سعيد الشحات - ذات يوم.. 23 سبتمبر 1928 طه حسين يرثى «ثروت باشا»: هل تظن أننا نفقد أصدقاءنا حقا.. وهل تظن أننا نحيا بعدهم؟

تلقى الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربى، خبر موت صديقه عبدالخالق ثروت باشا يوم 22 سبتمبر 1928، فصدمه خبر رحيل صديقه «رئيس الوزراء مرتين فى عهد الملك فؤاد، ورئيس حزب الأحرار الدستوريين الذى انتمى إليه حسين».
كتب «العميد» مرثية بليغة، حين قرأ الخبر فى الصحف يوم 23 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1928، ونشرها فى كتابه «فى الصيف».. قال فيها: «هذه الصحف تنقل إلىّ الآن أنه مات فى باريس، وإذن فلن ألقاه، ولن أراه، ولن أسمع له، ولن أقصد إلى بيته إذا انحدرت الشمس فى المساء أو ارتفعت فى الضحى، ولن أجلس إليه، ولن أقضى معه هذه الساعات الحلوة التى كانت ترفه عنى، وتحبب إلىّ الحياة من حين إلى حين».
أنا غارق فى هذه الحسرة، والناس من حولى يقرأون هذا النبأ، ويرددون قراءته، يكذبونه مرة، ويصدقونه مرة أخرى، ويلتمسون العلل والأسباب لتكذيبه وتصديقه، ويرون لو استطاعوا أن أشترك معهم فى هذا التكذيب والتصديق، وفى هذا النقد والتحليل، ولكن ما أنا وهذا اللغو؟ لقد وصل إلى نفسى اسم ثروت ولفظ الموت، أوليس هذا يكفى لأن أعود إلى رشدى وأخلص من غرور هذه الحياة، وأتبين مرة أخرى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة لا غناء فيها، ولا ثقة بها، ولا معتمد عليها، لقد تبينت ذلك، ولما أتجاوز الصبا، ولقد تبينت ذلك مرة ومرة ومرة، وكنت كلما تبينته شديد الاستسلام له، شديد الزهد فى الحياة والنفور منها، أمضى فى ذلك أسابيع ثم شهورا، ثم تعمل الحياة عملها، ويستأنف الغرور بالدهر وما فيه بسط سلطانه على نفسى، فأفكر فى الحياة العاملة، ثم أبتسم لها، ثم أندفع إليها، ولا أزال حتى تفاجئنى كارثة أخرى، فأتبين الغرور وأزهد فى العيش، وعلى هذا النحو أراد الله أن تكون حياتنا جميعا صراعا بين العبرة والفتنة، وأراد الله أن نكون نحن موضوع هذا الصراع.
هذا اسم ثروت يتردد فى نفسى، ويتردد معه لفظ الموت، وتعجز نفسى عن أن تلائم بين هذين اللفظين، وعن أن تحقق هذه الجملة التى تنبئها بأن ثروت قد مات، ومهما أنكر ومهما أعجز عن الملاءمة والتحقيق، ومهما أتردد بين الشك واليقين، ومهما اضطرب بين التصديق والتكذيب، فهذان اللفظان يترددان فى نفسى ترددا متصلا، يقطعها تقطيعا ويفرقها تفريقا، وهذه الساعات يمضى بعضها إثر بعض، وهذه صحف المساء قد جاءت بعد صحف الصباح تصدق الخبر وتثبته، وترثى ثروت وتؤبنه، فليس من شك إذن فى أن القضاء قد لاءم بين ثروت وبين الموت، وحقق ما لا تستطيع نفسى أن تصدقه أو تحققه.
وتضيق بى نفسى، وتضيق بى غرفة الفندق الذى أنا فيه، وأخرج هائما لا أدرى إلى أين أذهب، ولا أعرف ماذا أريد، وأنا أمشى على ساحل البحر لا أكاد أسمع اصطخاب أمواجه، ولا أكاد أحس هذه الريح التى تعصف من حولى، لأنى مغرق فيما أنا فيه من التفكير فى ثروت وفى الموت، ومن تعويد نفسى أن تواجه الحقيقة وتثبت لها، وتعرف أن ثروت قد مات، وليس من اليسير مواجهة هذه الحقائق، إذا كان لهذا الرجل فى نفسك مكانة الشقيق الوفى، الذى اتصلت أسبابك بأسبابه، وبلوته فى الخير والشر، وأنٍست إليه حتى أصبح الأنس إليه جزءا من حياتك.. نعم، ليس هذا يسيرا، وإنما تقف أمامه موقف من يشهد الجرّاح يبتر عضوا من أعضائه دون أن يستطيع له وقفا، أو يجد سبيلا إلى اتقاء الألم والفرار منه، لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم حين يفجعها الموت فى الأصدقاء، هى أزهار نضرة غضة تستقبل الحياة والضوء فى جمال وبهجة، ولكن هذه اليد القاسية يد القضاء تمتد إليها من حين إلى حين فى غير رفق ولا لين، فتنتزع منها ورقة ثم ورقة.. وهى كلمات انتزعت منها بعض أوراقها انكمشت وتضاءلت، وسرى فيها الذبول والفناء، حيث كان يسرى فيها الرواء والماء، ولا تزال يد القدر تتبعها فتنتزع أوراقها، ولا يزال الذبول يتمشى فيها حتى تجف وتيبس، وتصبح هشيما مستعدا لأن تذروه الريح متى عصفت به، وهى عاصفة به من غير شك حين تدنو هذه الساعة التى لا يفلت منها حى، ولا ينجو منها إنسان.
نعم، لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم فهى على هذا كله قبور حية، وهل تظن أننا نفقد أصدقاءنا حقا؟ وهل تظن أننا نحيا بعدهم ونستطيع أن نعيش بدونهم حقا؟ كلا، إنما نفقد الاتصال بأشخاصهم التى تتحرك وتفكر كما نفكر، وتحيا كما نحيا، نفقد العمل معهم، ولكنا لا نفقد جوارهم، والاتصال بنفوسهم.
....................................................................................
سعيد الشحات _اليوم السابع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى