رسائل الأدباء 18 رسالة بين ألبير كامو وماريا كازاريس

الرسالة الأولى:

  • من ألبير كامو إلى ماريا كازاريس
26 ديسمبر 1948، يوم الأحد على الساعة العاشرة ليلا

افتقادك هو نهايتي الأكيدة
يوم بائس. وصلت في هذا الصباح (إلى الجزائر العاصمة) دون أن أتمكن من النوم. كانت الطائرة تشق طريقها من بين النجوم، بنعومة. تحتنا سكينة جزر الباليار، والبحر المليء بالأنوار. فكرت فيك.
قضيتُ يومي كله في عيادة المدينة في مواجهة صرخات امرأة عجوز (خالته) لم تكن تدري أنها على حافة القبر. من حسن الطالع أن أمي كانت هناك. فقد نجت من كل شيء بسبب طيبتها ولا أباليتها (منها علمت أن الأمور بخير).
هذا المساء، رغبت في السير في المدينة. كانت فارغة كما هي عادتها بعد التاسعة ليلا. الأمطار هنا، عنيفة وزمنها قصير. وانا امشي في هذه المدينة المهجورة، شعرت بنفسي كأني في آخر الدنيا. مع أنها مدينتي؟ عندما دخلت إلى غرفتي (أقيم في فندق) خيل لي في لحظة من اللحظات، أني سألقاك هناك، وأننا سنعيش معا شيئا مذهلا، لكن الغرفة كانت فارغة، فبدأت في الكتابة لك.
لم تغادريني منذ البارحة. لم أشعر أبدا بالرغبة فيك وحبك، بذلك القدر من الشراسة، في السماء ليلا، في الفجر، في المطار، في هذه المدينة التي أحسني الآن غريبا فيها، تحت المطر، في الميناء... افتقادك هو نهايتي أيضا. هذا هو جوابي الذي أردته صرخة ما دمتِ قد طلبت مني ذلك.
ولكن يجب أن انام. أكاد أنهار من قلة النوم. لكني أردت فقط قبل ذلك، أن أقاسمك انشغالات يوم مؤثث بك. سأبقى هنا حتى إجراء العملية الثانية (سافر إلى الجزائر لحضور عملية جراحية أجرتها خالته)، حوالي العشرة أيام. أكتبي لي. تلاحقني الأحاسيس السيئة، التي تدفع بي أحيانا إلى فقدان الأمل، فلا تتركيني وحيدا.
آه حبيبتي، لو فقط تدرين، كم أنا في حاجة ماسة إليك. أشعر بنعومة حملك في داخلي مثل هذا المساء حيث أشتهي أن أموت نوما وحنانا.
أقبلك حبيبتي. طويلا مع السماح لك طبعا بالتنفس قليلا.
المراسلات. ص: 98-99

***

  • من إلبير كامو إلى ماريا كازاريس

يوم الثلاثاء 28 ديسمبر 1948.

كلمة فقط حبيبتي، حتى لا ينتهي هذا اليوم دون الكتابة لك.
الوقت متأخر وأشعر بتعب لا يشبهني. بوضوح أكثر، أحسُّني مستهلكا من يوم بكامله من اللقاء مع الذكريات، الحيّ الذي كبرت فيه (بِلْكُور)، والِديْن منْسييْن، صديق طفولة تعشّيت معه قبل قليل. حقيقة، أحتاج إلى ألاّ أعود بشكل متواتر مدينة الجزائر. ومع ذلك، فأمر كهذا لم يكن سيئا كليا. يمكنك أن تأخذيني إلى بروتانيا (Bretagne) التي ولدتِ فيها ثانية.
من حسن حظي أن أمي هنا قريبة، وسأبذل كل غال ونفيس من أجل أن تتعرفي عليها. اليوم في جلسة الغذاء ذكرتك كثيرا. كنت أريد أن أكلمها عنك. عنّا. الذي منعني هو الرغبة في عدم زعزعة سكينتها. تفادي تقليب مواجع قلبها الصافي جدا، والطيب. مع أني لو صارحتها بفرحي وحزني، كان ذلك سيحررني. هي الكائن الوحيد الذي أشعر نحوه بالحاجة إلى المكاشفة بهذا الحب العميق الذي استولى اليوم على حياتي كلها. لست متأكدا من أنها ستفهم ذلك، ولكني على يقين من أنها تتفهّمني لأنها تحبني.
لا أشعر بالحرج في مقاسمتك هذا كله، على الرغم من علمي المسبق بأن ذلك سيوقظ فيك ما هو مؤلم. هي أحاسيس حقيقية ولا يمكنني أن أخفيها عنك. وهو ما يجعلني أفهم ذلك الجانب الخفي فيك الذي تصمتين كلما تعلق الأمر به. في انتظار أن نتقاسم آلامنا بشكل كامل، حزنك حزني، شقاؤك شقائي، حبيبتي.
يوم بهي. تنتابني رغبة آسرة في الذهاب، بل الهرب من هنا والركض نحوك أخيرا. لم أتوقف أبدا عن التفكير فيك. ترافقينني دوما حتى عندما تتمنعين عن ذلك. صورتك تواجهني في غرفتي. أقف أمامها بحنان في كل اللحظات.
في الخارج، كل شيء يذكرني بيومياتنا. ويحدّ من صبري عليك باستمرار.
اشتهيت رسالة منك اليوم، ولكن يبدو ما يزال الوقت مبكرا. لهذا فخيبتي منك هذا المساء غير مبررة، لأني وجدت علبة البريد فارغة. لم يبق أمامي من حل سوى استحضارك بخيالي، وهذا ما أحاول القيام به، بكل صفاء.
فأنتَ إذا تخليتَ عن الجسد شهرا، يستغني هو عنك ستة أشهر. وهذا حقيقي. ما يخيفني في النهاية، هو الشهر السابع؟
وأنت؟ ما دمتُ أنا بانتظارك؟ قلبي يغرق في غيابك.
مساؤك سعيد حبيبتي.

المراسلات ص: 101-102

***
  • من ماريا كازاريس إلى البير كامو

السبت مساء، أول جانفي 1949

حبيبي
ها أنا ذي مستسلمة للحديث معك، ألصق شفتي بشفتيك. إلا أن (بي رغبة للضحك من فرط السعادة) السعادة الكثيرة والكثيفة والمرتبكة جدا، أكبر من أن أتحملها. لكن لا تهتم، كل هذه الأشياء التي تتزاحم في داخلي بقديمها وجديدها، تتداخل بفوضى، لكني أشعر بلذتها وهي تقطر كأنّها عصير مصفى. مثقلة بالنسغ، ولا أتخيلها تنطفئ هكذا بمجرد الرغبة في ذلك.
خائفة.
أنا أيضا أخاف. مرعوبة. وإذا كنت تراني منكفئة على نفسي، أحاول أن أخفي في داخلي هذا الكنز الذي اكتشفته فجأة، لابد أنك تشعر على الأقل براحتي الفجائية، فيدفعك ذلك إلى خشية أقل عليّ.
وعلى كلّ، يلاحَظ ذلك بسهولة. لكني خائفة ولا أعرف لماذا، ولأول مرة في حياتي، أهرب بنظري عندما ينظرون إليّ كثيرا.
أما عن سبب هذا الخوف ومصدره، أنتظرك حبيبي، لنوضح ذلك معا نحن الاثنين. لو تستضيفني في أعماقك قليلا، كما ستفعل، سأكون أخيرا شفافة بشكل مطلق.
ومع ذلك فالأمور ليست بكل هذا السوء. فأنا أرى من وراء الستار، كل شيء، بطيبة واستكانة ربما لأني أرى الأشياء بمودة ربما لأني أحب كل ما يحيط بي.
بالنسبة لوضعنا، فأنا أؤثّثُ يومياتي بالحب. كل حياتي اليوم، هي حب. جزئية صغيرة مستقلة، أسوقها لك كمثال توضيحي: مثلا، فاجأت نفسي أشتهي طفلا منك وأراك بالقرب مني يوم الوضْع.
آه حبيبي لا تعذب نفسك. ليس مهما، لقد تراجعت بسرعة عن هذه الرغبة. لا يمكن لأمر مثل هذا أن يحدث، ولم أشعر إلا بثقل ألم عميق وهادئ جدا.
لا تقل شيئا عن حبّنا لأمك. هي بعيدة جدا، بحبها الكبير لك، يمكن أن يهزها ذلك بعنف. وأكثر من هذا، لا تفتح الموضوع نع أي كان.
أنا خائفة.
لحظة، كلمني أنا فقط بقناع شخصية ثانية. لن تجد من يسمعك بجدية مثلي.
حبيبي.
فكر جيدا. نعم، لقد وصلنا إلى درجة من القبول والاستسلام لبعض، لا قوة تستطيع فيها تفريقنا أبدا. لهذا، قبل أن نقرر، فكر جيدا. لا قوة تدفعك للتوبة عن حماقة ندمت عليها، كما في المرة الماضية.
الأمر خطير جدا ولنا من الأعداء ما لا يمكن عده. عد بسرعة واخرجني من هذه الحزن الذي ينتابني كلما بقيتُ وحيدة، برفقتنا فقط.
تعال بسرعة. أنا بانتظارك بكل اندفاعي نحوك، أصلي، وأصلي، ثم أصلي.
أضمك واقبلك بقوة. أحبك.
اكتب لي. لا يمكنك أن تتخيل السعادة التي تمنحها لي حروفك وخطوطك الغالية. تعكس نظرتك وبعض ابتسامتك.
وصلتني ورودك. كنت أنتظرها. لقد ملأت الدار بسرعة. وأعطت لغرفتي جوا من الفرحة، أكثر مما تمنّيته.
الرسائل. ص. 109-110.

***

* من البير كامو إلى ماريا كازاريس

أول جانفي 1949

في غيابك، باريس جزيرة موحشة
حبيبتي.
تبدأ السنة الجديدة دون أن أتمكن من ضمك بين ذراعي. لم أشعر أبدا في حياتي بمرارة غيابك، مثلما أشعر الآن. صحيح أنك لم تكتبي لي، وهذا يشغلني بلا حدود. لو لم تصلني رسالتك وبرقيتك، والهزة التي أحدثاها فيّ، لكنت الآن في أسوأ حال. أملي أن تكوني قد كتبت لي منذ ذلك الوقت، لأجدك ثانية.
ستخضع خالتي لعملية جراحية للمرة الثانية، الثلاثاء أو الأربعاء. يمكنني أن أغادر بعدها بيومين. إذن، سأكون في باريس في نهاية الأسبوع، على أقصى تقدير. ستكون الرحلة ليلية، وسأصل في وقت مبكر إلى مطار أورلي. عليّ أن أنتظر هناك حتى تستيقظي من نومك، وآتي لأراك. ستنتابني الرعشة، وأنا في المصعد، وكأني سأراك للمرة الأولى.
هل فكرتِ فيّ البارحة، في منتصف الليل؟
أنا مثلا فكرت فيك جدا وبكل قواي، وظللت في حالة إصغاء لنداءات الحب.
تعشيت مع قريب، في أحد النوادي. كانت هناك شابة أزعجتني كثيرا بعد أن أخفقت في جذبي نحوها. في الأخير أخذت الثور من قرنيه، كما يقال، إذ كان يبدو لها من غير اللائق أن يفضّل رجل البقاء وحيدا في عيد رأس السنة. طبعا من غير اللائق، ولم أكن أرغب في ذلك. تمنيت أن أكون برفقتك. أن أشعر بيديك على كتفي. في الأخير، دفعت ب "الأخت المحسنة"، إلى التخلّي عني. وعندما انتصف الليل، كنت وحيدا في مواجهة البار. حتى عندما انطفأت الأضواء إيذانا بالسنة الجديدة، شربت كأسي وكنتِ معي، بسعادة وحزن ثقيلين. هذه هي حالة الشخص العاطفي كما ترين. ولكن مع ذلك، انتابني إحساس غامر بحضورك، وأني لم أكن وحيدا. ثم عدت على البيت تحت سماء مرضعة بالنجوم، الضخمة والدافئة.
إذا كتبت لي، احكي لي كيف قضيتِ ليلة رأس السنة؟ وأنت بعيدة عني آلاف الكيلومترات، وحيدة أليس كذلك، مثل حالتي؟
الأمور اليوم، ليست على ما يرام. أريد أن أعود بأقصى سرعة ممكنك ولقائك. أشعر أن ساعة من الساعات التي تهرب مني، تخرب أثمن ما لدي في الدنيا. وباريس التي تبدو لي اليوم مرفأ يضج بالحياة، حيث أشتهي الهرب نحوه، يمكنها أن تصبح في ثانية، وأنت بعيدة، جزيرة موحشة.
هذا كله حماقة لا معنى لها.
أشعر بنفسي هنا، في حالة ضيق ولا حل يريحني إلا لقاءك، ولأجد نفسي معك في الوقت نفسه.
حتى وقت سفري إلى أمريكا الجنوبية، أتخلّى عن العالم كله، والاكتفاء بالعيش بك وبي.
قد يكون ما أكتبه رسالة بلهاء، ولكن ربما تكونين قد أحسست بشيء من هذا الحب المرهِق الذي يحييني. أكتبي لي أرجوك، حتى أتحرر وأكون أقل التصاقا بحيرتي.
حتى ذلك الوقت، احتفظي بي قريبا منك، أمام تلك للمدفأة التي أفكر فيها دوما.

المراسلات، ص: 111-112

***

  • من ماريا كازاريس إلى ألبير كامو

اسْتَسْلِمْ لِي وامْنَحْنِي فُرْصَةَ أنْ أسْنِدَك
من حسن حظي، أني عندما عدت هذا المساء، وجدت رسالتيك (المؤرختين ب 31 ديسمبر، 1 جانفي) فزرعتا قليلا من الدفء في قلبي.
حتى هذا اليوم، أشعر بنفسي منفية. بعيدة عن العالم. لكن للأسف، كسرت عزلتي، واضطررت اليوم للذهاب إلى برنامج الراديو بعد الظهر، والعرض المسرحي مساء. على كل، كأن الجميع اتفقوا ضدي لكي يؤذوني. ولا يوجد إلا جمهور مسرحية: حالة حصار، الذي كان لطيفا معي. لكن الآخرين... كأنهم اكتشفوا فجأة سعادتي فوضعوا اليد في اليد، لتدميرها. وماذا كانوا سيفعلون غير ذلك؟
على أن أتحمل يومين آخرين في العمل الراديو، وبعدها الراحة والسكينة الكاملة حتى 14 جانفي (موعد العرض المسرحي الثاني) ... وأنت؟
نعم... أنت؟
لو فقط كنت تعرف الشوق الذي يسكنني والحنين إلى حضورك؟ ولأن شعوري بالوحدة كبير هذا المساء، ولا يُقاوم، أشتهي حبيبي البكاء بلا توقف على صدرك ومعك. وكم أريد أن أتقوقع فيك، كالجنين. ها أنا ذي طفلة، صغيرة جدا بدونك. مُهانة. مُهانة بشكل مفجع.
لندع هذا جانبا.
ليلة رأس السنة لم أكن وحيدة. قضيت السهرة عند والدي وبيتو ، حتى منتصف الليل والربع. نستمع في مذياعه إلى راديو إسبانيا. وفي انتظار الاثنتي عشرة رنة التي تطلقها ساعة وزارة الداخلية، الكبيرة (بويرتا دل صول: باب الشمس) كان علينا أولا تحمّل خطاب فرانكو، ثم الاستماع إلى الأغنية التي تؤديها إيديث بياف: la vie en rose، حتى أتصالح مع السماء.
كنت عاطفية ولكني سعيدة وصبورة ومتصالحة مع نفسي. أبي كان متعبا في ذلك المساء. وقمت بكل ما استطعته لتسليته. طوال ذلك لم تغب عني ولا دقيقة. وعندما دقت الساعة منتصف الليل، كان ذهني كله مركزا على الهدايا التي تنتظرني، لدرجة إن اختلط عليَ عدد حبات العنب. أكلت 16 حبة بدل 12 الاعتيادية. لا أعرف كيف حدث ذلك؟ لدرجة أن أبي خشي عليّ من انسداد أنفاسي، وسط قهقهات ميراي وأنجيل.
عندما انتهينا كانت عيناي مليئتان بالدموع، وبشيء أسكتهم جميعا.
ثم خلوت بك في شُقَقي الخاصة.
هذا هو احتفالي برأس السنة.
بسرعة، السبت أو الأحد؟ كم يبدو الوقت طويلا. أنا أيضا أشعر بشيء من القلق من فكرة رؤيتك، كما لو أن أمرا خطيرا سيحدث. حاول ألاّ تفكر كثيرا لأنك، ربما، ستُصاب بخيبة أمل، وسيكون الأمر محزنا. هل تعلم حبيبي أنني منذ الآن سأظهر تماما كما أنا، وكما اشتهيتُ أن أكون؟
احْكِ لي عن تلك المرأة التي "الملحاحة" التي تمنت بإصرار شديد أن تقاسمها حفلة راس السنة؟
أحبك. تعال. ساعدني على تحمل مشقة الحياة. احمني أيضا.
استسلم لي وامنحني فرصة أن أسندك بدوري.
ضمني بكلي إليك.

المراسلات، ص: 112-113

***

  • من البير كامو إلى ماريا كازاريس

الاثنين مساء، 3 جانفي 1949

مكتئب ولا شيء في رأسي غيرك
لم تصلني إلا اليوم رسالة الخميس.
كنت أعرف سلفا أن احتفالات وعطل عمال البريد، مسؤولة عن تأخر وصول الرسالة، لكنّني في هذه الأيام أشعر بنفسي عصبيا. البارحة بعد عودتي إلى البيت بدأت أكتب لك رسالة مجنونة قليلا، ثم اخترت بعدها النوم والسكينة والانتظار. في الوقت نفسه كانت هديتك الثمينة (الرسالة) تسافر نحوي. وصلتني هذا الصباح.
واضح أنك بين يومي الخميس والأحد لم تكتبي لي، مع أنه ليس صعبا كتابة رسالة تجلب لي السعادة. هناك أشياء تكتبينها أحيانا، دون أن تدري، تسعد قلبي أكثر من سخاء السماء كلها.
أكتب لك بسرعة لأقول لك هذا. لقد تم تأخير العملية الجراحية الثانية أسبوعا آخر على الأقل. مضطر للعودة دون انتظار العملية. أكّد لي الطبيب على نجاحها. هذا يعني أن المسكينة ستتأجل وفاتها بسنتين أو ثلاث سنوات أخرى. كل ما كانت تريده (خالتي) هو رؤيتي، وهي من شجعني على العودة (هي لا تعرف طبيعة مرضها). سأحاول أن أحجز في أقرب رحلة. وقد أصل لحظة وصول هذه الرسالة. سأكلمك في حالة ما إذا كنتِ قد قررتِ السفر في اليوم نفسه، إلى المحيط.
في الحقيقة لم أعد قادرا على التحمل هنا. مكتئب ولا شيء في رأسي غيرك.
سأعود محملا بمشاريع حقيقية: نحن، وبعدها عملنا. لابد أن أنتهي من كتابة مسرحيتي، وكتابي عن الرجل المتمرد. ساعديني على إتمام ذلك. تستطيعين، بتذكبري مثلا بضرورة احترام النظام. أن تهزيني كلما تراخيت أو تشتتُّ.
أريد أن أبتعد عن كل شيء، إلا عن مشروعي، طوال المدة اللازمة.
أحبك، جميلة ومتوحشة، مثلما أشتهي رؤيتك في هذه اللحظة.
أفكر فيك وأراك، كما في ذلك الفيلم حيث أحببتك بقوة: أجمل الوجوه، روح شفافة، ألم... نعم، كم كنت جميلة كما تتقنين فعل ذلك أحيانا وأنت معي، كما في تلك اللحظة الحادة التي يتماهى كل شيء، حيث لا سعادة ولا شقاء، الحب وحده، بصمته هو السيد. تشبهين تلك السواحل التي تعشقينها حيث لا نهاية لامتداد السماء.
أحبك.
أتمنى أن تكون هذه آخر رسائلي قبل وصولي. سنعيش بعدها معا، الواحد بالآخر. أي قوة وأي سعادة أشعر بهما الآن؟ مثل اللحظة التي سأقبلك فيها.
قريبا.
فكرت فيك طويلا هذا المساء، اثناء العرض الشهري لمسرحية: حالة حصار. قرأت في الجرائد المحلية أنه سيتم استبدال المسرحية بعرض آخر لمارسيل آشو. أتمنى أن يحتفظوا على الأقل بعرض فصلي.

المراسلات: ص: 114-115

***

  • من البير كامو إلى ماريا كازاريس

الاثنين 7 مارس 1949 على الساعة العاشرة

بيننا بحر يفصل بيننا، لكنك دوما معي

حبيبتي الغالية.
منذ يوم السبت مساء، تجتاحني موجة من الأفكار السيئة، بل وأكثر من ذلك، صور أيضا، أشد سوءا. فكرت البارحة صباحا في أن أتلفن لك من مطار البورجي . ولكن الوقت كان متأخرا، العاشرة ليلا، فخفت أن أوقظك. البارحة مساء كنت أريد ان أكتب لك، بمجرد وصولي (إلى لندن لحضور بروفات مسرحية كاليغولا)، لكن الوقت بدا متأخرا، وكنت منهكا، وخفت أن أثقل عليك بالتشكي. أتمنى أن تكوني قريبة مني، على الأقل بقلبك في الوقت الحالي. هذا كل ما أحتاج أن أقوله لك.
الأفضل أن أكتب لك تقريرا عن رحلتي القصيرة. أعرف أن رسالة في هذا الموضوع، ستبقى بلا رد منك، لأنها، من حسن الحظ، تفتقر إلى الحميمية.
وإذن، وجدت لندن ترزح تحت الثلج ومقفرة كليا. كان يوم أحد. كنت منتظَرا من طرف داديلسن وهو صديق قديم، والمخرج مرفقا بمترجمين، واحدة تشبه كايسونيا (الزوجة الرابعة والأخيرة للإمبراطور الروماني كايوس كاليغولا) والثاني يشبه كاليغولا، فقد لاحظت أنه يشبه تاجر مثلجات (الذين يتخفون وراء السيارات). أكلنا بنهم شديد في مطعم يوناني، لكن الطعام كان سيئا، إذ تم تحضيره على الطريقة الإنجليزية البائسة. وكان عليّ أن أذهب سريعا للفندق لأريح معدتي. لحظتها فكرت بحنين في مطعم غرناطة، الذي كان صاحبه مدهشا مقارنة بالسموم اللندنية. ثم توجهنا بعد ذلك إلى المسرح لحضور البروفات.
المسرح قريب من مسرح لافيلات، ما أنقذه فقط هو توجهه الطليعي.
في المسرح، فوجئت بأشياء غريبة لم أكن أتصورها. الذي يمثل دور "سيبيون" كان معوج الظهر، يعطي الانطباع أنه متخلف عقليا. السيناتور المسنّ، كان ممثلا مصابا بشلل في إحدى يديه. التي تمثل دور "شيريا" كانت ترتدي لباسا الحقبة الرومانية، بلون كرزي. بينما كانت "كايسونيا" ترتدي لباسا شفافا فاضحا، يشكف عن ساقيها إلى أقاصي الغواية (كما في ألف ليلة وليلة). وُضِعَ في وسط الركح، تمثال لبريكليس، على بعد مترين أو ثلاثة، من مرآة بيضوية الشكل جاؤوا بها من حي باربيس. تتدلّى الجميع شراشيف كثيرة، بكل انثناءاتها. لقد تم تأثيث وتلبيس روما القياصرة، من خرداوات "باب سانتوان."
بدأنا. وبدأت أفهم منطق الأمور. كاليغولا إذا أخفق في أن يكون بائعا للمثلجات للناس، سيكون تاجر بروشيت في شارع الصيادين في وهران، نائبا في شارع فولتير، أو دليلا خاصا في الباريو شينو.
الإمبراطور، كان طوله يصل إلى كتفي. شعره ملفلف ومزيت، وجسده متعرق كما يبدو، وله زوائد بطنية واضحة. هذا هو نيرون بعد وجبة أكل على الطريقة القديمة. شعلة في الحركة ولكن من دون خصوصية. يمثل بالسليقة مثلما يقال، الأمر الذي يعني أنه لم يكن يفهم ولا كلمة من النص الذي كان يؤديه، كان صديقي دادلسن يجد في لكنته دهشة.
لم يكن أمامي سوى الاستسلام للوضع. أية سذاجة؟ ذهب طبعا عن بالي رقص البالي، بالخصوص في اللحظة التي يأخذ فيها كاليغولا زوجة موكيوس، لأن الطبيعة أمرته بذلك. ثلاثة ممثلين نصفهم أحباش ونصفهم فرانسيسكان، كانوا يؤدون الحب على الركح، من خلال اثنتين وثلاثين وضعية، يقبضون على أرجل بعضهم البعض، ويحتكون بظهورهم. في المشهد الثاني كاليغولا في دور "فينوس"، يرقص رقصا جماعيا مع عساكره (تخيلي بائع الفطائر، يرقص بثديين غير حقيقيين) تدفع بمؤخرته، مجموعة الفرقة المسرحية.
هذا الوضع أنهاني، فركضت لأشرب كأس سكوتش. ولكن الشيء الوحيد الذي كان متوفرا في تلك اللحظة، هي القهوة. فشربت كثيرا، الأمر الذي أرقني طوال الليل. وإمعانا في هلاكي، اقتادوني من جديد إلى المطعم الإغريقي، وهو ما سرق مني بقية ليلي. نمت ساعة واحدة، رأيت فيها ذلك البالي البشع، ورأيتني برفقة الملك جورج السادس. أكثر من هذا كله، فقد خُصِّص يوم الثلاثاء للسفراء ونساء العالم في عرض خاص، ليحضروا جرأة المسرح الفرنسي، ويكوّنوا فكرة عن إبداعات مسرح باريس؟
سأحضر العرض طبعا، لكني لن أحلم إلا بالهرب، وباللحظة التي سأكون فيها في الطائرة.
فأنا أحلم بشيء آخر طبعا، لكني أنتظر عودتي لأقوله لك.
تقريري انتهى.
كلما تركتك ورائي ينتابني خوف ورجفة في عمق القلب.
أين أنت؟ أين أنت، حبيبتي؟ تنتظرينني أليس كذلك؟ كما أنتظرك دوما بالكثير من الحب والوفاء، بخوف ويقين.
منذ يوم الأحد، بيننا بحر يفصل بيننا. لكنك كنتِ دوما هنا، مرافقتي التي لم تتركني ثانية واحدة.
إلى يوم الأربعاء حبيبتي، مرفئي، طعامي، حديقتي، خبزي، قاربي...
+ أقيم في شارع بازل، فندق نايتبريدج، لندن. ولكن لن يكون لديك الوقت الكافي للكتابة إلي، فأنا قادم.

المراسلات ص: 117-118

***

  • من ماريا كازاريس إلى البير كامو

الاثنين 21 جوان 1949

يا إلهي، كم أشعر بالألم.
اعذرني. اعذرني حبيبي. وجهك الجميل مرهق.
نم حبيبي. نم براحة. من حقك أن ترتاح بسلام.
اعذرني على قبحي. كنت سيّئة جدا. كيف حدث ذلك وأنت كل حياتي؟
أحبك كثيرا. ربما لست متعودة على الحب بهذا الشكل. لقد خدعني جنوني الهادئ أحيانا، شديد العنف في أحيان أخرى. لم أعد قادرة على التحكم فيه، على الرغم من أني أتدرّب على تحمله. جنون يتسع فيّ بشكل مخيف، ولا أدري إلى أين سيقودني؟ أصبحت حقيقة أخافه.
إذا غبتَ عني فجأة، وإذا انتفيت نهائيا، وإذا كان مفروضا عليّ أن أعيش بفكرة أنك لم تعد موجودا، فماذا سيحدث لي؟ أفكر في ذلك بلا هوادة. إذا كان كل هذا النحيب لا يوقظك، في هذا المساء، أظن أني سألبس ثيابي وأركض نحوك لأنك وحدك من يريحني.
حبيبي. سيمضي هذا الأسبوع والأيام التي تليه، بدونك. كم ستكون قاسية، الشهور التي ستغيب فيها، من سيهدئني ويزرع الأمل فيّ؟
حافظ على نفسك. حافظ على نفسك جيدا، في السعادة والحزن. سعيدة دوما أنا من أجلك. كم أحتاج إلى حضورك، ابتساماتك، ضحكاتك التي تشركني فيها، الثقة التي تزرعها فيّ، الأسى والغضب التي تتسبب فيه.
الآن أعرف أكثر من أي زمن مضى، كم أحبك. أتعرّف أخيرا على هذا الحب الذي يتجاوز أي حدود بين كائنين، الذي يخفي في داخله كل غنى الدنيا وبؤسها. كنت أحس به من قبل، بل حتى أني عاشرته. اليوم هو هنا. بالضبط هنا. موجود ويمكننا أن نلمسه.
فجأة أصبت بذعر. أستطيع أن أقولها أنت، لصديقي (أيضا). مرعوبة من شدة الخوف. حتى أني أحاول أن أقاومه. وأتخبط كما لو أنني وقعت في مصيدة. لكن شيئا ما في داخلي يتمرد.، يرفض، لا يريد أن يستسلم.
اسمعني. نعم أحببتُ قبلك. لا سرّ في ذلك. ولكني لم أمنح أبدا أكثر مما أريد منحه. والآن، في اللحظة التي فات فيها الأوان لأمنحك كل شيء، أنت ترفض أن تقبل مني كل شيء، لأن ذلك لا يعني لك شيئا مطلقا، ولا تحتاج إليه، ها أنا ذي أقبل بكل شيء، بالرغم مني، فأنا بلا دفاعات، ولا أقنعة، وهذه هي المصيدة التي نُصِبت لي. كلّ ما فيّ من طاقة، ينتفض ضدها. أو ربما ضد طعم الوحدة المرّ.
لا. أنت تمنحني الوحدة، لكنك تمنحني الحرية أيضا.
لا أعرف ولا أريد أن أعرف. لا جدوى من ذلك ما دام كل شيء قد ضاع سلفا. حكايات لماذا؟ وكيف؟ تنهار كليا أمام فكرة أنك ستغادر، وأنك ستضحك ربما، أو ستتألم وأنت بعيد عني. ولن أكون هناك للتخفيف عنك بمحاولة النظر إليك، بحب.
يا إلهي، كم أشعر بالألم.
لكن لماذا كل هذه الآلام؟ لماذا أحترق إلى هذا الحدّ؟
شهران ونصف من الغياب، سيمضيان بسرعة، وستكون بعدها هنا، في متناول يدي.
حبيبي هل يحدث لك أن تشعر بحياتي تنبض في داخلك؟ هل يمكنني أن أمنحك، ولو تمنّيا، بعض السكينة والامتلاء، وطاقة جديدة؟ لو كنت تدري فقط...
أي إله قاس هذا الذي وضع بين عاشقين قريبين من بعض، هذه الفجوة من الفراغ التي لن نستطيع أبدا أن نسدّها؟ لماذا ممنوعة أنا من معرفة هل هذا الحنان الكبير التي يملأ قلبي، سيصيبك؟ يطوقك، ويهدهدك هذا المساء، ويمنح نومك السكينة والهدوء، والنعومة التي تشبه هدأة موت القديسين؟
لماذا نصرخ دوما بلا أصوات، ونظلّ نتخبط في عمق الليل؟ لماذا؟ لأجل من هذا كله؟
ربما من أجل الآخر؟ من أجلك. لأتمكن فقط من العثور عليك على وجه هذه الأرض، وإلا كيف كنت سأتعرف عليك إذا لم تكن الأوحد الذي سأجدني برفقته، في عزلتي. بعيدا عن وِحدتك وعن وِحدتي، في عمق ما عرفته عنّي، وما عرفته عنك بشكل غريزي، منذ اللحظة الأولى.
هو ذلك بالضبط. أدرك الآن كم شعرت بنفسي دوما قريبة منك دائما، في ساعات يأسك وعزلتك. كنت أشعر بك مرتاحا، وقريبا. فجأة انتابني إحساس غريب وهو أن الدائرة التي تنغلق من حولنا وعلينا، جعلت كل شيء واضحا. لم يكن ذلك رؤيا، ولكن نوعا من وهم يشبه البرق، جميل وكامل وممتلئ.
طبعا ستقول عني إني مجنونة، وغبية عندما تقرأ غدا هذه الرسالة. ليكن. لكن قلبي كان مثقلا وكان من الصعب عليّ أن أنام دون أن أكلمك. بدا لي أنه لو حكيت لك عن كل ما يدور برأسي، سأرتاح أكثر. بالفعل، ضعي أفضل. أفضل بكثير.
لا تسخر مني. أقسم لك أني أردت فقط أن أفضي لك بحبي، وأني أحيانا لا أعرف كيف أتصرف. ولهذا قررت أن أقول لك عن كل ما يمر بذهني. أن أفكر معك بصوت مسموع. لم أتجرأ يوما على فعل ذلك حتى لا أزعجك. ولكن بدءا من اليوم، وحتى شهر أوت (أغسطس) أي جنون سأكتبه لك في كراستي الخاصة، وستكون مجبرا على قرأته. التفكير في هذا وحده يضحكني.

****

  • من ماريا كازاريس إلى ألبير كامو

باريس 23 جوان1949. مساء

ماذا عليّ أن أفعل لأُسْمِعَكَ صرخة حبي؟
ليست هي المرة الأولى التي أكتب فيها لك منذ سفرك. لقد حكيت لك عن أشياء كثيرة لكنك لم تنتبه لها إلا ... في وقت متأخر. كانت لدي الشجاعة، الشجاعة الكبيرة والكثير من التحمل حتى المساء. مشيت أنا وبيتو كثيرا منذ مغادرتك، وكنت ما أزال أملك بعض الشجاعة. جد منهكة، مستسلمة وسط قوقعتي التي حوطت بها نفسي حتى أتحمل. وكاد أن ينهار كل شيء عندما عدت وحيدة إلى البيت. لكني، مع ذلك، قاومت حتى تمددت على سريري، وقتها انهار كل شيء، واستمر لحظات طويلة.
هذا الصباح، استيقظت من جديد في "حالة موت" في دوامة المبهم واللاشيء، ولكن شيئا فشيئا كل ما يحيط بي يسحبني نحوك. كل شيء يوقظك فيّ، فيمنحني بعض الحياة، وبعض الألم.
نمت طويلا تحت الشمس. لا أدري لماذا، لكني لم أتوقف عن التفكير في فيردولو ٍVerdelot. الشمس والشرفة، وربما أنت أيضا، قبل أن تغيب. فيردولو. ربما لم تفهمني أنت وقلبك؟ مع أن هناك شيئا حقيقيا من وراء انكشاف الوهم، شيئا لن يتكرر الآن. وأنا أتصرف بعناد، كان لحظتها في عمق قراري بفكرة عدم اللحاق بك، نفسٌ من الحماقة لم يعد موجودا اللحظة. الجزء اللامبالي الذي أسميته "عشق الأسطورة" لم يعد له أي معنى الآن.
حضورك، أنت، جسدك، يداك، وجهك الجميل، ابتسامتك، عيناك المدهشتان الصافيتان، حصورك والتصاقك بي، رأسك متخفيا تحت رقبتي، ذراعاك وهما تحيطان بي، هذا كل ما أحتاجه الآن.
شيء منك. رسالتك الصغيرة التي وصلتني هذا المساء. ياااه أية سعادة أحدثتها فيّ، وأي شقاء؟ قبلتها دون أن أعلم سرّ دلك؟ بلا لغة فائضة، ولا رومانسية، أكاد أقول بشهوة لأنها منك وأستطيع لمسها.
حبيبي. أحاول أن اتسلح بالشجاعة والصبر. أظن أن أقسى الشهور سيكون شهر جويلييه. عليّ تحمله ، حيث سيكون أمل رسالة منك قليلا. لكني لن أتوقف عن انتظار رسالة أولى منك. هذا يمنحتي القدرة على تحمل الوقت.
بالنسبة للشقاء، متوفّر، لا تشغل بالك. لا تسأل، امرأة فقيرة وبائسة مثلي، لا يصلها شيء منك، ولا حتى أشياؤك الصغيرة، أصدقاؤك، لا شيء. لابد أن تكون سعيدة جدا بهذا الحب الذي تركته بكل غناه لي وكلفتني برعاته، أشعر بثقل المسؤولية لدرجة الاختناق والموت في انتظار عودتك لتحررني منه. ربما وجدتَني أنا المتعودة على الموت، نائمة وبلا حراك، يوم عودتك؟ هل تملك القوة الكافية لإيقاظي؟ أما زلت قادرا على أن تكون أميري الساحر؟
في انتظار ذلك، لا تنسَ أن عودتك أحتاجها جدا، فعُدْ لي، غير منشغل، مرتاحا، سالما، سعيدا. اهتم بنفسك جيدا حبيبي. أكثر مما تعودت أن تفعل. أكبر دليل للحب يمكنك أن تمنحه لي. كما تلاحظ؟ لم أجُعْ اليوم. وإذا حدث أني لم آكل شيئا ولا شيء في منتصف النهار (يحدث لي أن أقفز فوق وجبة من الوجبات). مساء غضبت من نفسي وأكلت بشكل جيد.
الآن، الوقت متأخر، وحان وقت ذهابي للنوم، ولكنه من الصعب عليّ تركك. أحدثك منذ فترة طويلة (يمكنك رؤية يومياتي.) لكن فكرة أنها آخر رسالة أبعثها لك قبل الحائط، قبل الوِحدة، يمزقني بشكل فظيع.
ماذا عليّ ان افعل لأسمعك صرخة حبي؟ وحتى يتردد صداه من وراء البحار، فتركض راجعا بسرعة إليّ، في كتاباتك الثمينة.
لا تنسني. لا تنسني أبدا. لك أن تعيش كما تشاء، ولكن هذه الحياة لن تشبهك. لهذا ثقتي فيك حبيبي بلا حدود. أنا أصلا لا أثق إلا فيك.
مراسلات، ص: 122-123

***

  • من ألبير كامو إلى ماريا كازاريس.

الجمعة 24 جوان1949.
أنتظرك، بخوف وحماس. أنتظرك بكليّ.
حبيبتي.
وصلتُ البارحة على الساعة السادسة مساء بعد رحلة استغرقت اثنتي عشرة ساعة، بدون مشاكل تُذكَر، فقط، انشداد قلبي لدرجة الألم، كلما عبرنا المدن المتلاحقة. نمت بشكل غير مريح. فقد انتابتني صور مفجعة. أشعر بنفسي اليوم، في عمق هذه الكوارث.
سأحاول أن أفعل شيئا. من حسن الحظ يوجد ذلك الشيء الذي اسمه الوطن. أنت مخطئة في غيرتك منه. ما أحبه فيه هو ما أعشقه فيك. تلك القوة المظلمة والمشرقة في الوقت نفسه، القادمة من حنان خشن، من كروم سوداء، من أماس غريبة، ومن شجر السرو المرن والمستقيم مثلك.
الرياح في هذا اليوم، تهبُّ بقوة.
أمنيتي أن أجد قليلا من السلام على حافة البحر، في هذه الإقامة الطويلة. ولو أني أعرف سلفا أين أجد ذلك السلام الحقيقي: أن نكون معا، وحيدين في هذا العالم، في حضرة الأبدية والحب.
أشتهي على الأقل في هذه الشهور، أن أستعيد الطاقة التي أنا في حاجة ماسة إليها، ليحقّق هذا الحب انتصاره. أعمل على ذلك بكل ما أملك من قوة.
في انتظار ذلك، أفكر فيك دوما، في باريس، وفي الأيام السعيدة التي تلازمني ذكراها. هي ما يساعدني على الصبر والعيش والاستمرار وانتظارك. أحيا بها. ما تبقّى لا يعدو أن يكون مجرد ضجيج ودوران في الفراغ، استحضر تلك الأيام التي حولنا فيها جسدينا إلى أشلاء، لدرجة أنّي عندما خرجت، كنت تائها ومثخنا بحبك.
اكتبي لي بشكل أطول مثلما أفعل أنا معك كلما استجمعت قواي.
أحبيني، أحبيني وواجهي العالم كله بهذا الحب، واجهيني وواجهي نفسك. هكذا أريدك أن تكوني.
بي عطش مجنون إليك، في زمن جعل هذا الحب حروقا واندفاعات.
حبيبتي، ستعود ساعات الحنان. يجب أن يستمر أبدا أجمل ما فيها، والآن.
أنتظرك، بخوف وحماس، أنتظرك بكليّ.
المراسلات، ص: 123-124

***

  • من ألبير كامو إلى ماريا كازاريس.

الأحد 26 جوان1949.
أريد أن أصرخ أحيانا
حبيبتي.
يوميا قبل أن أغرق في تلك القطيعة التي لا أستطيع حتى تخيلها.
يومان صعبان تؤثّثهما الليالي الحزينة المليئة بالصور السيّئة. إني أختنق حقيقة. بعض جملك التي تقْتَفي خطاي بلا توقف، ضيق بدء الرحلة، الكذب، الكذب بالخصوص، لأن حياة كاذبة لا أريدها. أريد أن أصرخ أحيانا.
من حسن حظي، وصلت رسالتك في أشدّ اللحظات قسوة، فهزني الحب الذي فيها، الحنان الذي احتوته، أشكرك من كل قلبي. نعم. في مثل هذه الحالات، يحتاج المرء إلى الكثير من الشجاعة والقوة. لا تذهبي أرجوك، لا تتركي تلك الشعلة التي فيك، تنطفئ. سأحاول أن أستعيد أنفاسي هناك، وطاقتي وقوتي، وسأعود ممتلئا بالحيوية اللازمة التي تسمح لنا بأن نظل في مستوى ما نحن فيه.
هذه العودة حبيبتي ليست إلا أنت بملامحك الطيبة.
جسدك... تنهكني الرغبة بعض الوقت. ولكنها لا تتوقف عند حدود اللذة فقط، تتجاوزها إلى أبعد من ذلك، باتجاه ما هو أكثر سرية وعظمة فيك، وهو ما أتعطش له بشكل دائم.
على كل، حتى صباح اليوم كنت منهكا، حينما طارت بي رسالتك بعيدا. افترضت أنها آخر رسالة أقرأها لك هذا الصباح، قبل أسابيع طويلة. وكنت ضائعا. محروما منك، وضائعا. مع أنه عليّ أن أتجاوز هذه الكآبة اللعينة. سيساعدني البحر على ذلك.
أشعر ببعض الخجل من نفسي، إحساسي بالجبن والرخاوة. لكن بعد العودة، ستجدينني أكثر قوة من أجلك ومن أجلي. ولكني أفضل ألا أتحدث الآن عن هذه العودة.
حبيبتي الغالية، أفكر في وجهك المفرح: هو قوتي الحقيقية، وأملي. حافظي علينا. كوني جميلة دوما. واضحة وقوية. حضّري نفسك للسعادة المثلى، الواجب الوحيد الذي علينا القيام به. ولكن لا ترفضيني أبدا. استسلمي لي ليس كما يستسلم المرء لقدر فوق طاقة الإنسان، ولكن كما نستسلم لرجل بكل عظمته وضعفه.
انتظريني حبيبتي، سأضع بين يديك، نفسي، وحبنا خلال هذا الغياب، بثقة عمياء بشكل مطلق.
اقبلك بيأس دون أن أستطيع التنصل منك، ولا من الأرض التي تتنفسين عليها.
إلى اللقاء. إلى اللقاء حبيبتي.

***

  • رسالة يوم الإثنين 27 جوان 1949.

في آخر لحظة، هذه رسالة صغيرة فقط لأحيطك علما بخبر جميل. السفينة ستتوقف في مدينة داكار، في حدود 6 جويلييه. يمكنك أن تكتبي لي على العنوان التالي:
A.C à bord du vapeur français CAMPANA, aux bons soins de la société des messageries du Sénégal. 35 Boulevard Pinet Laprade, Dakar.
احسبي الوقت الذي تستغرقه الطائرة وابعثي لي رسالة، رسالة مطولة جدا يمكنها أن تملأ علي الخمسة عشر يوما القادمة من الصمت. احتمال أن أتمكن من الكتابة إليك.
حبيبتي. لا تهتمي برسائلي المجنونة التي تصلك من حين لآخر، باستثناء جنون الحب الذي تحتويه.
على متن السفينة سأكون شقيا لكن شريفا، وسأكتب لك بشكل أجمل.
إلى اللقاء حبّي.
سأمحو كل ما سبق من كلمات لا معنى لها على الورقة.
حضورك هو ما أحتاج إليه، وأنتظره.
المراسلات. ص: 124-125

***

  • من ماريا كازاريس إلى ألبير كامو

30 جوان 1949. مساء

سأعيش قدري كله، أنظر باتجاهك.
حبيبي، ماذا يحدث لك؟ نفس الجملة تتكرر في كل لحظة: اكتبي لي في داكار. اكتبي لي في داكار. اكتبي لي في داكار.
حبيبي المسكين. بعد يوم من بعثي الرسالة الوحيدة التي استطعت إرسالها لك من أفينيون، عرفت أن باخرتك ستتوقف في داكار، وأنه يمكننا التراسل خلال هذه الوقفة. لم أستطع التواصل معك لأخبرك بوضعي، وانتظرت يومين متمنية أن يصلك الخبر وتقوم بما يجب القيام به. لم أتجرأ على الكتابة لك، خوفا من أن يكون سفرك قد تم تثبيته يوم 28.
سعدت أن رسالتي قد وصلتك في الوقت المناسب. لكن حبيبي، لماذا هذا الإصرار المخيف للكتابة لك؟ ممَّ انت خائف؟ رسائلك التي تمزق القلب، ممتلئة حرارة وذعرا؟ هل بسبب هذا الخوف المرعب المفروض عليّ؟ اسمعني جيدا. اسمعني. توقف ولا تتحرك، وأنت في وسط البحر الذي يحيط بك من كل جانب. بحري أنا. اسمع. أحب كثيرا هذا المحيط ولا يمكنه أن يخدعني، أو يبقى أصمّ لنداءاتي.
ثم ماذا لو تتخلص من كل هذه الهواجس التي تسببتُ لك فيها للأسف. ماذا لو تتخلص من هذا الرعب الذي أسكنتُه في مخيلتك. ماذا لو تغلق أذنيك ولا تسترجع جملي القبيحة التي نطقت بها؟ وأخيرا ماذا لو تلتفت عاريا باتجاه الماء الذي شكلني، ستسمعني حبيبي أصرخ كما لم أصرخ ابدا أمامك، وبالقرب منك. لا تشغل بالك حبيبي. أعرف جيدا هذا الجحيم وأعرف أيضا إلى أين تقودك الصور المرعبة التي لا أتحمل حتى فكرة أنك ستعيشها بسببي. ارم بكل هذا بعيدا عنك. لا تضف معاناة جديدة لمعاناتي الثقيلة التي أتحملها بصعوبة.
البحر أمامك. انظر كم هو مثقل وكثيف وغني وقوي. انظر كم هو حي. مرعب بقوته وطاقته. تذكر فقط أنه بسببك أصبحت أشبهه قليلا. وتأكد أنه كلما أصبحت متيقنة بحبك لي، لن أغار من جمال البحر، سأحبه كما لو كان أخا لي.
يحدث أن أشعر بنفسي منهكة، بائسة، عقيمة، فقط لأني وضعت نفسي في دائرة الشكوك. ولكنك أنت بحبك لي، قريب مني، حياتي بك تصبح ممتلئة وتستحق أن تعاش.
أنا حبيبي، ولا أحد غيري، عليّ أن أعيد لحياة لكل قواها، خلال هذين الشهرين الطويلين حتى لا تنتابني الشكوك. أنت مطلوب منك أن تحبني فقط. أن تحبني كثيرا. لا أحتاج لشيء غير هذا لأشعر بنفسي كبيرة، منشية، ومسكونة مثل هذا المحيط، مثل هذا الكون. هذا فقط ما يجب عليك فعله ليستعيد وجهي نضارته، التي تحبها. انتصارنا وربحنا للمعركة يمرّ من هنا، وليس من مكان آخر.
منذ سفرك، مررت بحالات صعبة ستعرفها بوضوح أكثر إلى حد ما، عندما تطلع على يومياتي. أكتب لك في كل مساء ولا أعتقد أني تحدثت بصدق مثلما فعلتُ.
عانيت الأمرين، وما زلت. باستثناء يوم أو بعض اللحظات هنا وهناك، في بداية فراقنا، لم تخالجني بعدها اية شكوك قبيحة.
ولكني بالمقابل، لا أستطيع ألا أفكر في تلك الأيام الطويلة القادمة، التي تمضي دون أن أشعر بقلبي يتهاوى. ويبدو لي من الصعب فعل أي شيء آخر. مع أني ابذل جهودا معتبرة لأني لا أريد أن أترك نفسي طعما سهلا لهذا التلاشي، وأنت موجود فيّ. وأنا. وما ينتظرنا.
أتحرك وأبحث عن كل ما يخرجني من هذا الوضع العكر الذي تخترقه حالات الضيق العنيفة. لم أعد أتحمل طبعا الناس والجيران، وأهرب دوما منهم أو أهملهم. بيتو الوفية وحدها من تلازمني وتبقى معي.
أقرأ بصعوبة حتى ولو أنه منذ يومين تحسن وضعي أكثر. وهذا أسعدني بشكل كبير. لهذا اخترت رفقة أصدقائي الدائمين: الشمس، الهواء، والماء. كلما بقيت في البيت، أقضي وقتي كله في البلكون. وكلما قررت الخروج، أتفسح في الحدائق وفي الممرات، أو أذهب مع ميراي إلى جوانفيل. نكتري قاربا ونصعد نهر لامارن، فنقضي الساعات الطويلة في الماء، ننام، نجدّف، ونستحم، ثم نأكل سندويتشات. أصبحت ناعمة، أشبه خشب الأكاجو، في وقت قصير. وعندما أعود من هذه الجولات، أكون ممتلئة بالحياة. للأسف، هذا يأتي عنيفا، محملا الحرارة الحنين، بالطاقة، بالرغبات وإذن... أندهش من نفسي لأني لا أستطيع النوم (لا تسخر مني) واتقلب في فراشي مثل نمرة هائجة وراء القضبان. شيء أقوى مني حبيبي. ويؤلمني في مهوى بطني. شيء غريب؟
على أي، هذه هي حياتي عموما. بالنسبة للمشاريع ما زلت في نفس النقطة. نعمل على أورفي Orphée، ولكني لا أملك تفاصيل التصوير. لا أعرف شيئا عن إيبيرتو Hebertot. من حسن الحظ أن وضع والدي تحسن في اليومين الأخيرين. الطبيب سيزوره هذا الاثنين وبحسب المعاينة، سنتخذ قرارات الصيف. أتمنى في رسالتي القادمة أن أكون قد عرفت بدقة وضعي. لن تصلك رسالتي القادمة إلا في 20 وربما بعد هذا التاريخ. إلهي هل هذا محنة لاختباري؟ لا أعرف حبيبي ولكنها إذا كان الأمر كذلك، فسأتحمله. رفضت اليوم التصوير في مصر. ومهما كلفني الأمر، لم أعد قادرة على أن أفرض على نفسي وبمحض إرادتي، فراقا آخر لمدة شهرين ونصف، ثقيلين. مجرد التفكير في ذلك، يشعرني بالاختناق.
لا حبيبي. دوما معا. فنحن لا نعرف ما تخفيه لنا الحياة. الرب وحده يعرف ذلك. أنا الآن أعلم فقط ما يجب عليّ فعله، كيفما كانت الحياة، سأعيش قدري كله أنظر باتجاهك.
إلى اللقاء حبي الجميل. متى يمكنني أن أقول إلى لقاء قريب بين ذراعيك. أبدا حبيبي، لم يحدث أبدا أن أحببت بهذا الإحساس الذي لا يطاق، بالحاجة إلى حضور من أحب، في كل دقيقة. جسدك ملتصق بجسدي، ذراعاك من حولي يطوقانني، رائحتك، ونظرتك وابتسامتك. وجهك الجميل الذي أستطيع أن أوصّفه، تفصيلا تفصيلا، على الرغم من أني افتقده لأني لا أستطيع أراه مضببا قبل أن يمّحي في حركته. ما هذا العذاب الشنيع؟ يكفي أن يكون موجودا هنا ليمّحي كل تبقّى.
إلى اللقاء قريبا حبيبي. أحب خطك الكثيف. أنتزع نفسي منك بصعوبة، مثلما في كل مرة. لا أجد القوة الكافية لتحمل فراقنا. أحبك. عشْ. كنْ الأسعد قدر ما تستطيع. أنت في عمق المحيط. كم ستكون سعيدا لو تريد. أحبك حبيبي. سامحني عن كل ما صدر مني. أومن بك وأحبك بكل روحي. أقبلك بقوة.
ها أنا ذي حارسة رغبتنا أكثر من حياتي، ومستعدة للسعادة المذهلة يوم أراك يوما هنا،....... . اذهب. أنا بجانبك، ومعك. أنتشي في هذه اللحظات حد الجنون بالبحر فيك. سافر. سافر. أمنحك كل ثقتي.
حافظ على نفسك. فقد وضعت فيك كل أملي.
لك وحدك.
ماريا.
المراسلات. ص 126-129

***

- من ماريا كازاريس إلى البير كامو

هي حماقتي وحدي

حبيبي.
لا أدري إذا كان التعب هو السبب فيما حدث لي، أم ثقل البروفات التي تضاف إلى العروض العديدة المبرمجة، التي أصبحت حقيقة ثقيلة. حتى هذه الجمعة سنحرم من أية راحة لاسترجاع الأنفاس.
منذ البارحة لم أعد قادرة على تحمل أي جملة من مسرحية: العادلون Les Justes. الثوار الأعزاء في تيههم، يهربون من مساماتي. ينتابني إرهاق جسدي شديد كلما تقمصت شخصية دورا المسكينة التي تجد نفسها فجأة ضائعة ومرتبكة. أعاني من انهيار عصبي خفيف، ينعكس على حركة لساني وعلى شفتي، ولا أستطيع أن أنبس بكلمة صغيرة دون أن يرتبك لساني. تحول ذلك إلى حالة رعب لي ولأصدقائي.
الأخطر من هذا كله، هو أني كلما أخطأت في التعبير وارتبكت لغتي، غرقت في دوامة من الضحك العصبي، تؤثر عليّ وعلى كل من معي مما يقلل من قيمة جهودنا الكبيرة...
حبيبي، أنحني عند قدميك، أيها الغالي. أرجوك أن تسامحني، وتتفهم تقصيري. هي حماقتي وحدي. لا أعرف ماذا حلّ بي؟ لم أعد سيدة لساني. كلما حان دوري في المسرحية، أفكر باستمرار فيما يمكن أن أقوله، فأرتعش فجأة... ويهرب من لساني الكلام.

***
  • من ألبير كامو إلى ماريا كازاريس

الأربعاء أول جوان 1949

لا أنتظر انتصارا ولكن أملا.
حبيبتي
يجيء الليل سريعا، وينتهي آخر يوم لي أتنفس فيه نفس هوائك. هذا الأسبوع كان فظيعا، وكنت أظن أني لن أخلص منه نهائيا. الآن، قد حان موعد السفر. أقول في نفسي ما زلت أفضل الوحدة وحرية البكاء، إذا ما انتابتني الرغبة. وأقول أيضا، لقد حان الوقت أن أقاوم بالتحمل الضروري. ما يجعل أمرنا صعبا، هو صمتك والذعر الذي يخلفه فيّ. لا أتحمل أبدا، صمتك هذا، وصمتك السابق، أراك بجبهتك المعقوفة ووجهك المغلق. يتجمع بين حاجبيك كل غضب العالم. وأتخيلك اليوم أيضا غاضبة، أو غريبة، أو غير معنية، متجاهلة كل هذه الأمواج التي تجتاحني. أحاول جاهدا أن أنسى ذلك كله لدقائق، وأحدثك قبل أن أخرس طوال الأيام القادمة.
أضع كل شيء بين يديك، وأنا أدرك أنه في الأيام القادمة سيخف الصراع ويشتعل. في النهاية، تنتصر الحياة. في العزلة، الآلام تعمي. لن أطلب منك المستحيل، سواء كنت حية أو منطوية، حافظي على مستقبل حبنا. وما أتمناه، أكثر من الحياة نفسها، أن أعثر عليك من جديد بوجهك البشوش. واثقة ومصممة على الانتصار معي. عندما تصلك هذه الرسالة، أكون في عمق البحر. الشيء الوحيد الذي يساعدني على تحمل هذا الفراق، هذا الفراق المؤلم، هو الثقة التي وضعتها أبدا فيك. كل ما صعب عليّ التحمل، استسلمت لك بلا أدنى تردد، ولا أي سؤال. غير ذلك، أحاول أن أعيش كما أستطيع.
انتظريني كما انتظرك. لا تنكفئي على نفسك. إذا لم يكن بإمكانك أن تفعلي شيئا، عيشي. كوني مشرقة، وفضولية، وابحثي عن كل ما هو جميل، اقرئي ما تحبين قراءته، وعندما يحين وقت استراحتك، التفتي نحوي، كما أفعل أنا.
أعرف الآن عنك وعني أكثر مما كنت أعرف سابقا. لهذا أنا مدرك أن فقدانك هو موتي بشكل ما. لا أريد ان أموت ويجب أن تكوني سعيدة دون أن تشعري بنفسك مهزومة. كيفما كان الطريق الذي ينتظرنا، قاسيا ومؤلما علينا خوضه.
إلى اللقاء حبيبتي. طفلتي الغالية. إلى اللقاء. قاسية، وناعمة، ناعمة جدا عندما تريدين. أحبك بلا ندم ولا حدود، وبكل ما أملك من اندفاع صريح. ممتلئ بك كليا. أحبك كما الحياة، في سقف سموها. وأنتظرك بكل عناد وإصرار شديد يساوي عشرة أعمار، بحنان لا ينفذ. شعلة الرغبة التي فيّ تجاهك تشتعل، فأزيد عطشا لقلبك. أقبلك. أضمك.
إلى اللقاء مرة أخرى. غيابك صعب جدا. ولكن كل سعادات الدنيا لا تساوي لحظة ألم تصيبك مني. يوم تضعين يديك مرة أخرى على كتفي، سيكون ذلك أجمل تعويض ختامي. أحبك. لا أنتظر انتصارا ولكن أملا.
يا إلهي ما أصعب أن نفترق؟ سيغيب وجهك أكثر في ظلمة الليل، ولكني سأعثر عليك ثانية وسط هذا المحيط الذي تعشقينه كلما حل المساء عندما تسرق السماء لون عينيك.
إلى اللقاء.

المراسلات، ص 130-131

***

* من ألبير كامو إلى ماريا كساريس

5 جويلييه 1949
في انتظار ذلك، مازلت هنا
إلى اليوم، لم أكتب إلأّ في كراسة يومياتي. ولكني كتبت بأمانة. هكذا، أنهي كل مساء، يومي قريبا منك. لم أضع شيئا مهما في الكراسة، سوى تفاصيل يومية من حياة رتيبة. فأنا لم أكتب في النهاية إلا لك. لم ألتفت إلا نحوك. ولا لون يملأني سوى لونك. هذه الرحلة كانت قاسية، انتزعتني بقوة منك، وفضلت ألاّ أكتب لك عن هذا الألم الفظيع الذي انتابني ولا عن الجبن الذي كنت فيه.
وعندما غابت اليابسة، وبعدها جبل طارق، ثم السواحل الإسبانية ومعها أوروبا، كلها، كنت في حالة بؤس.
بعد غد سنكون في داكار، وأستطيع أن أبعث لك برسالة من هناك. منذ يومين دخلنا في محيطك، المياه لم تعد زرقاء ولكن خضراء. في منتصف النهار شمس عمودية صفراء ملفوفة داخل كتلة من الضباب. تجاوزنا المناطق المدارية، ونتجه حاليا نحو داكار. لأول مرة يتكون لدي الإحساس كأني أسير باتجاه قلبك. صوب رسالتك التي أنتظرها. هذا الصمت، وهذا التجاهل القاهر سيتوقفان أخيرا. أملي أن تحمل لك رسالتي هذه، بعض أمل الحياة، حبا بسعة هذا البحر يرافقني بلا ملل منذ أيام كثيرة، وتحمل لك أيضا ندائي لك حبيبتي وثقتي فيك. يجب ألاَّ أنسى هذا: لن أصل يوم 20 إلى ريو، ولكن 15. أحسبي مواقيت الطيران واكتبي لي، أرجوك، حتى أجد رسالتك بانتظاري، ترافقني في رحلتي. هكذا لن يكون علينا تحمل ما كنت أخشاه، عشرين يوما من الصمت. من جهتي سأكتب لك بسرعة. ولكن هل أنا في حاجة لطلب ذلك منك؟
لا شك أنك تعرفين أن الحياة على متن السفينة رتيبة. عندي قمرة صغيرة، عارية، فيها الحد الأدنى للعيش. أحب هذه الأماكن الضيقة وهذه الأوضاع. لا يمكنني أن أتخيل الحياة على غير هذه الصورة الجميلة، خارج حضورك: أقوم على الساعة السابعة صباحا. أصعد لرؤية بحر الصباح. أفطر. أستحم ثم أذهب يعدها إلى المسبح (بعرض ثلاثة أذرع، وعمق يصل حد البطن)، أستلقي تحت أشعة الشمس، ثم أنزل بعدها للعمل. أتغذى واستمتع ببحر منتصف النهار. أنام قليلا، ثم أعمل وأتعشى. وينتهي بذلك يومي بالقرب من البحر.
الجو جميل، ولم تصعد الأمواج، إلا بمحاذاة جبل طارق، أحب ذلك، وأحب تأمل الأشياء من على سطح السفينة: قارب شراعي للصيادين، أو مجموعة دلافين حرة، منطلقة في عرض البحر، بكبرياء. أشاهد بعض الأفلام الأمريكية السخيفة، التي لا أتحملها أكثر من ربع ساعة. وبعض النقاشات هنا وهناك. اطمئني، حبيبتي لا توجد بالسفينة نساء جميلات. على طاولتي أستاذ في السوربون، وشاب أرجنتيني، وشابة مسافرة لتلتحق بزوجها. نحكي كلاما بلا معنى، نبتسم، ثم نفترق. المرأة قاسمتني بعض خصوصياتها، يبدو أن لي جاذبية في جلب الخصوصيات، لكن ما يزعج، كونها خصوصيات شديدة التفاهة.
أفعل ما طلبت مني القيام به. أهتم بهندامي. أرتاح. في الأيام الأولى في النهار، يكفي أن أتمدد لأنام. كنت منهكا، كنت تقريبا أنام وأنا آكل. لكن الاستحمام، والشمس، والملل على متن السفينة، وتعقّلي (لا أتناول الكحول على متن السفينة) تعيد لي بعض نظامي. من كثرة التعرض للشمس، أصبحت بنيا وشهيا، ألبس كل ما هو مشرق، وأقول في تلك اللحظات، ربما أعجبك؟ ولكني أحتفظ بذلك لنفسي لأن غيابك يؤذيني. في كل دقيقة أقول لنفسي كيف كان يمكن أن تكون هذه الرحلة لو كنتِ معي؟ أنت، وأنا، والبحر من حولنا، بعيدان عن العالم وزعيقه، في عمق صمت الليالي المدهش، حيث تتحول كل الأشياء. لكن هذه اللحظات الهاربة تؤلمني. توقظ في الرغبة الخبيئة التي أخنقها أحيانا فيّ.
في انتظار ذلك، مازلت هنا. في مواجهة هذا البحر، وحده من يساعدني على تحمل كل شيء. كلما ظهرت تباشير الصباح في المد للامتناهي، وعندما يحول القمر البحر إلى نهر من حليب يركض نحو السفينة، وعندما يصبح بحر الصباح ضبابيا، أتخيل هناك موعدنا الجميل، على سطح السفينة.
كل يوم ينتفخ قلبي في غيابك، مثل هذا المحيط، ممتلئا بالحب المرتبك الذي أفضله على الحياة كلها. أنت هنا. ناعمة مستسلمة لي كما أنا لك. هذا الحب أصبح صعب التحمل. لكن حبيبتي، كل شيء سيكون على ما يرام، وسنبدع موعدا آخر. أنتظر هذه اللحظة. أنتظر رسائلك، لنبدأ من جديد.
اكتبي لي بالتفصيل. احكي لي عمّا تفعلينه، وكيف أصبحتِ. في ماذا تفكرين. لا تنسي ثقتي الكبيرة فيك، وثقتك التي هي السند الوحيد للإجابة. قولي لي عن كل شيء. لا تهملي أي تفصيل، حتى ما يؤلمني. لا يوجد شيء فيك لا أتفهمه أو يرفضه قلبي. أعرف اليوم جيدا أني سأحبك حتى النهاية، مهما كانت درجة الألم. لم أحاسبك يوما، ولم أكرهك أبدا. لم أعرف شيئا معك عنك سوى حبك. وأحببتك بكل قواي وخبرتي الحياتية، بكل ما عرفته وتعلمته. فأنا لا أكره إلا نفسي أحيانا، كلما تسبّبت في شقائك، أو كارهة. لا يجب أن تنسي هذا. صورتك التي رحلت معي اخترقت الكثير من الآلام والكثير من المسرات، لن تذبل. هذا الوجه الغالي، الذي يتملكني، هو أثمن ميراث صاحبني في هذه الحياة.
انتظريني حبيبتي، متوحشتي، أنت حاضرة في هذا المساء أكثر من أي زمن مضى. أختنق بالدموع التي تسد حلقي وأنا أكتب لك. ولكنني أتخيل ابتسامتك. أراها مثلما هي على هذه الصورة التي أمامي، تعيد لي الأمل من جديد. السعادة القوية التي تأتيني من حضورك، هي أجمل شيء.
أين أنت حبيبتي؟ ضائع وسط هذه البحار التي تفصلنا. أناديك وأريدك أن تسمعيني، ويأخذك ندائي أخيرا، بعيدا عن الأحزان. أقبلك عن بعد غابت فيه المسافات. لا تنسي أني لن أتخلّى عنك، وأني أسير في أثرك، خطوة خطوة، وأني أسهر عليك، ومن أجلك، وسأكون قريبا منك حد التماهي.
ألبير.
المراسلات. ص 132-133

***
  • من ألبير كامو إلى ماريا كساريس
6 جويلييه 1949

أشرقت الشمس على بحر أملس، تنعكس على سطحه أشعة معمية للبصر. تدفقت الشمس على كل المدّ السماوي. الحرارة اللزجة والرطبة مؤذية. بدأنا نقترب من مدينة داكار.
أمنيتي أن أنام الليلة معتنقا رسالتك.
ها هي ذي رسالتي مثلما كتبتها البارحة بلهفة، على نفس واحد وبقلب مجنون. أتمنى أن تساعدك على الحفاظ على حبنا، وأن تتمكني من قراءة الحنان والاحترام اللذين ينتابانني أحيانا وأنا في عز شغفي بك.
أضع كل قبل الدنيا في أسفل هذه الصفحة.
قريبا، حبيبتي.
المراسلات، ص 133-134

***

* من ماريا كساريس إلى ألبير كامو

الإثنين 11 جويلييه 1949

ماذا لو لم تتمكن من إرسال بريدك؟
رسالتك لم تصلني إلاّ صباح اليوم، ومعها دفق من الحياة والحب. كنت أنتظرها. انتظرها بفارغ الصبر منذ يوم الجمعة على أمل أن تصلني بسرعة. كنت أستمتع بلحظة انتظارها، الأمر الذي يعطي معنى ناعما لأيامي. وكنت أعزي نفسي دائما بأنها ستصل قريبا وسأقرأها، وسيكون عليّ تحمل لحظات صمت أقل حتى 25. إلا أنني بدأت أتساءل في هذا الصباح، ماذا لو لم تتمكن من إرسال بريدك؟ وصلت رسالتك في وقتها فهدّأتني. ومنحتني نشاطا وحركة، فوضعت على وجهي هذه العلامة من السعادة التي تحبها جدا.
هي ذي رسالتك أمامي الآن، تتزاحم فيها الكلمات الدافئة، المتعانقة والملتصقة ببعضها، وتعلمني برسالة أخرى ستصلني بعد خمسة أيام، يعني بداية الأسبوع القادم.
ها أنت الآن قد حققتَ هدفك، بعض أهدافك.
أنت بعيد جدا، من الجهة الأخرى من الكرة الأرضية. مرحبا حبيبي. إقامة طيبة هنا، بالقرب مني. ها أنا ذي قريبة من تلك الأراضي المجهولة، داخل لغة مجاورة، لكنها غريبة في هذا الفضاء الذي لا يشبهني. بعيدا عن أوروبا، بعيدا عن بحري. أنا مبعثرة في الهواء، في الشمس، في المطر، في النار، في كل ما سأحبه لو فقط كنت معك. في كل شيء لأني أسعد عندما تكون قريبا مني ومحاذيا لجسدي.
يجب أن تصلك هذه الرسالة في 15 لهذا عليّ أن أبعثها قبل هذا المساء.
سأحاول أن أقلل من الكلام قدر المستطاع، ولو أنه من الصعب عليّ فعل ذلك.
من ناحية العمل. قررنا تنفيذ أورفي orphée. بمجرد ما تأكدت من ذلك، تلفنت لهيبيرتو Hébertot سأكون مضطرة إلى التغيب عن باريس كما كان مقررا لمدة تتراوح بين خمسة عشر يوما أو ثلاثة أسابيع على أقصى تقدير. أغلب الظن سيكون ذلك في شهر سبتمبر. التواريخ لم تُثبَّت بعد بشكل نهائي. أظهر المعلم طيبة كبيرة، واعتذر لكونه لا يستطيع أن يعطيني تفاصيل أدق عن فترة البروفات، أخبرني باستعادة علاقته بجيرار من أجل يانيك . وبقينا في هذه الحدود، غروجو في الواجهة.
من جهة ثانية، هناك مشروع جديد جاء ليزاحم هذا وأحتاج إلى أن أحادثك في ذلك: كيليرسون kellerson يريد أن يخرج من جديد "سوء التفاهم le Malentendu" بنفس التوزيع للأدوار. وأنا في دور مارتا. كان يريد أن نبدأ في التمرينات سريعا وعرض المسرحية في بداية الموسم، وبغض النظر عن انشغالي بالتزامات أخرى في تلك الفترة، يبدو من المزعج إطلاق مسرحية جديدة ونحن مازلنا في كاليغولا، فتضيف مسرحية ثالثة ل" مهرجان كامو 1949". لهذا قلت له إني لن أفعل شيئا دون الحصول على إذن منك. ولأنه أصر عليّ كثيرا للاتصال بك، وإقناعك بقبول المشروع، أجبته بأني لن أنصحك بشيء يمكن أن ينقلب ضدك. من أجل إرضائه. أرجو أن تكون لطيفا وتخبرني عن رأيك بأسرع ما يمكن حتى أستطيع أن أبعثه بشكل رسمي لكلليرسن.
هذا كل شيء بالنسبة للعمل. أتعاون مع الراديو ببعض الحصص، يساعدني ذلك ماديا بشكل معقول. لم يعد لدي أي قلق مادي. على الأقل في فترة الصيف. أي بؤس هذا؟ وهذه الستديوهات المغلقة؟ في الوقت الحالي نسجل أوديت جوايو، ريجياني، بيريي، وأنا. مسرحية لجوايو التي على الرغم من بنائها السيئ وطولها الممل في بعض المواقع، لها إيجابيات. ليست من نوع النصوص التي أحب، ولكني أجد فيها بعض الأشياء اللطيفة.
أما عن مشاريع العطلة. الطبيب زارنا. وضع أبي أفضل قليلا. ولكنه ما يزال ممنوعا من الأسفار الطويلة. بالمقابل، إذا تحسن وضعه الصحي، سنذهب هو وأنا وبيتو إلى إيرمونفيل وسنبقى هناك حتى نهاية شهر أوت (إلا إذا عدتَ قبل ذلك)، وفي هذه الحالة سيقرر الطبيب بأنه قادر على السفر بالقطار، ينتقل معنا إلى الجنوب الوسط، ويبقى هناك الوقت الذي يشاء.
على كل، في الوقت الحالي، سنبقى في باريس، وأغلب الظن حتى شهر جويلييه. أترك لك سعة التخيل ما يمكن أن نفعله معا.
الحياة الخارجية رتيبة. منذ سفرك، لا أبقى وحيدة إلا قليلا. التفاصيل اليومية ستجدها بعد عودتك في يومياتي التي أواظب على كتابتها كل مساء، فهي تريحني كثيرا. عموما أقضي كل وقتي تحت حمام الشمس في شرفتي، هي سطح سفينتي، أو في القراءة.

***

من ألبير كامو إلى ماريا كساريس

الأحد 17 جويلييه 1949

ريو
كيف لي أن أشفى من غيابك؟
حبيبتي.
لأكن أكثر دقة: فأنا أستيقظ صباحا على الساعة الثامنة، أكتب يومياتي، وأتأمل الفراغ. أفطر مرفقا بآخرين. بعد الظهر أتجول في المدينة وضواحيها. ثم الغذاء، نتناوله جماعيا. بعدها يأتي العشاء الفضولي. ثم النوم بين منتصف الليل، والساعة الثانية.
اقرأ دون كيشوت، قبل النوم.
برنامجي. محاضرتي الأولى: في ريو، يوم الأربعاء 20. الخميس أسافر باتجاه الشمال، نحو مدينتي ريسيف وباهيا. (اشتريت البطاقة) محاضرتان، ثم أعود يوم الإثنين 25. خلال الأسبوع، المحاضرة الثانية في ريو. في نهاية الأسبوع، أسافر إلى الجنوب، ساو بالو وبورتو أليغري. محاضرات بعد العودة من السفر، في وسط الأسبوع الموالي. المحاضرة الثالثة في ريو. أيام قلائل قبل السفر إلى الأورغواي، لا أعرف بعدها البرنامج. ولكن، واصلي الكتابة دائما على عنواني في ريو، أفضل. وإن استطعت اكتبي لي كثيرا. أفتقر إلى الأوكسيجين هنا، في غيابك. عندما تصمتين أتيه شيئا فشيئا.
ألم يحن الوقت بعد لأمنح قلبي حق الكلام؟ البارح في الحفل الزنجي الراقص، أحسست بأني لا أحب أي شيء. لا شيء يهمني خارجك، حقيقة. أسجل كل ما أراه، أحاول أن أعطي معنى لحياتي، وطبيعي أن أبذل جهدا للكتابة لك لأحدثك عن هذه الرحلة. أجتهد بجد وانضباط من أجل ذلك، ولكن في كل هذا الوقت لا أكف عن الارتعاش بسبب انعدام صبري المؤلم، الذي يجعلني أهرب أو أمسح بضربة كف، كل ما من حولي. لم أكن هكذا أبدا في حياتي. في أصعب اللحظات كنت اتكىء دائما على رصيدي من القوة والفضول. وأنت تعرفين جيدا كم أكره المداراة. حتى محاولات التعقل لا تنفع معي. كل شيء فوق إرادتي. أتساءل إذا لم يكن مصدر ذلك، جسديا، فالجو الثقيل والرطوبة يرهقانني. فقدت لون سمرتي التي كسبتها من تعرضي للشمس في السفينة، ولا أشعر بنفسي مدهشا. فقدت الكثير منذ لحظة نزولنا. هذا يشجعني على القيام بتسلية موجودة فيّ. في كل لحظة فراغ هناك تفصيل يشغلني عن كل شيء. يتعلق الأمر بك إذن. بنا. أفكر فيما فعلتِه، وفيما قلتِه.
هي عقدة مؤلمة ومتجلية، آلاف الأشياء تختلط فيّ. عليّ انتظار مرور ذلك كله والعودة. وهو ما أقوم به عادة. وعلى كل، أشعر بذنب وأنا أحكي لك عن ذلك كله. ولكن لمن كنت سأحكي؟ للعالم كله؟
انتظر. أنتظر سكينة المساء. أنتظر ساعتنا، الأنوار المائلة، تلك الهدأة بين النهار والليل. السلام سيأتي بكل تأكيد لاحقا. لكني لا أتخيل سلاما آخر غير سلام جسدينا الموثوقين ببعض، ونظراتنا ونحن متماهين في حالة استسلام كليا.
لا وطن لي غيرك.
انتظريني، حبيبتي، أكتبي.
أكتبي لي كل ما تستطيعين كتابته.
كم من البحار تفصلني عنك، فكيف أبحث عنك، وأين أجدك؟ كيف لي أن أشفى من غيابك، من هذا الغبن الذي يخنقني؟
حبي الأوحد. أقبّلك. أضمك إليّ بقوة.
الأيام هنا تمضي، لكن ببطء شديد.
ومثلما يحدث لي في ليالي الأرق الثقيلة، لا أستطيع أن أتحمل نفسي.
أكتبي.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة: واسيني الاعرج


  • تقلا عن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى