خيري حسن - كلام (قديم).. يصلحُ لحزن (مقيم)]!

"أحنُّ إلى خبز أُمي
وقهوةِ أُمي
ولمسةِ أُمي..
وتكبرُ فيّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ
وأعشق عمري لأني
إذا مُتُّ،
أخجل من دمع أُمي !"

[القاهرة - 2014]
أجلس الآن داخل محل "سايبر" في شارع بضاحية المعادي. الساعة تقترب من الثانية من بعد ظهر نهار رمضاني حار. هو الثلاثاء / الموافق 18 من رمضان (في مثل هذا اليوم الموافق 15 يوليو من ذلك العام)! أمامي شاشة كمبيوتر، وبجواري أطفال يلعبون على أجهزة (الپلايستيشين) ويتصايحون، ويتحدثون، بأصوات مرتفعة، ومزعجة، أمام شاشات صماء، ملساء، تحتوي على ألعاب كئيبة، رغم أنها تبدو مبهجة!
هاتفي الجوال يرن. على شاشته اسم وليد رمضان - زميلي في برنامج، لا أذكر اسمه الآن، كان يعرض على قناة كانت تسمى "التحرير" ("التحرير" أصبح - TAN بعد ذلك)!!
الهاتف مازال يرن!
وليد سوف يسألني: "هل انتهيت من كتابة «سكريپت» حلقة الليلة(كان الضيف الكاتب الصحفي مفيد فوزي) مع الإعلامية ريهام السهلي.
وليد يتصل عدة مرات. وأنا لا أرد عليه. حيث مازلت أواصل الكتابة. بعد دقائق من الصمت، عاد الموبايل إلى الرنين مرة جديدة.. واستمر في الرنين!
أنا لم أنظر إلى الهاتف إلا متأخراً معتقداً، أنه "وليد" يكرر اتصاله واستعجاله لي. بطرف عيني، لمحت على شاشة الهاتف رقم وليس اسماً. الرقم دولي.. ويواصل الرنين بلا توقف. ليس لي خارج مصر سوى ..أُمي. لقد سافرت لأداء مناسك العمرة منذ 10 أيام..!

[الشارع - بعد مرور دقائق]
تركت مقعدي في المحل، وخرجت بخطوات مرتبكة إلى الزحام والضجيج. الرقم الذي يظهر على شاشة الموبايل دولي / السعودية، لكنه بلا اسم. ورقم أُمي منذ سفرها مسجل باسمها. المتصل يواصل الرنين بشدة عجيبة. أسندت ظهري إلى الحائط، وعيني على الهاتف. الآن توقف رنينه المزعج، والمباغت. بدأت أشعر بالقلق. والخوف، مما وراء هذا الاتصال المتكرر، وصمته المفاجئ. بعد ثواني قررت مواجهة الخوف والقلق الذي شعرت به، وطلبت الرقم - الذي رفضت الرد عليه عدة مرات منذ قليل- فجاء صوته قائلاً:
- "خيري؟"
- نعم!
- "أنا الحاج محمد، مسؤول رحلة العمرة".
- أهلاً وسهلاً.. يا حاج.. أعرفك.. خير !
- صمت.
- خير.. يا مولانا.
- استمر الصمت!
هنا شعرت، بما وراء ذلك الصمت.
(كررت سؤالي):
"خير يا مولانا! أُمي جري لها حاجة؟".
رد بصوت حزين:
- "البقية في حياتك.. أُمك ماتت الآن"!
*
"خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدْبكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمَّد من طهر كعبكْ
وشُدي وثاقي.. بخصلة شَعر..
بخيطِ يلوِّح في ذيل ثوبكْ..
عساني أصيرُ إلهـًا
إلهـًا أصيرُ...
إذا ما لمستُ قرارة قلبك"!

[بني سويف - 2014]
قبل عشرة أيام من ذلك اليوم كانت قد غاردت القرية، لأداء العمرة (عاشت 70 عاماً) للمرة الثانية في حياتها كلها! قبل سفرها بأيام، عُدت من القاهرة إلى القرية لوداعها. وعندما تأجلت الرحلة يوم أو يومين، قالت لي: "إرجع أنت لعملك، والسفر ييجي وقت ما ييجي" .. استجبت لرأيها هذه المرة - مع أني كثيراً ما خالفته من قبل في أشياء عديدة - وعُدت إلى القاهرة بعد إلحاح شديد منها. بعد 48 ساعة اتصلت بي، وهي سعيدة، لأنها تستقل الأتوبيس المتجه بها من "بني سويف" (شمال الصعيد) إلى مطار القاهرة الدولي.
- "ايوه.. يا خيري..احنا راكبين الأتوبيس للمطار أهو.. ربنا يسهل الأمر.. ماشيين على كوبري طويل خالص، خالص والله.. مش عايز يخلص! (تقصد الطريق الدائري حول العاصمة الموصول بطريق الصعيد الصحراوي)، وبإذن الله عندما نصل إلى المطار.. هكلمك"..
وقد كان!
*
[المدينة المنورة - 2014]
بعد عدة أيام قضتها هناك، انتقلت مع مَن كان معها، إلى مكة المكرمة، لإستكمال المناسك. في اليوم الثالث شعرت بدنو الأجل. إرهاق، تعب، هبوط بسيط، لكن كل هذا لم يزعجها كثيرا،ً فهي عاشت عمرها كله - مثل المرأة في الصعيد والدلتا - قادرة على تحمل المرض، والصعاب، والشدائد، والفقر. والجوع! بالليل ذهبوا بها إلى «مستشفى الملك عبد العزيز». الطبيب شخص الحالة، على إنها إرهاق لا أكثر ولا أقل، وطلب منها الإفطار ! رفضت وتناولت سحور خفيف من الفاكهة. بعد ثلاث ساعات زاد التعب والارهاق. عادوا بها إلى المستشفى، مرة أخرى. ومن «الإستقبال»، إلى «الرعاية»، ثم «العناية المركزة».. وبعد ساعة تقريباً، لفظت أنفاسها الأخيرة.. ماتت!
*
"ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنور ناركْ..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدتُ الوقوفَ
بدون صلاة نهارك
هَرِمْتُ، فردّي نجوم الطفولة
حتى أُشارك
صغار العصافير
درب الرجوع.. لعُش انتظاركِ".

[القاهرة - 2014]
انا مازلت في الشارع بعدما استمعت إلى الخبر المباغت وتفاصيله من الحاج محمد. أقف شارداً، تائهاً، حائراً، لا أعرف ماذا أفعل ؟!
"وليد رمضان" - لأنه رئيس التحرير - يعاود الاتصال حتى يطمئن علي كتابة الـ"سكريپت".
بعد إلحاح متواصل منه! رديت:
- نعم يا وليد..
وقبل أن يجيب قلت:
- أُمي ماتت الآن!
- "في العمرة؟!"
- نعم!
- "يا بختها!!"
قال ذلك ثم استدرك متلعثماً: "البقاء لله"! قالها ثم سكت.. وأغلق الهاتف!
حاولت التماسك بعض الشيء.
"وليد" عاد يحدثني مرة أخرى قائلاً:
-"خيري ..عايز فلوس"! "أنت فين"؟ "طيب أجيلك"؟
ثم مرة جديدة عاد وأغلق الهاتف.
بعد دقائق، بدأت مع زميلي الصحفي والإعلامي"أحمد مجدي" في إجراء مجموعة من الاتصالات بوزارة الخارجية في القاهرة وسفارتنا بالرياض، والقنصلية بجدة. استمرت الاتصالات حتى عصر اليوم التالي، إلى أن تمت اجراءات الخروج من المستشفى، والصلاة عليها في "الحرم المكي"- مع مَن حضر مِن أموات المسلمين- ودفنها في "مكة المكرمة" بمقابر الشرائع، في مربع حرم رقم (1) حارة (249) مقبرة رقم (12).
*
"ماكانتش تحب الميّه الفاتره
وكانت
لما بتكره.. تكره موت
واما تحب.. تحب صبابه
واما بتحزن تبقى ربابه
واما بتفرح يبقى الفرح على البوابه
كانت زى الشمس..
وكانت
لما بتغضب تبقى مُهابه"

[القاهرة - بعد مرور سنوات]
كلما جاءت السيرة.. يسألني البعض: (قوللي يا خيري.. ماذا فعلت أُمك حتى تُرزق هذه الخاتمة، التي نحسبها، خاتمة كلها خير)!
أرد ببساطة شديدة:
- لم تكن تفعل أكثر مما يفعله الإنسان المسلم العادي، في حياته اليومية.. ربما الشيء الذي زاد على ذلك - أقول "ربما" - هو قيامها بتربية طفلة يتيمة - ابنة اختها - بعد وفاة أمها أثناء ولادتها!
*
[محافظة شمال سيناء - 1985]
هذه الطفلة اليتيمة كبرت، وسط حالة من الحب من خالتها، التي قامت على تربيتها، في حدود ما هو متاح. فلم تظلمها. ولم تجرْ على ميراثها. ولم تسرق ورثها البسيط. ولم تقهرها، أو تجبرها، على فعل أمر لا تحبه، إلى أن تزوجت. وغادرت القرية مع زوجها إلى محافظة شمال سيناء في ذلك العام، بحثاً عن لقمة العيش.
الآن - وبعد مرور الزمن - بكل ما فيه من سفر، ومحن. وحزن، وفرح. وجهد. وتعب. أصبح لهذه الزوجة من الأبناء أربعة. ثلاثة أطباء ومهندس، لتُتوج هذه الرحلة، بإختيارها الأم المثالية لمحافظة شمال سيناء عام2017، وتكرمها الدولة المصرية في "عيد الأم" !
*
"ماكانتش بتنده ناس البيت بالاسم
كُلّنا فى نظرها عيال
(العيّل راح.. العيّل قال...
العيّل نام.. العيّل قام.. العيّل بعد الشر عليه)
مع إنّ الناس فِ الشغل يقولوا عليّا مهندس
والناس فِ الحاره يقولوا عليّا البيه
وباجيب فِ نهاية الشهر العشره جنيه
ماكانتش بتنطق اسمى.. مُحال
الراجل كان فِ نظرها شحيح
وقليل ان جابُه الريح
( من فين حايجينا الراجل عاد؟..)
والعيل منكوا ياولدي - ان حب ينام - محتاج اللي يغطيه .

[بني سويف - 2014]
عدت إلى القرية وأقمنا عزاء يليق بالحدث في حدود ما هو متاح. في سرادق العزاء، لاحظت، أن الحضور من أهل القرية - والقرى المجاورة - بداخلهم شعور عارم بالرضا، والسعادة، والسرور، بهذه الطريقة التي ماتت بها. وأنا، حتى هذه اللحظة، كنت مثلهم، أشاركهم هذا الهدوء. وهذا السرور. وهذا الرضا!
*
"كان الله يرحمها
وكانت..
كانت دايماً تعشق بُكره
رغم الغُلب ورغم السخره..
ماتت قابضه لبُكره الأجره
رغم البُكره ماجاش م البندر..
كانت دايماً تصحى تفكّر
(هوَّ - ياولدى - القطر اتأخّر؟ ..
ولّا - ياولدى - حاشوه العسكر؟)
جايز .. يمكن
يمكن .. جايز ..
يمكن ييجى في ضم الغلّه
جايز جه والناس نايمين
يمكن لسّه ماجاش.. وهاييجي
جايز جاي ويّا الجايين
كانت شايله هموم ملايين
كانت - الله يرحمها - ؛ آمين
تمسك ودني.. وترمي القول:
( أنا مش عايزه أموت نوبتين)"

[القرية - بعد مرور أيام ]
ذات مساء مقبض، خانق، دخلت إلى حجرتها المتواضعة، في بيتها القديم، وسط البيوت المتهالكة. وجلست بمفردي صامتاً؛ بجوار راديو ماركة "فيلبس" موديل 80، كانت تحتفظ به منذ سنوات بعيدة. بعد دقائق من الصمت الحزين، اكتست به جدران الحجرة، وجدت نفسي للمرة الأولى- منذ نبأ وفاتها - أدخل في نوبة بكاء، مريرة، وشديدة، استمرت لفترة من الوقت ليست قصيرة! وبجواري الراديو يأتيني منه صوت "الشيخ محمد رفعت" عبر "إذاعة القرآن الكريم" وهو يقرأ قول الله تعالى (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًاۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) صدق الله العظيم.

••خيري حسن
القاهرة - إپريل - 2021
•••
••الشعر المصاحب للكتابة:
•• قصيدة (أحن إلى خبز أمي) للشاعر الفلسطينى محمود درويش.
•• قصيدة (وقفة قصيرة أمام قبر أمي) للشاعر المصرى زكي عمر.


1619812262067.png
  • Like
التفاعلات: أحمد الحلواني

تعليقات

نص يحمل بين طياته من الحنين والمحبة والشوق اكثر مما يشيله من الحزن والأسى والكمد.. نصبح يتامى حقيقيين حينما نفقد الام، نتحول الى يتامى من عمق الفقد، فهي الأصل والدعامة والقلب الحنون الذي يحب بصدق، أصعب وأسوأ ما في هازم اللذات هو الفراق.. زادته اللغة والحكي المنساب عمقا وصدقا
هي هكذا مثل هذه الحالات حينما تهاجم الواحد، تختار وقتها وتنكتب بحسب طقوسها، وتفرض لغتها ومعجمها، وأحوالها النفسية
الرحمة والمغفرة والسلام على روحها الطاهرة في عليائها
 
أعلى