معجم المصطلحات الكبير - حتْمِية لُغوِية.. اللغة والأدب

تقوم الحتمية اللغوية على فكرة أنّ اللغة وبِنيتها تحدّدان الطرق التي يُبْنى بها العقل وتصوغان التفكير والنظرة إلى العالم وتشكّلان معرفة ذات نمط معيّن، ويرجع عهد هذه الفكرة إلى الفيلسوف الألماني «ولهالم همبولدت» 1767-1835م Wilhelm Humboldt وقد أثارها من جديد في الولايات المتحدة «إدوارد سابير» Edward Sapir سنة 1929م، وتوسّع فيها تلميذه «بنجامين وُورف» Benjamin Worf، وقد صرّح «سابير» بأنّ الناس إنّما هم تبع في تفكيرهم وإحساسهم ومشاعرهم ونظرتهم إلى الكون، للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة قومهم. ثمّ زاد بعضهم فقال إنّ دراسة صيغ لغة من اللغات إنّما هي في الحقيقة دراسة لصيغ التفكير وطرقه عند القوم الناطقين بتلك اللغة، واستدلّوا على ذلك بفقر بعض اللغات في مجالات معيّنة من النشاط، وثروة بعضها الآخر في مجالات أخرى، من ذلك مثلا ثروة المعجم العربي فيما يخصّ أوصاف الناقة، وفقره فيما يخصّ العلم والصنعياء والفنّ. وصرّح الفيلسوف الألماني «أرنست كسيرار» Ernest Cassirer سنة 1953م: «بأن تحليل لغة ما هو تعرّف مباشر على خصائص التفكير والمعرفة عند القوم الناطقين بها». وأردف «بنجامين وُورف» ذلك بقوله: «إنّ الفروق القائمة بين صيغ الكلام عند البشر إنّما تُنبئ بالفروق الموجودة بينهم في كيفية إدراك الواقع وتصنيفه».

يقول تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov: «إنّ الكائن البشري، لا يولد في حضن الطبيعة فحسب، وإنّما كذلك، ودائما وبالضرورة، في حضن ثقافة، إنّ السمة الأولى للهويّة الثقافية الأصلية هي أنّها تُفرض أثناء الطفولة، بدل أن تكون من اختيار الشخص. فحين يأتي الطفل إلى العالم ينغمس في ثقافة مجموعته التي هي سابقة له. إنّ الأمر الأكثر لفتا للانتباه، ولكنّه كذلك الأكثر تحديدا ربّما، هو أنّنا نولد بالضرورة في حضن اللغة، تلك التي ينطق بها أهلنا أو الأشخاص الذين يتولَّون رعايتنا. والواقع أنّ اللغة ليست أداة حيادية، فهي مطبوعة بالأفكار والأعمال والأحكام التي نرثها من الماضي، إنّها تُرسِّم الواقع بطريقة خاصّة، وتنقل إلينا بشكل غير مرئي نظرة عن العالم، والطفل لا يمكنه أن يتحاشى تشرّب هذه النظرة. هذه الطريقة في تصوّر العالم تنتقل من جيل إلى جيل».

يؤكد المنتقدون لهذا الرأي الذين لهم توجه اجتماعي على السياق الاجتماعي في استعمال اللغة بدلا من الاعتبارات اللغوية البحتة، كما يرى بعضهم أنّ اللغة والثقافة لا يصنعان رابطا سببيا بينهما، وقد وجّه الربيز: الشاذلي الفيتوري العلاّمة التونسي نقدا لهذه النظرية، لا سيّما فيما تعلّق منها باللغة العربية من خلال دراسة تحليلية للمجتمع التونسي، ونفى وجود حتمية لغوية إلاّ أنّه أكّد بالمقابل على وجود حتمية تربوية قد تفعل فعلها في تفكير التلميذ المزدوج اللسان وفي مواقفه سواء أكانت اللغة المستعملة اللغة العربية أم اللغة الفرنسية، ورأى أنّ هذه النظرية تميل إلى المقارنات المزيّفة بين أوضاع مختلفة للغات من دون اعتبار فترات التاريخ التي مرّت بها هذه اللغات التي ينعتونها بأنّها بدائية، مثل اللغة العربية، ثمّ أردف قائلا: إنّ الخطأ الفادح الذي وقع فيه كلّ أنصار هذه النظرية، هو أنّهم لم يميّزوا بين اللغة والثقافة، فكان نصيبهم الخلط والخبط إلى أنّ جاءت البحوث في مجال الإناسة الثقافية cultural anthropology تعدّل الموقف وتكشف عن زيف هذه النظرية، وفي العقود الأخيرة قام «روبرت كابلان» Robert B. Kaplan, 1988 بالبحث في الطرق التي تؤثّر بها اللغة والثقافة على البناء السردي ويفترض أن لغتنا الأولى (اللغة الأم) لها تأثير قوي على طريقة تشكيل أفكارنا وتنظيمها.



مصطلح قريب
لهْجمة
لغة كلزية
linguistic determinism
لغة فرنسية
déterminisme linguistique



مراجع

الأسس النفسية والاجتماعية للغة العربية. الشاذلي الفيتوري. اللغة العربية والوعي القومي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية، بالاشتراك مع المجمع العلمي العراقي ومعهد البحوث والدراسات العربية. مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1984م، بيروت، لبنان.
الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات. تزفيتان تودوروف، ترجمة، الربيز: جان ماجد جبور. كلمة، 2009م. أبوظبي، الإمارات العربية المتّحدة.




منقول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى