زمن السرد، نفسية وتفاعل للذات والذهن مع الواقع، ومع الحدث!
27 نونبر 2008
وصلت فاطمة إلى جانب السكة الحديدية، بعد أن نزلت أسفل القنطرة. عيناها جاحظتان مجهشتان، لكن، لا دموع منهمرة، فقط احمرار في عروقهما وجوانبهما. الطفلة الصغيرة ذات الثلاث سنوات كافحت بخطوها كي تنزل المنحدر مع أمها ماسكة بيدها أو حاضنة لها في صدرها. ابتسامتها لا تفارقها، فرحة برفقة أمها وأختها ذات الخمس سنوات. سألت التي في ربيعها الخامس أمها:
ـ ماما، إلى أين نذهب؟ أجابت الأم بعد صمت وفي حدة صوت:
ـ سنسافر.
ذات الربيع الثالث غنت، زقزقت مثل عصفور صغير، ورددت:
ـ ماما، ماما! نسافروُ، ألتران، نمشيو لجدة.
تذكرت الأم في حين غفلة، هنيهة، رغما عنها، يوم ذهبت لزيارة قبر أمها التي هي جدة الصغيرتين، فوقفت بجانبها ذات الربيع الثالث ماسكة بكامل قبضة يدها تلابيب جلباب أمها. وأمام القبر تكلمت الصغيرة:
ـ ماما ، قولي لجدتي أن تعطيني حلوتي، لقد بقيت عندهاـ استعدت الطفلة للبكاء ـ.
ـ سأشتري لك يا بنيتي أخرى.
ـ لا، أريد حلوتي التي بقيت عند جدتي بجانب وسادتها لقد أخذتها معها، دقي عليها كي تأتي وتعطيني حلوتي، أو نمشي عندها وهي ستعطيني إياها. أجي ندقوُ عليها هي ناعسة هنا.
اختلطت ابتسامة مع الدموع حين الترحم، هو القدر والعبث، والحياة والمصير. لكن لاباس فلا زالت العصفورة صغيرة لا تميز.
حاولت أن تخطفها من قرارها ابتسامة أخرى. يوم ترحمت فاطمة على أمها، همت لمغادرة قبرها ومثواها ثم عادت لتقرفص بجانبها:
- أقول لك شيئا يا يما! سعر الطماطم اصبح باهظا جدا مع اقتراب رمضان. لا أدري بم أعوضها في الطبخ!
بجانب السكة نبهت الأم طفلتيها للنظر في اتجاه أمامي وعدم الالتفات إلى الوراء:
ـ انظرا في هذا الاتجاه، سنرى القطار مارا أمامنا، ثم نعبر السكة. وضعت يدها اليسرى على بطنها وهي الحامل في شهرها السادس، عيناها مغرورقتان حمراوان، لونها مصفر، بشرتها باردة جامدة. حملقت ذات الربيع الخامس بالنظر إلى خَطَّي السكة كي تطمئن أمها:
ـ ماما، ياكي التران يدوز من الجهة الأخرى؟
ـ نعم.
في صمت ضمت بنتيها لفخذيها، جعلت حضن وجهيهما في جلبابها، غطت رأسها بحجابها:
ـ تمسكوا بي، ريحه قوية.
صفير إنذار قوي للقطار السريع. مع المنعرج الذي أتى منه بدت للسائق امرأة واقفة:
ـ هل ستتزحزح من هناك؟
دوى صوت وصفير، سمعت الفرامل من بعيد تنحبس لتوقف المسير. لا شيء تبقى. تلاشت الأجساد الثلاثة تحت القاطرة وفي جوانب السكة، لون أحمر انتشر في المجال، أشلاء ممزقة:
ـ لا، ما شي معقول، اللهم إن هذا لمنكر!
ردد السائق بصوت صارخ، أصبح طفلا مجهشا بالبكاء:
ـ لا يا ربي، لماذا؟ لا يعقل هذا؟
لم ينزل لتوه من القاطرة، فبعد التوقف المفاجئ، التفت المارة من فوق القنطرة:
ـ حادثة سير جديدة على السكة غير المحمية.
ـ كيفاش؟ إنهم أفراد عديدون وليس واحدا.
ـ انظر طفلة صغيرة ممزقة أشلاء.
وقعت الكارثة، انتحار جماعي لأم حامل بابنتيها. سجلت الجرائد الخبر المصيبة. حضر الزوج، رفع التقرير في الدوائر الأمنية. خبر الجريدة:
(انتحار أم بطفلتيها بعد أن أعطت لزوجها الإذن والترخيص بالزواج بأخرى. والسبب أنها حامل بطفلة ثالثة، ما أغضب الزوج وجعله يبحث عن طفل ذكر بالتفكير في الزواج من ثانية. هذا وقد تعطل القطار بين العاصمتين الإدارية والاقتصادية لأكثر من ساعة ونصف). انتهت القصاصة.
أخذ السائق عطلة مرضية لأجل العلاج النفسي. تداخل حكيه مع مجالسيه وزائريه. منهم من خفف عنه وطء الصدمة، ومنهم من أغرقه من جديد في تداعياتها. اخترقته أصوات الحكي في كوابيسه الجديدة:
- قرأ الناس الخبر. لا تعليق، فهموم الدنيا كثيرة، وإذا انفعلت معها كان الله وبقي الله.
- لنفر إلى الأمام بالنسيان، فهو دواء كل إنسان، والسلام.
- إننا لم نر رد فعل مجتمع مدني، ولا هيئات تربوية وإدارات معنية. فالكل في خلل تنظيمي أو وعي تجزيئي. مجرد مواطنين انحرفوا عن الصواب فوقع ما وقع، ولا يجب أن يقع. لننسى الأمر. انتهى.
- هنيئا لكم بالنسيان رغم أن الورم ما يزال يعشش في عقل كل مواطن إنسان، سينبعث في كل آن وأوان، ويتشكل وحشا في كل تصرف وأسرة وبنيان.
جاءت زيارة صحافي لسائق القطار لأجل تغطية الحدث وتسجيل لحوار خاص بجريدته، بعد أن مثل أمام جلسة قضائية خاصة. لم يشأ ان يدافع كثيرا ويبرر حسن سياقته وتحكمه في سرعته وبراءته من عدم نجاة الأرواح الاربع في فرملته.
سجل الصحافي الشهادة، بكى وختم تقريره:
- عذرا ذات الربيع الثالث، عذرا ذات الربيع الخامس، زهرتان داسهما القطار. عذرا أيها السائق الإنسان، جريمة إنسانية لست مسؤولا عنها، رغم أنك الشاهد في قاطرتك على كل ما كان.
وكان يا ما كان.
حسن إمامي.
27 نونبر 2008
وصلت فاطمة إلى جانب السكة الحديدية، بعد أن نزلت أسفل القنطرة. عيناها جاحظتان مجهشتان، لكن، لا دموع منهمرة، فقط احمرار في عروقهما وجوانبهما. الطفلة الصغيرة ذات الثلاث سنوات كافحت بخطوها كي تنزل المنحدر مع أمها ماسكة بيدها أو حاضنة لها في صدرها. ابتسامتها لا تفارقها، فرحة برفقة أمها وأختها ذات الخمس سنوات. سألت التي في ربيعها الخامس أمها:
ـ ماما، إلى أين نذهب؟ أجابت الأم بعد صمت وفي حدة صوت:
ـ سنسافر.
ذات الربيع الثالث غنت، زقزقت مثل عصفور صغير، ورددت:
ـ ماما، ماما! نسافروُ، ألتران، نمشيو لجدة.
تذكرت الأم في حين غفلة، هنيهة، رغما عنها، يوم ذهبت لزيارة قبر أمها التي هي جدة الصغيرتين، فوقفت بجانبها ذات الربيع الثالث ماسكة بكامل قبضة يدها تلابيب جلباب أمها. وأمام القبر تكلمت الصغيرة:
ـ ماما ، قولي لجدتي أن تعطيني حلوتي، لقد بقيت عندهاـ استعدت الطفلة للبكاء ـ.
ـ سأشتري لك يا بنيتي أخرى.
ـ لا، أريد حلوتي التي بقيت عند جدتي بجانب وسادتها لقد أخذتها معها، دقي عليها كي تأتي وتعطيني حلوتي، أو نمشي عندها وهي ستعطيني إياها. أجي ندقوُ عليها هي ناعسة هنا.
اختلطت ابتسامة مع الدموع حين الترحم، هو القدر والعبث، والحياة والمصير. لكن لاباس فلا زالت العصفورة صغيرة لا تميز.
حاولت أن تخطفها من قرارها ابتسامة أخرى. يوم ترحمت فاطمة على أمها، همت لمغادرة قبرها ومثواها ثم عادت لتقرفص بجانبها:
- أقول لك شيئا يا يما! سعر الطماطم اصبح باهظا جدا مع اقتراب رمضان. لا أدري بم أعوضها في الطبخ!
بجانب السكة نبهت الأم طفلتيها للنظر في اتجاه أمامي وعدم الالتفات إلى الوراء:
ـ انظرا في هذا الاتجاه، سنرى القطار مارا أمامنا، ثم نعبر السكة. وضعت يدها اليسرى على بطنها وهي الحامل في شهرها السادس، عيناها مغرورقتان حمراوان، لونها مصفر، بشرتها باردة جامدة. حملقت ذات الربيع الخامس بالنظر إلى خَطَّي السكة كي تطمئن أمها:
ـ ماما، ياكي التران يدوز من الجهة الأخرى؟
ـ نعم.
في صمت ضمت بنتيها لفخذيها، جعلت حضن وجهيهما في جلبابها، غطت رأسها بحجابها:
ـ تمسكوا بي، ريحه قوية.
صفير إنذار قوي للقطار السريع. مع المنعرج الذي أتى منه بدت للسائق امرأة واقفة:
ـ هل ستتزحزح من هناك؟
دوى صوت وصفير، سمعت الفرامل من بعيد تنحبس لتوقف المسير. لا شيء تبقى. تلاشت الأجساد الثلاثة تحت القاطرة وفي جوانب السكة، لون أحمر انتشر في المجال، أشلاء ممزقة:
ـ لا، ما شي معقول، اللهم إن هذا لمنكر!
ردد السائق بصوت صارخ، أصبح طفلا مجهشا بالبكاء:
ـ لا يا ربي، لماذا؟ لا يعقل هذا؟
لم ينزل لتوه من القاطرة، فبعد التوقف المفاجئ، التفت المارة من فوق القنطرة:
ـ حادثة سير جديدة على السكة غير المحمية.
ـ كيفاش؟ إنهم أفراد عديدون وليس واحدا.
ـ انظر طفلة صغيرة ممزقة أشلاء.
وقعت الكارثة، انتحار جماعي لأم حامل بابنتيها. سجلت الجرائد الخبر المصيبة. حضر الزوج، رفع التقرير في الدوائر الأمنية. خبر الجريدة:
(انتحار أم بطفلتيها بعد أن أعطت لزوجها الإذن والترخيص بالزواج بأخرى. والسبب أنها حامل بطفلة ثالثة، ما أغضب الزوج وجعله يبحث عن طفل ذكر بالتفكير في الزواج من ثانية. هذا وقد تعطل القطار بين العاصمتين الإدارية والاقتصادية لأكثر من ساعة ونصف). انتهت القصاصة.
أخذ السائق عطلة مرضية لأجل العلاج النفسي. تداخل حكيه مع مجالسيه وزائريه. منهم من خفف عنه وطء الصدمة، ومنهم من أغرقه من جديد في تداعياتها. اخترقته أصوات الحكي في كوابيسه الجديدة:
- قرأ الناس الخبر. لا تعليق، فهموم الدنيا كثيرة، وإذا انفعلت معها كان الله وبقي الله.
- لنفر إلى الأمام بالنسيان، فهو دواء كل إنسان، والسلام.
- إننا لم نر رد فعل مجتمع مدني، ولا هيئات تربوية وإدارات معنية. فالكل في خلل تنظيمي أو وعي تجزيئي. مجرد مواطنين انحرفوا عن الصواب فوقع ما وقع، ولا يجب أن يقع. لننسى الأمر. انتهى.
- هنيئا لكم بالنسيان رغم أن الورم ما يزال يعشش في عقل كل مواطن إنسان، سينبعث في كل آن وأوان، ويتشكل وحشا في كل تصرف وأسرة وبنيان.
جاءت زيارة صحافي لسائق القطار لأجل تغطية الحدث وتسجيل لحوار خاص بجريدته، بعد أن مثل أمام جلسة قضائية خاصة. لم يشأ ان يدافع كثيرا ويبرر حسن سياقته وتحكمه في سرعته وبراءته من عدم نجاة الأرواح الاربع في فرملته.
سجل الصحافي الشهادة، بكى وختم تقريره:
- عذرا ذات الربيع الثالث، عذرا ذات الربيع الخامس، زهرتان داسهما القطار. عذرا أيها السائق الإنسان، جريمة إنسانية لست مسؤولا عنها، رغم أنك الشاهد في قاطرتك على كل ما كان.
وكان يا ما كان.
حسن إمامي.