تجميعها لمختلف المعطيات حول المسار الجامعي،انطلاقا من اعتقادها بأنه الشخص الذي ألمح إليه ستيفان مالارميه في رسالته ليوم 17يناير.
*المصدر : رسائل مالارميه،غاليمار،1995


===========

(الرسالة 4 )
الأحد 18 ماي 1947
عزيز شيكاغو الغالي،
أفكر فيكم من باريس حيث أفتقدكم.كان سفر العودة رائعا :بما أننا حلقنا صوب الشرق، توارى الليل.أما في جزيرة نيوفندلاند، فقد تظاهرت الشمس بالغروب، ثم أشرقت ثانية بعد مضي خمس ساعات، فوق منطقة شانون الايرلندية على امتداد خضرة منظر طبيعي. بَدَا كل شيء في غاية الجمال،فتأملت طويلا،لذلك لم أغفو سوى قليلا.
وصلت باريس عند الساعة العاشرة.تمنيت لو انتشلني جمالها وأخرجني من كآبتي، غير أن الوضع خيَّب رغبتي.أولا المدينة حاليا بلا سحر،مكفهرة وقاتمة.إنه يوم الأحد، لذلك تبدو الشوارع فارغة والأجواء كئيبة،عتمة وموت.حتما،قلبي من مات في باريس، وبقي هناك لحظة افتراقنا عند ملتقى طرق شارع برودواي في نيويورك ،وكذا ملاذي في شيكاغو، تحت سقف مكاني الدافئ والحقيقي قرب فؤادكم العاشق.
أفترض بأن هذا سيتغير خلال يومين أو ثلاثة، يساورني إحساس من جديد بأني موصولة بالحياة الفرنسية، عملي، وأصدقائي.مع أني لا أتمنى في الوقت الراهن الاشتغال بمختلف ذلك، فأنا كسولة ومتعبة، وحدها الذكريات تسعدني.
حبيبي،لاأعرف لماذا انتظرتُ كثيرا كي أفصح لك عن غرامي.وددت أن أكون متيقنة، وعدم الإدلاء بكلمات مبتذلة وفارغة.لكن يظهر لي حاليا، بأن الأمر يتعلق حقا منذ البداية بالحب.
عموما،هو الحب يقينا، وقلبي منفطر حزنا.مع ذلك، أنا سعيدة جراء تعاستي تلك، مادمتُ أعلم بأنكم تعيشون ذات اللحظة، وكم هي عذبة أن نتقاسمها معا.
تجلت المتعة معكم عشقا،وحاليا صارت المعاناة أيضا عشقا،هكذا يلزمنا ملامسة جلّ معاني الحب. بهجة استعادة اللقيا، اكتشفناها، أرغب فيها،أحتاج إليها،وسأنالها.
انتظروني، فأنا في انتظاركم.أحبّكم أكثر مما أخبرتكم به،بل أكثر مما يخطر بين طيات ذهنكم.
سأكتب إليكم باستمرار،فلتفعلوا كذلك من جهتكم.
أنا زوجتكم دائما.
سيمون.
أنهيت كتابكم وقد أثار إعجابي جدا، بالتأكيد سأترجمه.قبلاتي التي لاتحصى،ثم قبلاتي.لذيذة هي قبلاتك.
أحبّكم.


======================


الرسالة (5)

الأربعاء 23 ماي 1947

عزيزي،
يسرني أن أكتب إليكم من هذه الغرفة الصغيرة في الفندق الريفي. تشير الساعة حاليا إلى الخامسة ظهرا،تلمع الشمس بتؤدة فوق القرية وكذا التلال الخضراء،أجلس على طاولة تجاور النافذة المنفتحة،وضعية تجعلني خلال الآن ذاته متواجدة في الداخل والخارج.غير بعيدة سوى بمسافة ميل واحد، عن بور رويال- دي- شامب،دير الرهبان الشهير الذي قضى باسكال داخله ردحا من الزمان؛وأيضا درس هناك راسين،بحيث يمكننا أن نرى من نقطة مكاني طريقا صغيرا شكَّل مجالا لفسحه مستمعا خلالها للطيور وهي تشدو،بل انه نظم بهذا الخصوص قصيدة رديئة نُحِتت على ألواح.
منذ رسالتي الأخيرة قضيت يومين هادئين جدا،بحيث نمت من الساعة العاشرة ليلا غاية ظهيرة اليوم الموالي لأنه لم يزعجني حينئذ شخص ظريف.هكذا،استوفيت حاجتي من النوم،وقد سادتني رغبة مهولة.
أستمتع بأطباق رائعة طازجة مبلَّلة بالنبيذ الأحمر،أتمشى قليلا،ثم أعود إلى غرفتي كي أقرأ أو أحاول الاشتغال قليلا.أتناول وجبة العشاء في حدود الساعة الثامنة ثم مباشرة صوب سرير النوم. من النادر أن أسلك نمط حياة من هذا القبيل،لكن بدا الأمر ضروريا.
اتجه اهتمامي نحو الاطلاع على الأدب الأمريكي،تحديدا كتابات روائية اسمها كارسن ماكالرز،غير أن ذلك لم يكن مثيرا للاهتمام.بالموازاة،مستمرة دائما في قراءة كافكا.أريد منكم حقا المبادرة إلى الاهتمام بالأدب الفرنسي المعاصر.لقد ترجمت مجلة”Partisan Review” بجانب منابر أخرى،رواية ”الغريب” لألبير كامو،ثم عمليْ سارتر ”الذباب” و”خلف الأبواب المغلقة”. متأكدة من أن ماري غولدشتاين لن تترد في إتاحة هذه النصوص لكم .
يجدر بكم زوجي عزيزي،محاولة حيازة معطيات عن حياتي الفرنسية مثلما سأحاول استلهام يومياتكم في شيكاغو.هل تريدون ذلك حقا؟
أكتب بالقلم الأحمر الصغير اللامع هديتكم إلي،كما يزين خاتمكم أصبعي.إنها المرة الأولى التي أفعل فيها صنيعا من هذا القبيل ،مما أثار ذهول الجميع هنا في باريس.
أنتظر بلهفة رسائلكم،هل تدركون بأني أفتقدكم،أشتاق إلى شفتيكم،أناملكم،أحتاج إلى جسدكم الساخن والقوي،وجهكم وابتسامتكم،صوتكم،أفتقدكم بقوة.لأنه فعلا،جعلتموني أحس بأنكم حقيقة ملموسة،وليس مجرد حلم،فأنتم كائن حي لذلك سألتقيكم ثانية. قبل أسبوع،كنا معا منزويين داخل غرفة في نيويورك.ولازال الموعد بعيدا كي نلتقي مرة أخرى.
يلبسني وجهكم،وكذا قبلات مبعثها شفتين في غاية العذوبة والجاذبية.
أبعث لكم من فرنسا ورودا صغيرة اقتطفتها هدية لكم.
سيمون.


==============================

=
الرسالة (6)

السبت 24 ماي 1947
عزيزي الغالي جدا نيلسون أليغرين،
وصلتني اليوم رسائلكم المدبَّجة على صفحات تلك الأوراق الصفراء الصغيرة،لحظة غمرني خلالها فيض من السعادة.تشبهكم هذه الرسائل،لكونها حزينة ومرحة في ذات الوقت، تربكني عشقا ويختل معها توازني لأنها ترنّ بالحقيقي كثيرا.
قلتم بأني أمتلك حسّ الحقيقي وغيره، وأنا فخورة حين سماع ذلك. شعرت على الفور مدى صدقكم مع ذاتكم، الأمر الذي جذبني إليكم منذ الوهلة الأولى، ثم الشغف بكم.
كل شيء صادق معكم، الكلمات، الإشارات، الحب والكراهية، اللذة الألم، بل حياتكم في مجملها. بدوري، أشعرتني صحبتكم بأني حقيقية،ثم بَدَا كل شيء أصيلا.
سعيدة لأنكم تلمسون استمرار حضوري هناك داخل ملاذنا الصغير في شيكاغو، والذي لم أغادره غاية يوم رحلتنا إلى مدينة نيو- أورلينز.
بالتأكيد وصلتكم في الوقت الراهن بعض رسائلي،تلك التي بعثتها من نيوفندلاند، وكذا برقية باريس وربما رسالتين أو ثلاث أخرى.
لقد قررت الانكباب على العمل بجدية، وإعادة قراءة مختلف ماكتبتُه سابقا عن المرأة طيلة ستة أشهر، عموما ليست المعطيات في غاية السوء، غير أني أواجه صعوبة بخصوص استئناف الكتابة ثانية،لذلك أقف عاجزة عن فهم كيف يتأتى لشخص ما،كتابة أيِّ شيء. العالم الرحب مثلما هو موجود،في غير حاجة قط إلى كلماتنا.
أتذكر شيكاغو، وأنا بصدد تأمل هذا المنظر الأخضر الفرنسي،فماذا تلتمسون أكثر ؟
غدا ينطلق ثانية عملي،بمزيد من النجاح كما أرجو؛ بل يلزمني ذلك.
لاتترددوا في مراسلتي،دوما بلا توقف.فرسائلكم ذات الأوراق الصفراء مبهجة للغاية. من جهتي أعشق جدا،الكتابة إليكم، فهل بوسعكم تقديم تفسير لهذا اللغز؟
تمكِّنني اللغة الفرنسية،من التعبير بسلاسة عن رغباتي،في المقابل تظل لغتي الانجليزية على قدر المستطاع حسب اعتقادي،كي أبلِّغكم عشقي، وهي القضية الأساسية.
أحبُّكم يامجنوني الرائع.
سيمون.


********************


الرسالة (7)


الخميس 29 ماي 1947

حبيبي،
بالكاد توقف القطار في باريس حتى غادرته مسرعة نحو سيارة أجرة ثم وثبت من الأخيرة صوب الدرج مباشرة،لكن للحسرة لم أعثر على أيِّ رسالة،أعلم بهذا الخصوص أنك لست مذنبا،فمدينة شيكاغو بعيدة جدا،وسرعة الطائرات بطيئة.
محزن حبيبي،عدم اطلاعي على تفاصيل يومياتك منذ يوم الأحد الأخير.ربما ذهبتم لزيارة أختكم ورافقتموها للتسوق،غير هذا؟بالتأكيد انتابكم التيه خلال التسوق.أعشق الإحاطة بمختلف التفاصيل الصغيرة المتعلقة بكم.
باريس متألقة.عليكم بزيارتها ما إن تتوفر لكم إمكانية ثمن تذكرة الطائرة.في حين، من جهتي، بوسعي توفير أجواء يوميات الحياة المشتركة بيننا.لاتقطبوا حاجبيكم،أو تظهروا انزعاجا بشأن فكرة قبول نقودي،مادمتُ بدوري سأستعين بذخيرتكم المالية إن احتجتُ إليها لرحلة زيارتكم،فممتلكاتنا مشتركة،مادام الحب جامع بيننا.فلتأتوا إلى باريس،سنكون سعيدان مثلما اختبرنا نوعية هذا الشعور سابقا في نيويورك.
سيروق لي أن أبرز لكم معالم مدينتي،وعد وليس مجرد كلمات ملقاة على عواهنها،فأنا لاأتكلم قط دون فعل،وجب معرفة هذه الحقيقة،أيضا بوسعي تقديم مايفوق المال كثيرا،في سبيل معاينة حضوركم إلى جواري هنا بباريس.تذكروا بأني أحبكم،عزيزي” الشاب المنحدر”من شيكاغو.
إذن باريس جذابة،زرقاء، دافئة، مع أوراق أشجار خضراء،عطور رائعة، نساء جميلات وأنيقات بفساتينهن الصيفية،عشاق يتبادلون القُبَل وسط الشوارع،الناس سعداء.
اصطحبتُ أصدقائي إلى ساحة ”تيرتر”في حي”مونمارتر”.هل لديكم فكرة معينة عن هذا المكان الرائع؟ سنقصده معا.بوسع الزوار أن يتناولوا هناك عشاء وسط الهواء الطلق على أنغام موسيقية رخيصة لكنها مثيرة ،وتذوقهم أطباق أكل بارعة ارتوت بنبيذ فاخر،مع سماء فوق رؤوسهم والمدينة الكبيرة عند أقدامهم.
غادرنا مشيا ونحن نخوض في نقاشات،ثم استرحنا قليلا مرة أخرى عند حانة بيانو مفتوحة على الشارع،ممتلئة بأفراد يثرثرون فيما بينهم ببهجة.مشهد لن نصادفه قط في أمريكا.فجأة ظهرت إحدى البلهاوات،بكل ماتحمله الكلمة من دلالة،بلغت عمرا متقدما وذميمة جدا، اكتسى وجهها طلاء من ألوان المساحيق،الأحمر، الوردي، الأزرق، الأبيض،شعرها مصبوغ تخفيه قبعة قش كبيرة.شرعت المرأة ترقص رافعة الجزء الأسفل من فستانها إلى أعلى ركبتيها،كي تكشف عن عري قدمين وفخذين هزيلين يرثى لحالهما وهي تزعق بفحش غير قابل للتصور.
بقينا في الحانة غاية موعد ساعة الإغلاق،فأرغمونا على المغادرة،ثم عدنا ثانية إلى منطقة سان جيرمان دي بريprés،حيث أقطن،هكذا طوينا بعض دروب باريس وقد شرع بزوغ الفجر يلوِّح فوق نهر السين،أزرق داكنا،ريفيا.في النهاية،أويتُ إلى فراشي،وأنا أفكر فيكم حبيبي،مفعمة برغبة تقاسم معكم أجواء هذا الليل الباريسي.
خلال اليوم التالي،رحلتُ مرة أخرى نحو الفندق الريفي ذي اللونين الأزرق والأصفر.حاليا، أعمل دون توقف، ويأتي باستمرار أصدقاء (1)لزيارتي،أتداول معهم أحاديث نقاشات.وددتُ التحدث معكم بشأنهم،لكنه أمر شاق عبر فقرات رسالة لغتها الانجليزية، ثم خاصة أرغب في البقاء وحيدة معكم لأطول فترة ممكنة.
ينتابني خوف كبير،من أن لايرتقي تعبير رسالتي بالانجليزية إلى المستوى المطلوب،فالوقت متأخر ليلا وأنا على فراشي تقريبا شبه نائمة. أتمنى الحلم بكم،غير أن أحلامي لاتسعفني.
أحبكم،أعانقكم بحرارة.

(1)الإشارة هنا إلى سارتر وجاك لوران بوست.


=====================



الرسالة (8)

الاثنين 02 يونيو1947
حبيبي،
هذه المرة،الرسالة هنا بالتالي هرولتُ نحو غرفتي؛يخفق قلبي بقوة وأشعر بين أصابعي قطعة ورق تحسستها سابقا أصابعكم.إحساس أشعرني بالسعادة،مهما بلغ مستوى الحزن الذي تطويه صفحات الرسالة: حقيقة لم تتشابك أصابعنا.لقد قرأتُها وأعدت قراءتها غير أن هذا الأمر لم يبعثكم فعليا على أرض الواقع،بل ولا قِطَّتكم.
شكرا بالنسبة لهدية الكتب،لقد قرأتُ ألكسندر كوبرين(1)،تصرف طيب منكم،مع ذلك أفضِّل رسائلكم عن أيِّ كتاب آخر.لاتترددوا بخصوص إخباري عن تفاصيل يومياتكم،فكل مايحدث هناك يعتبر مسألة جوهرية بالنسبة إلي،مثلا هل سَبَحتم؟ثم طبيعة العظام التي قضمتم؟
سأبقى في باريس طيلة الأسبوع،يلزمني الالتقاء ببعض الأشخاص وكذا الاشتغال على مجلة الأزمنة الحديثة.
تخنقنا حرارة المناخ طيلة اليوم؛والليالي أكثر حرارة لكنها أيضا ناعمة وجميلة،لذلك يمكننا تناول أطباق وجبات العشاء خارج المنازل في الحدائق أو أمكنة صغيرة ثم بعد ذلك الترجل مشيا لفترة طويلة بين مسالك أزقة تغص بالمارة وتبعث على المرح.
خلال الصباح،تغمر حيوية غير عادية الحي الذي أقطنه،لأنه يضم سوقا(2)بحيث تشتري النساء حاجياتهن من السمك،اللحم، الكرز، والخضر،فيحدثن ضجيجا جراء دوي الثرثرة والنقاشات والقهقهات.الأسعار مرتفعة جدا،لكن على الأقل البضائع متوفرة،والوضع يدعو إلى البهجة مقارنة مع حقبة كانت إبانها الشوارع خالية.
أحب اقتفاء أثر ذاتي،الصاخب والمتوقِّد،فأجدني داخل مقهى ”لي دوماغو” الباريسي قصد الانكباب على الكتابة إليكم،ثم الاشتغال لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات.بدأت أثابر من جديد،رغم أن الإيقاع لم يبلغ بعد المستوى المتوخى.
البارحة صباحا حضرتُ العرض الأول لفيلم فرنسي رائع(3)،الأفضل ربما.نواة حكايته بسيطة لكنها سردت بطريقة جيدة وغنية بدلالاتها :شاب وشابة في مقتبل العمر،أغرم أحدهما بالثاني، إبان حرب(1914- 1918)،الشاب يبلغ من العمر سبعة عشر سنة،والفتاة في سن العشرين تزوجت جنديا دون حبّ.لذلك،شكلت الحرب بالنسبة لهذين العاشقين الشابين فسحة،غير أن حبهما سحقه الكبار،لأن فتوّة سنّهما أفقدتهما ممكنات المقاومة،فانفصلا وتوفيت الفتاة.حينما انتهى الفيلم وأضاءت ثانية مصابيح قاعة السينما،لاحظت تأثر وحزن الجميع.
تحقق السينما الفرنسية في الوقت الراهن تطورا،إنها أكثر جرأة،وإنسانية وصدقا من هوليود. الحياة هنا مثيرة جدا للاهتمام،لكنها صعبة وعسيرة على الفهم،لأسباب عدة. يتعبني التحدث لكم عن هذا الموضوع،وقد شرحت لكم الوضعية شيئا ما،حينما كنت في شيكاغو،بسبب ضغط الفترة الزمانية.لذلك سيكون وضعنا مختلفا السنة المقبلة،لأننا سنقضي معا فترة أطول،ولن أتيح لكم المجال كي تنشغلوا،أو تنغمسوا في أمر آخر،وكذا الإسراع باستمرار وجهة حديقة الحيوان؛سأبقيكم جالسا بجواري طيلة ساعات وساعات مثلما جرى عليه الوضع ونحن في نيويورك.
أتمنى أن تتسم علاقتنا بحميمة عميقة،وينكشف أحدنا للثاني قدر مستوى عشقنا،أحتاج إلى ذلك.بالتأكيد الحب أولي،يمثل في حد ذاته معرفة.أنا فخورة بنا معا،إننا رائعان لكوننا استثمرنا إلى هذا الحد هامش الوقت الذي أتيح لنا.أتذكر،بأنكم قلتم لي خلال الليلة الأولى داخل سيارة الأجرة:”ليس لدينا وقتا كي نضيعه”.نفس العبارة،نسجتها شفتاي :”نعم،ممنوع تضييع الوقت”.
حقا لم نضيع دقيقة واحدة،لذلك لم أشعر بأن متسع حيزنا الزماني لن يتجاوز أسبوعا واحدا،مادمتُ قد أحسستُ بأني موصولة بكم عبر مئات الروابط،غير قابلة للتقويض.
صديقي، حبيبي، تمنحونني الكثير حتى من بعيد عبر الأثير.انصباب تفكيركم حولي، يمدني بالسكينة والفرح.
قبلات تخبركم بشكل أفضل عن مدى مكانتكم الغالية داخل قلبي.
سيمون


*هوامش :
(1)مؤلف”ياما”،”الحفرة”(1909).الفكرة المستقبلية لرواية :”الرجل ذو الذراع الذهبية”،استعارها نيلسون ألغرين من ملهمه ألكسندر كوبرين:”هل تدركون، سيداتي،بأن الفظيع حقا يكمن في :عدم وجود هذا الفظيع!”
(2)المقصود سوق بوكي القائم غاية الآن.
(3)فيلم ”الشيطان في الجسد”(1946).



====================


الرسالة (9)

الاثنين ليلا 19 يوليو 1948

نيلسون حبيبي،
وصلتني رسالة عذبة، هادئة ثم ودودة.هكذا،لاحظ أصدقائي”أجواء المرح البادية عليكم !”.نعم.
تشير الساعة حاليا إلى منتصف الليل ومع ذلك لستُ منهكة،فقد ارتشفتُ منذ قليل عصير ليمون يحوي شرابا مسكرا(ويسكي غير موجود)ثم احتضنتكم قبل أن يستغرقني النوم.
تلقيتُ تهنئة من جان جنيه بخصوص لباسي الرسمي وتميز مظهري،ثم أيضا بمناسبة إصداري الحديث، أخير غازلني.يعيش حاليا قصة مع عاشق جديد، وشرع في تأليف مسرحية جديدة، لكنه يواصل تحديه مثل عامة الناس،على إظهار كونه مماثلا لذاته.
كذلك ودعتُ صديقة روسية رحلت إلى الريف بغية الاستجمام؛ تراجيدية صغيرة جديدة من أجل التغيير؛يلزمها خلال شهرين أن تلعب مرة أخرى دورا في مسرحية الذباب،مثلما باشرت منذ فترة عملها في فيلم الدماء؛أراهن منذ الآن حرفيا على وهنها الصحي حين انطلاق أولى تداريب و بروفات العرض،وعجزها عن أداء دورها.
هكذا، حاولت عبثا إقناعها بضرورة خلودها للراحة على امتداد سنة قبل عودتها ثانية،غير أنها أظهرت نفاذ صبر بخصوص تطلعها نحو أقرب فرصة ممكنة بغية اكتشافها وقوع الأسوأ من عدمه.تصرف أرعن،ولايملك أيّ شخص سلطة ثنيها عن مبتغاها.
تناولتُ البارحة طعام العشاء مع زوجها جاك لوران بوست،المؤلف الشاب لكتاب : آخر المهن.امتد حفل ضخم متنقل على امتداد شارع مونمارتر؛فأثارت اهتمامي بعمق بين ثنايا ليل مكفهر،ألعاب القطارات الترفيهية،ومسابقات اليانصيب،والسحر الذي يبعث به البهلوانيون.
لوران بوست،شاب عاشرته وضاجعته طيلة سنوات عديدة قبل التعرف عليكم،لذلك توقفت منذ السنة الماضية بعد عودتي من نيويورك نظرا للسبب الذي تعرفونه. حكاية لم تعد لها أيّ أهمية كما السابق،وقد أنهيتها،لذلك لم أهمس لكم حول الموضوع بكلمة واحدة.
يستمر بيننا تواصل حميمي لاسيما أنه ليس سعيدا جدا راهنا فيما يتعلق بشؤونه الغرامية،فأن تكون متزوجا من امرأة كما الشأن بالنسبة لزوجته الحالية يشكل عائقا حقيقيا أمام الحياة العاطفية. يعكر شيء من الحزن صفو أمسيتنا.
حينما انتهت الأمور بيننا،لم يشعره موقفي بالغضب.يقينا،يعلم بأني لم أكن قط مغرمة به،في نفس الوقت لم يستسغ قراري هذا ثم استمر بيننا نوع من الانزعاج.
أروي لكم هذه المعطيات،نظرا لالتماسكم مني إخباركم بما يدور في رأسي المجنون،بجانب توفر رغبتي أيضا كي تعرفوا عني حقائق كثيرة.
كما تعلمون،بوسعي من أجلكم التخلي عن الكثير أبعد من وجود شاب فاتن،بل التنازل عن أشياء عدة.في المقابل،لن أحافظ على سيمون التي تروق لكم،إن نزع تفكيري نحو الانفصال عن سارتر،حينها سأغدو مجرد امرأة حقيرة،خائنة، أنانية. يلزمكم إدراك هذه الحقيقة،كيفما جاءت طبيعة القرار الذي ستتخذونه مستقبلا :ليس انعدام الشعور بالحب من يفسح لي المجال كي أبتعد عنكم .بل أنا متأكدة،بأن وقْع انفصال من هذا القبيل إن حدث، سيكون أثره الشخصي علي أكثر قسوة من ارتداداته عليكم،لأني سأفتقدكم بكيفية مؤلمة قياسا لتأثيرغيابي عنكم،فلايمكنني سوى أن أعشقكم أكثر،والتشوق إليكم على نحو أكبر،بالتالي لايمكن لغيابكم غير اتصافه بوقع جلل. ربما تدركون ذلك.
لكن،وجب التنصيص في ذات الوقت،على مسألة وإن أظهرتني متبجحة : إلى أي حد يظل سارتر محتاجا لحضوري بجانبه.
يتميز سارتر بعزلته الشديدة، فيما يتعلق بحياته الخارجية،ثم ممزقا جدا ذاتيا وفي غاية الاضطراب، وأنا بمثابة صديقته الحقيقية،رفيقته الوحيدة التي تستوعبه حقا،أساعده فعلا،أعمل معه،وأمنحه السكينة والتوازن.
منذ عشرين سنة، فَعَل كل شيء بالنسبة إلي،ساعدني كي أحيا وأعثر على ذاتي، وضحى من أجلي بعدة أمور.حاليا،ومنذ أربع أو خمس سنوات،حان موعد ردِّ الجميل نظير مواقفه معي،فمن واجبي أن أساعده،وقد مد لي يد العون باستمرار،لذلك لايمكنني قط التخلي عنه.ربما أبتعد عنه لفترات طويلة تقريبا،لكن يستحيل ربط حياتي بأكملها مع شخص آخر غيره.أكره الحديث ثانية عن هذا الموضوع.أعلم بأني عرضة لمجازفة أن أفقدكم،وأعلم دلالة نتيجة من هذا القبيل بالنسبة إلي.
ينبغي لكم نيلسون،استيعاب حيثيات موقفي،ويلزمني فعلا التأكد من ذلك :سأكون سعيدة لقضاء أيام وليال صحبتكم غاية وفاتي،سواء في شيكاغو،باريس أو كاستينانغو (غواتيمالا)،فلايمكنني اختبار تجربة عشق تعادل ماأحسسته نحوكم،عشق يجمع بين الجسد،القلب والروح.بالتالي، أفضل بالأحرى الموت بدل التسبب في إحداث ألم عميق،أو خطأ غير قابل للإصلاح نحو شخص قام بكل مابوسعه من أجل سعادتي.
صدقوني،يشعرني الموت بالتمرد،في حين لن أتحمل مقارنة مع الموت،فكرة أن أخسركم وأفقدكم.ربما تظنون كلامي هذا مجرد حكايات،بيد أنها جوهرية بالنسبة إلي حياتي وغرامنا،لذلك تستحق.ولأنكم تطلبون مني ما أفكر فيه،ونظرا لإحساسي بمنتهى الأمان معكم، أكتشف لكم عن مختلف مكنوناتي قلبي.
الآن سأذهب إلى فراشي،لكن قبل ذلك،أبعث لكم بهذه القبلة العاشقة،قبلة حنونة.




===============






ترجمة : سعيد بوخليط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى