يذهب جوته لزيارة تلميذه وصديقه "كارل أوجست"– أمير فيمار، لقد دعاه لزيارة إمارته لعدة أيام، أخذه إلى قصره الكبير، فقابل أمه، ارتبك عندما رأي وصيفتها "شارلوت"، شد على يدها قائلا:
- أعتقد أنني رأيتك من قبل.
- لا أظن يا سيد جوته.
- لا، رأيتك، أقصد رأيت صورتك لدي صديقي "تسيمر".
- ذاكرتك قوية ـ فقد رسم "تسيمر" لوحة لي منذ شهور قليلة.
تغيّر جوته منذ أن رأى شارلوت، أصبح أكثر هدوءً، يشرد طوال الوقت. تركه كارل لينام؛ فلم ينم، ظل يتابع سقف الحجرة، تطارده شارلوت بوجهها الوقور الحزين. لقد شده إليها الحزن في اللوحة التي رسمها صديقه " تسيمر". وهاهو الحزن يشده إليها هنا في فيمار.
جاءه كارل في الصباح، وجده فوق فراشه كما هو منذ أن تركه مساء أمس:
- هل نمت يا صديقي الفنان العظيم؟
- لم أنم كثيرا، لكنني أحس بالراحة.
- هيا، أريدك أن تشاهد كل ركن في إمارتي الصغيرة، وأتعشم أن تؤثر مناظرها الخلابة على أعمالك، فأجد.......
قاطعه جوته متسائلا:
- السيدة شارلوت شتاين، صديقة والدتك؟
- من المقربين إليها، هي زوجة رئيس اسطبلات القصر.
ظل جوته يتابعه، بينما الأمير الشاب ينتقل في خفة من مكان إلى آخر في حجرة ضيفه الضيقة:
- لكنه انتقل إلى عمل آخر في بلدة بعيدة.
- ولماذا لم تذهب شارلوت معه؟
- لم يكونا على وفاق، هي ميالة إلى الفن والموسيقى والشعر، وهو صارم متجهم لا يفهم إلا في الخيل وأطعمتها من شعير وفول.. إلخ.
دفع جوته الغطاء عن جسده وقام عن الفراش قائلا:
- ولماذا لا تسع إلى طلب الطلاق؟
- ذلك صعب للغاية، هي تعيش بيننا سعيدة وأظنه أكثر سعادة منها لأنه بعيد عنها.
أحست الأميرة الأم بالقلق من أجل ابنها كارل، فهو لا يفترق عن صديقه جوته، يمرحان ويعربدان في الإمارة بطريقة تنذر بالخطر، وكارل مولع بصديقه ولا يطيق أي نقد بخصوصه، فصاحت الأم في صديقتها شارلوت:
- سأضطر إلى التدخل لانقاذ ابني وإمارته، سأطرد جوته من هنا.
- لو أذنت لي يا سيدتي؛ سأتدخل لحل المشكلة.
- ليتك تفعلين هذا يا شارلوت.
**
قالت شارلوت لجوتة في وقارها المعهود:
- ظننتك لن تضيّع وقتك هنا، ستقرأ وتشاهد الطبيعة الجميلة، وتدفع الأمير الشاب إلى أن يُصلح بلاده، وأن يعمل من أجل شعبه.
- أنت محقة فيما تقولين، لقد جئت فيمار لكي أبقى فيها عدة أيام، لم أكن أتوقع أن تزيد عن أربعة أو خمسة أيام، لكن عندما رأيتك أحسست بأنني لا أريد أن أبرحها.
صاحت شارولت مأخوذة:
- ما الذي تقوله؟!
انطلق الحديث من فمه دون أن يدري:
- منذ أن رأيت صورتك لدى صديقي " تسيمر " وأنا أفكر في هذه الملامح البسيطة الهادئة المعبرة.....
- جوته، أرجوك.
- هذه هي الحقيقة أم تريدين أن أكذب عليك؟!
أحست شارلوت بارتياح، لم تحس بهذه الراحة منذ سنوات بعيدة، لم يكن تنفسها منتظما كما هو الآن. قبل هذه اللحظة كانت تحس الاختناق، قالت وقد ابتسمت:
- دعك من عواطفك هذه الآن، وعدني أن تغير طريقة حياتك في فيمار؛ حتى لا تكون منتقدا.
- سأفعل ما دامت هذه رغبتك.
**
لقد هدأ جوته، لم يعد يخرج مع كارل معربدا، بل دفعه إلى إصلاح أشياء كثيرة في فيمار، لكن شارلوت مازالت في عنادها، تبتسم له ( كم أحبَ وجهها المبتسم، كما كان يُحب وجهها الحزين ) لكنها لا تريد أن تلين، تكتفي بحديثها معه، لم تعد تزوره في بيته، لذا؛ قرر أن يرحل عن فيمار.
قابله صديقه الأمير كارل:
- لماذا تريد أن تتركنا بعد أن غيّرت كل شيء في فيمار إلى الأفضل.
- سعيد لأنك تعلمت أشياء كثيرة وأرجوك ساعدني لكي أسافر وأهرب.
- أعرف أنك تحب شارلوت، وهي تحبك بجنون، قالت لي إن وجودك قد حبب إليها الدنيا.
- وقالت أيضا في رسالة لي: " كنت مستعدة للموت، وبعد أن وجدتك أحببت الحياة "
- فلماذا لا تريد أن تتركها؟
- طال الوقت دون فائدة، مجرد كلمات، مازالت منتسبة إلى رئيس الاسطبلات هذا، لا أستطيع أن أتحمل هذا العذاب، سأرحل دون أن تعلم.
**
تفاجأ شارلوت برحيله فتبكي للأميرة الأم:
- لن أنسي له هذا أبدا.
يبتعد جوته، ينطلق من مكان إلى آخر، أربع سنوات وهو بعيد عن فيمار، وشارلوت التي أحبته تعاني من بعده عنها، تتعذب إلى أن مرضت، يُرسل كارل في طلبه، يأتي جوته متلهفا للقاء شارلوت، فيقول له كارل:
- تأخرت يا جوته.
- دخلتُ معركة صعبة لكي أبعد عن إغراء العودة إلى فيمار.
- اشتد المرض على شارلوت بعد أن سافرت، وحالتها تزداد سوءً يوما عن يوم.
يذهبان إلى بيتها، يتابعها جوته وهي فوق فراشها فتنثال دموعه:
- لم أظن أن غيابي سيفعل بك كل هذا.
فتتحدث شارلوت بضعف شديد:
- أرجوك، لم أعد أمتلك حتى الصحة للحديث معك.
وعندما أراد الاقتراب من فراشها؛ أخذته الأميرة الأم بعيدا.
**
لقد ماتت شارلوت، انتظرت عودته ثم ماتت، ويبقى جوته في فيمار بعد إلحاح أميرها الشاب كارل أوجست، يترك لجوته النواحي الثقافية والفنية في الإمارة.
مصطفى نصر
* نشرت بالمجلة العربية - عدد مايو 2021
- أعتقد أنني رأيتك من قبل.
- لا أظن يا سيد جوته.
- لا، رأيتك، أقصد رأيت صورتك لدي صديقي "تسيمر".
- ذاكرتك قوية ـ فقد رسم "تسيمر" لوحة لي منذ شهور قليلة.
تغيّر جوته منذ أن رأى شارلوت، أصبح أكثر هدوءً، يشرد طوال الوقت. تركه كارل لينام؛ فلم ينم، ظل يتابع سقف الحجرة، تطارده شارلوت بوجهها الوقور الحزين. لقد شده إليها الحزن في اللوحة التي رسمها صديقه " تسيمر". وهاهو الحزن يشده إليها هنا في فيمار.
جاءه كارل في الصباح، وجده فوق فراشه كما هو منذ أن تركه مساء أمس:
- هل نمت يا صديقي الفنان العظيم؟
- لم أنم كثيرا، لكنني أحس بالراحة.
- هيا، أريدك أن تشاهد كل ركن في إمارتي الصغيرة، وأتعشم أن تؤثر مناظرها الخلابة على أعمالك، فأجد.......
قاطعه جوته متسائلا:
- السيدة شارلوت شتاين، صديقة والدتك؟
- من المقربين إليها، هي زوجة رئيس اسطبلات القصر.
ظل جوته يتابعه، بينما الأمير الشاب ينتقل في خفة من مكان إلى آخر في حجرة ضيفه الضيقة:
- لكنه انتقل إلى عمل آخر في بلدة بعيدة.
- ولماذا لم تذهب شارلوت معه؟
- لم يكونا على وفاق، هي ميالة إلى الفن والموسيقى والشعر، وهو صارم متجهم لا يفهم إلا في الخيل وأطعمتها من شعير وفول.. إلخ.
دفع جوته الغطاء عن جسده وقام عن الفراش قائلا:
- ولماذا لا تسع إلى طلب الطلاق؟
- ذلك صعب للغاية، هي تعيش بيننا سعيدة وأظنه أكثر سعادة منها لأنه بعيد عنها.
أحست الأميرة الأم بالقلق من أجل ابنها كارل، فهو لا يفترق عن صديقه جوته، يمرحان ويعربدان في الإمارة بطريقة تنذر بالخطر، وكارل مولع بصديقه ولا يطيق أي نقد بخصوصه، فصاحت الأم في صديقتها شارلوت:
- سأضطر إلى التدخل لانقاذ ابني وإمارته، سأطرد جوته من هنا.
- لو أذنت لي يا سيدتي؛ سأتدخل لحل المشكلة.
- ليتك تفعلين هذا يا شارلوت.
**
قالت شارلوت لجوتة في وقارها المعهود:
- ظننتك لن تضيّع وقتك هنا، ستقرأ وتشاهد الطبيعة الجميلة، وتدفع الأمير الشاب إلى أن يُصلح بلاده، وأن يعمل من أجل شعبه.
- أنت محقة فيما تقولين، لقد جئت فيمار لكي أبقى فيها عدة أيام، لم أكن أتوقع أن تزيد عن أربعة أو خمسة أيام، لكن عندما رأيتك أحسست بأنني لا أريد أن أبرحها.
صاحت شارولت مأخوذة:
- ما الذي تقوله؟!
انطلق الحديث من فمه دون أن يدري:
- منذ أن رأيت صورتك لدى صديقي " تسيمر " وأنا أفكر في هذه الملامح البسيطة الهادئة المعبرة.....
- جوته، أرجوك.
- هذه هي الحقيقة أم تريدين أن أكذب عليك؟!
أحست شارلوت بارتياح، لم تحس بهذه الراحة منذ سنوات بعيدة، لم يكن تنفسها منتظما كما هو الآن. قبل هذه اللحظة كانت تحس الاختناق، قالت وقد ابتسمت:
- دعك من عواطفك هذه الآن، وعدني أن تغير طريقة حياتك في فيمار؛ حتى لا تكون منتقدا.
- سأفعل ما دامت هذه رغبتك.
**
لقد هدأ جوته، لم يعد يخرج مع كارل معربدا، بل دفعه إلى إصلاح أشياء كثيرة في فيمار، لكن شارلوت مازالت في عنادها، تبتسم له ( كم أحبَ وجهها المبتسم، كما كان يُحب وجهها الحزين ) لكنها لا تريد أن تلين، تكتفي بحديثها معه، لم تعد تزوره في بيته، لذا؛ قرر أن يرحل عن فيمار.
قابله صديقه الأمير كارل:
- لماذا تريد أن تتركنا بعد أن غيّرت كل شيء في فيمار إلى الأفضل.
- سعيد لأنك تعلمت أشياء كثيرة وأرجوك ساعدني لكي أسافر وأهرب.
- أعرف أنك تحب شارلوت، وهي تحبك بجنون، قالت لي إن وجودك قد حبب إليها الدنيا.
- وقالت أيضا في رسالة لي: " كنت مستعدة للموت، وبعد أن وجدتك أحببت الحياة "
- فلماذا لا تريد أن تتركها؟
- طال الوقت دون فائدة، مجرد كلمات، مازالت منتسبة إلى رئيس الاسطبلات هذا، لا أستطيع أن أتحمل هذا العذاب، سأرحل دون أن تعلم.
**
تفاجأ شارلوت برحيله فتبكي للأميرة الأم:
- لن أنسي له هذا أبدا.
يبتعد جوته، ينطلق من مكان إلى آخر، أربع سنوات وهو بعيد عن فيمار، وشارلوت التي أحبته تعاني من بعده عنها، تتعذب إلى أن مرضت، يُرسل كارل في طلبه، يأتي جوته متلهفا للقاء شارلوت، فيقول له كارل:
- تأخرت يا جوته.
- دخلتُ معركة صعبة لكي أبعد عن إغراء العودة إلى فيمار.
- اشتد المرض على شارلوت بعد أن سافرت، وحالتها تزداد سوءً يوما عن يوم.
يذهبان إلى بيتها، يتابعها جوته وهي فوق فراشها فتنثال دموعه:
- لم أظن أن غيابي سيفعل بك كل هذا.
فتتحدث شارلوت بضعف شديد:
- أرجوك، لم أعد أمتلك حتى الصحة للحديث معك.
وعندما أراد الاقتراب من فراشها؛ أخذته الأميرة الأم بعيدا.
**
لقد ماتت شارلوت، انتظرت عودته ثم ماتت، ويبقى جوته في فيمار بعد إلحاح أميرها الشاب كارل أوجست، يترك لجوته النواحي الثقافية والفنية في الإمارة.
مصطفى نصر
* نشرت بالمجلة العربية - عدد مايو 2021