خيرة مباركي - الورد بين الثقافة الناعمة والرمز الفني – ج1

لغة الورد بين الحضارة والأسطورة

لا يُذكر الورد إلا ويُذكر معه الجمال والعاطفة والإبداع .وما مقامه إلا بين الحب والشاعريّة، رسولا للعاشقين وملهما للشعراء .هو ملك الأزهار وأوسعها حضورا في الحضارات القديمة والحديثة . وقد تأكد ذلك عبر الحفريّات حيث تدل بعضها على أن وجود الورد يعود إلى ما يزيد عن ثلاثين مليون عام وجد في الحضارات القديمة كالبابلية والفرعونيّة واليونانيّة في حدائق الملوك والأباطرة وذلك منذ ما يزيد عن 5000 عام كما وجدت نقوش سومريّة في منطقة الفرات تشير للورد تعود للعام 2860 قبل الميلاد. وهذا الاهتمام بالورد يجعله عنوانا للجمال ومصدرا للسعادة والإلهام بل هو لغة بين البشر تختلف سياقاتها حسب الظرف الواقعي، مما يجعل هذه اللغة مؤشّرا على الإحساس والذوق في التعامل مع الآخر ولعلّنا نعرض بعض مقامات التواصل الذي يحدثه الورد حيث بدا حاضرا في حالتيْ الحرب والسلم . في حالة الحرب والسياسة إذ لم يغب الورد للتواصل حين حضر في مثل حربأهليّة تُعتبر من أشهر الحروب وهي “حرب الوردتين ” التي وقعت بين عائلتي “لانكاستر” و” يورك” في أنجلترا إبّان القرن الخامس عشر ، واتخذ أحد طرفيْ النّزاع الوردة البيضاء شعارا ، في حين اختار الطرف الآخر الوردة الحمراء . وعندما انتصر الملك “تيودور” جعل له وردا خاصا سماه “ورد انجلترا” كما حضر في ارتباط وثيق بالأيدولوجيا السياسية حيث حضر لدى الأحزاب الاشتراكية في كثير من دول العالم لتكون الوردة الحمراء شعارا لها ،اتخذوها رمزا لوجودهم السياسي وهذا ما حدا بالناشطة السياسية الفيلسوفة إيما قولدمان : “أفضّل وردا على طاولتي أكثر من جواهر تطوّق عنقي ” . ولا أدل علو ارتباط الورد بالسياسة والحرب نقله من سوريا إلى أروبا إبّان الحملات الصّليبيّة .بهذا يتجاوز الورد كونه مجرّد نبات يتصل بنوعية زهور القطف ليتخذ أبعادا رمزيّة ذات معان ودلالات مختلفة حسب المقام الحضاري والتّاريخي والمناسبات الخاصة والعامة في العلاقات الانسانيّة . ولعلّها تجسّد رمزيّة الانسان في تعامله مع الطبيعة . فالزهور لم تغب عن حياة الشّعوب.وأمام هذه “الثّقافة النّاعمة”، ” ثقافة الزّهور” تطلق الغريزة عنانها لتعبّر عن أعماقها .ولئن عبّر الورد عن معان كثيرة فإن هذه المعاني أظهرت الاختلاف من خلال النوع واللون وارتباط كل ذلك بالحضارة والثقافة .فالورد حاضر في العقل الجمعي ، في المشاعر والتفكير بل في العقائد بهذا فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالمناسبات التي تشرّعةرمزا حضاريّا تكاد لا ترى المكان والناس إلاّ به ولنا في ذلك العديد من الأوطان والأماكن التي اقترن وجودها بالورد أو ارتبط الورد فيها بالمكان في علاقة جدلية مثل زهرة “اللوتس” التي اشتهرت بها مصر منذ العصور القديمة حيث كانت تفتح أزهارها وهي تعوم في النيل كل صباح لتغلق تويجاتها عند المساء ثم تغطس تحت الماء أو الورد البلدي في المغرب ,الدمشقي والبنفسج والسوسن والخرم والنيلوفر والأقحوان وشقائق النعمانفي الأندلس وغيرها والفل والياسمين في تونس وخاصة في مدينة تستورالواقعة في الشمال الغربي التي اشتهرت بزراعة هاتين الزهرتين الشقيقتين في كل مكان ولو في ركن ركين فتغدو زراعتهما سمة مميزة و جزء من معمارها الفني وهندستها الطبيعية وهذا ما أكسب مداخل “المدينة العربي” عبقا مميزا فيكون الفل والياسمين جزء لا ينفصل عن يومياتهم.وتتوسع دائرة الاستعمال من الطبيعة إلى الثقافة لتتشكل من هذه الزهور “المشموم” التي باتت لها أهمية بالغة في طقوس الأعراس وعملية الاعداد السيكولوجي للعريس والعروس ليلة الزفاف وهو ما جعل منها رمزا للرجولة يغذّي الاحساس برائحته العطرة الذّكيّة . حيث يجب على كل عريس أن يحمل في يده “مشموم الفل” ليلة الدخلة . وهو مشموم مرصّع بحُبيْبات الياسمين في المقابل تضع العروس في رقبتها قلائد مصفّفة بحبّات الفلّ . هذا وقد يتجاوز الأمر مناسبات الأعراس الى اليومي وخاصة في فصل الربيع حين يزهر في القرى والأرياف ليعبّر عن المشاعر والأحاسيس فيغدو من أبرز رموز التعبير الصّامت العميق ولغزا من ألغاز التخاطب بين الأزواج كأن تنثر الزّوجة حبات الفل في أرجاء البيت أو يعود الزوج وبيده مشموم فل لينوب عن لغة التخاطب اليومي فترتبط اللغة بالجمالية ورقة الأحاسيس بالرجولة والخصوبة . وهاهنا تتحوّل رموز الزهور ومعانيها لتأخذ لغة محدّدة وواضحة هي لغة مشفّرة عرفت بلغة الورد أو ما يسمّى ب”فلويجرافي”حيث اكتسبت الزهور معانيها ودلالاتها من مصادر ثقافية اجتماعيّة ودينيّة رمزيّة لتنسب المعاني للزهور منذ آلاف السنين . وقد نسبت هذه الرّمزيّة ل”وليم شكسبير” وخاصة في هاملت وأمير الدنمارك . وأول ارهاصات هذه اللغة في القسطنطينية على يد الليدي “ماري وارلتريمونتاجو” وكانت شاعرة وكاتبة رسائل تكتب رسائلها المشفرة لحبيبها فيأنجلترا محورها الورد لتطلع أوروبا على لغة أخرى لم تكن تعرفها .هي ما يمكن أن يحمله النباتات من رسائل الحب وغيره . لعلّه سبب مقنع يجعل الشعب الصيني يفضّل الوردة على الرّغيف ففي حكمهم أن الصيني لو ملك رغيفين اكتفى بواحد وباع الآخر ليشتري وردة.وهاهنا تكتسب الوردة بكل تفاصيلها رمزية خاصة ففي لونها عبر الورد الأحمر عن الحب والتقدير عند الكثير من الشعوب إلاّ أنه عند شعوب أخرى يأخذ لون الورد وعدد الوردات دلالة مفارقة إذ تعبر براعم الورد الأحمر عن ميلاد حب جديد . في حين يتطلّب الاعراب عن الحب وفتح قناة الاتصال بست وردات حمراء . أمّا في حالة طلب يد فتاة فيقدم الشاب 108 وردات. ويمكن أن يقدّم وردة برتقالية ليدل على أن هذه العلاقة تتجاوز حدود الصداقة إلى الإعلان عن الحب وصفراء ليحدد العلاقة فلا تتجاوز حدود الصداقة.ويقدم الوالد لابنته في حفل زفافها الورد الأبيض والزوج لزوجته الورد البنفسجي. إنّها علامة من علامات التواصل الاجتماعي والإنساني لترمز الوردة إلى الجمال عبر دوال الشعور الوجداني الذي يراوح ما بين ألم وأمل وارتقاب وغياب وهاهنا تقول الزهور كلمتها فيحفظها التّاريخ وتطلقها الكلمة ليتناقل أريجها عبر الزمن فهي تضفي معنى ورمزا للشعوب بهذا ينبثق الورد رمزا للأرض والواقع . تسهم إلى حد بعيد في صياغة أفكار النّاس وعاداتهم ومعتقداتهم وتفكيرهم الجمعي وهو ما نجده في الأسطورة حيث لعب الورد دورا كبيرا في ارتباط رمزيّته بالشباب والنضارة والحب والجمال كما رمزت أزهاره في أغلبها إلى الآلهة مثل “فينوس” و”كيوبيد” إله الحب . وتحدّثنا الأساطير القديمة بأن “كيوبيد” أهدى وردة إلى “هربوقراط” إله الصّمت كرشوة له حتى لا يذيع أسراره وهو الأمر الذي جعل الأوربيين يعلقون وردة في السقف في جلسة حول مائدة ليعبّروا عن سرّية ما يقال . كما ارتبطت في بعض أساطير الشعوب الأخرى بالخصوبة مثل المعتقدات الافريقيّة التي تنسب الخصوبة للأرواح القاطنة بالأشجار هذه التي تسقط على المرأة في هيئة أزهار منيرة . فقد كانت نساء “باغاندا” تتصوّر إمكانية الحمل بدون مساعدة الجنس الآخر – من الأشباح المزعجة ومن زهرة الموز أيضا- فإذا سقط نور الموز الأرجواني على ظهر امرأة أو كتفيها صدفة فهذا كاف في معتقدهم لأن يجعل الجنس يتحرّك في أحشائها .كما نجد في (شقائق النعمان) مثالا آخر فهي وردة تنبت على قبر النعمان بن المنذر أشهر ملوك ملك الحيرة الذي داسته الفيلة إذ رفض تسليم نساء العرب لملك الفرس فكانت معركة “ذي قار ” لهذا نسبت وردة “شقائق النعمان ” إليه .هذا فضلا على حضورها في الأسطورة السومرية في بلاد الرافدين حين حاول “جلجامش” الوصول إلى زهرة الخلود لينتهي بعد صراع طويل إلى الموت نهايته الطبيعيّة أو أسطورة “نرسيس” أو “نركسوس ” أو”نرجس ” في الأسطورة اليونانيّة وتعود إلى زهرة النرجس واحدة من الزهور المنتشرة في بلاد الإغريق جعلت اهتمام رجل اغريقي ينسج حولها قصة ظلت متوارثة على مدى العصور وهي قصة صياد من “ثيسبيا ” ،”بيوتيا” اُشتهر لجماله ،كان مغرورا وفخورا بنفسه . أخذته الالهة ” نمسيس” إلى بحيرة ليرى انعكاس صورته فيها ويقع في حبّها دون أن يدرك أنّها مجرّد صورة وبقي يحدّق فيها إلى أن مات .وتتحوّل هذه القصّة موضوعا لإحدى نظريات التحليل النفسي في العصور الحديثة مع “سيجموند فرويد” .. لعلنا بهذه الفسحة ندرك أن أصل الوجود جمال ،المعرفة جمال والعاطفة جمال والعقل جمال وما يتولد عن هذا الجمال من آفاق تخييليّة إنما هو الجمال والورد مع كل هذه المعطيات حالة وأسلوب حياة خلقه الله ليجمّل به الطبيعة. إنه لغة الإبداع الذي يشكّل البدع .بدع الورد الذي خلق بدع الحضارة والثقافة .. أسلوب في التفكير وأداة للتواصل ينوب عن المشاعر والأحاسيس حتى تعطي أجمل ما عندها.بدعها الزاخرة وفنونها الوافرة.

خيرة مباركي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى