تعريف النصر والهزيمة في الصراعات مفهوم ملتبس وغامض.. ومن الناحيتين السياسية والإستراتيجية ينطوي على قدر كبير من الخداع اللفظي والمكر السياسي، وتلعب قوة اللغة وجزالة الألفاظ دورا مهما في هذا السياق.. أما من الناحية العسكرية فالموضوع أكثر وضوحا، ويكون للغة الأرقام القول الحسم..
تاريخيا، نعرف الكثير من الانتصارات العسكرية جُللت بالعار، وبعض الهزائم صارت رمزا للفداء والصمود وجدوى التضحية.. وهنا تصبح مقارنات الأرقام والبيانات لا معنى لها.. فالمسألة ليست تجارة، مقياسها الربح والخسارة.. في حركة فتح، أول درس تعلمناه "الإيمان بحتمية النصر"، من منطلق أنه لا يمكن لأي شعب أو حتى فرد أن يضحّي ما لم يقتنع بجدوى تضحيته، بمعنى أنها ستكون جزءاً من عملية متراكمة، سنقطف ثمارها بعد حين.. والإيمان بالنصر شرط أساسي لرفع المعنويات، وتعبئة الطاقات؛ لذا من أول واجبات القيادة فتح نافذة للنصر، أو شق الطريق التي ستؤدي إلى النصر.. وهنا يصبح مجرد رفع إشارة النصر مسألة فارقة بين الاستسلام والصمود..
نحن الفلسطينيون نكاد نتميز بطريقة تعاطينا مع مفهوم النصر، نفهمه بشكل مختلف، صحيح أنه يغلب عليه الطابع العاطفي والوجداني، ولكن ربما كان هذا سر بقائنا ومواصلتنا وصمودنا طوال القرن الماضي في وجه المشروع الاستعماري الصهيوني.. ولو ألقينا نظرة سريعة على بعض الأمثلة لأدركنا أهمية احتفالنا بالنصر، حتى لو كان معنويا.. وفي الحقيقة، كانت كل انتصاراتنا معنوية.. كان يكفينا نصرا عسكريا وسياسيا واحدا لننهي هذه المأساة.. مرة واحدة، وإلى الأبد.. لكن هذا للأسف كما يعلم الجميع، لم يحصل حتى الآن..
فرحنا بانتصارات عز الدين القسام، رغم أنها انتهت باستشهاده هو ومع من معه.. فرحنا بانتصار ثورة ال36، والإضراب الكبير، رغم أنها انتهت باستجلاب المزيد من اليهود إلى فلسطين، وفرحنا بانتصارات عبد القادر الحسيني وجيش الجهاد المقدس، رغم أنها انتهت بالنكبة وضياع فلسطين..
بعد النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني، وسنوات طويلة من الضياع والتشتت انطلقت الثورة الفلسطينية، وكان أول نصر تحققه في معركة الكرامة.. فرحنا بهذا النصر، رغم أن إسرائيل ظلت تواصل احتلالها للأرض، وتواصل بناء مقدراتها وتطورها..
فرحنا بنصر حرب تشرين 1973، وعبور خط بارليف، رغم أنها انتهت بثغرة الدفرسوار (عسكريا)، ومن ثم باتفاقيات كامب ديفيد (سياسيا).
في معارك الثورة في الجنوب اللبناني، وخاصة في العرقوب، وفي اجتياح الليطاني، كنا كل مرة نحتفل بالنصر، رغم أنها أدت إلى احتلال الجنوب وإيجاد سعد حداد وجماعته.. وفي حرب الصواريخ 1981 على إصبع الجليل فرحنا بالنصر، وبإجلاء المستوطنين عن كل شمال فلسطين، مع أن النتيجة كانت اجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان صيف 1982. وبعد تلك الحرب أيضا احتفلنا بالنصر والصمود ثلاثة أشهر، رغم أن نتيجتها كانت خروج الثورة من أهم ساحة لبلدان المواجهة..
وفرحنا بانتصارات الانتفاضة الشعبية 1987، مع أنها جلبت أوسلو.. وفرحنا باندحار إسرائيل عن الجنوب في العام 2000، رغم أنها كانت عبارة عن استعداد للتفرغ لمعركتها الأهم والتي ستدشنها في اقتحام شارون للأقصى.. وفي انتفاضة الأقصى فرحنا بانتصارات مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس وكنيسة المهد وبالعمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر، وبسقوط 1080 قتيل إسرائيلي خلال تلك الانتفاضة. رغم أنها انتهت بتدمير مقرات السلطة وبناء جدار الفصل. وفرحنا بانسحاب إسرائيل من غزة 2005 رغم أنها كانت تمهيدا للانقسام.
وفي إضرابات الأسرى كنا كل مرة نحتفل بانتصار السجين على السجان، ونتغنى ببطولات الأسرى، رغم أن منجزات الإضرابات كانت في إطار تحسين شروط السجن.
وفي حرب تموز 2006، فرحنا بانتصارات حزب الله، ورفعنا صور السيد حسن نصرا الله، رغم الدمار الهائل الذي حل بلبنان، وأنها أدت إلى فرض انسحاب قوات حزب الله 40 كلم شمال الحدود.
وفي الحروب العدوانية الثلاث السابقة على غزة (2008، 2012، 2014) كنا كل مرة نحتفل بالنصر، رغم الدمار الهائل والتضحيات الجسيمة والخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات..
هذه المرة، وبعد الجولة الدامية على غزة أيضا احتفلنا بالنصر، رغم أنها انتهت دون أي التزام سياسي أو أمني إسرائيلي، وهي خلافا للجولات الثلاث السابقة التي كانت تنتهي على الأقل بتفاهمات ومكتسبات تتعلق بتحسين شروط الحصار.. أثناء العدوان كنا على ثقة عالية بأن أي تفاهمات ستكون مربوطة بالقدس والاستيطان والضفة الغربية والداخل المحتل، وبالكثير من شروط المقاومة الأخرى.. هذا لم يحصل، ومع ذلك احتفلنا بالنصر.. وبالطبع يحق لنا ذلك، لنفس الأسباب والظروف التي أحاطت بالانتصارات السابقة..
بهذا العرض المكثف يبدو أننا أكثر شعب حقق انتصارات.. وهذا ليس من باب السخرية، أو التقليل من أهمية الانتصار الأخير.. ولكن إذا وضعنا مفهوم الانتصارات في سياقها الطبيعي، أي بوصفها مجرد انتصارات معنوية ورمزية، وعملية مراكمة للمنجزات، ضمن صراع طويل وممتد وشامل ضد عدو شرس ومتخم بالقوة، يكون حينها نصرا حقيقيا، يمكن بل ويجب البناء عليه.. وغير ذلك، أي بالمبالغة والخطاب الشعبوي الانفعالي فإن ما نقوله عن وصف الانتصارات سيكون عملية تزييف للوعي الوطني، وطمس للذاكرة التاريخية، وبهذا سنبني إستراتيجات جديدة مؤسسة على التضليل وتشويه المعاني، وعلى أساسات واهنة، وبالتالي سنظل ندور في نفس دائرة الهزائم المتلاحقة.
بهذه القراءة التاريخية نربط الحلقات مع بعضها، وندرك أن كل حلقة أسست لما بعدها.. هذا لا يعني أن تاريخنا سلسلة من الانتصارات والمنجزات.. فكلنا يعرف حجم الخطايا والإخفاقات التي ارتكبناها جميعا، قيادة، ومجتمع، وفصائل.. ولكن، كل عملية فدائية، وكل مواجهة عسكرية، وكل مسيرة شعبية، وكل إضراب، وكل منجز سياسي مهما بدا لكم صغيرا، وكل دمعة أم، وحسرة أب، وعذابات أسير، وكل بيت تهدم، وكل معاناة لاجئ، وكل شهيد ارتقى للعلى، وكل صمود وبقاء فوق هذه الأرض.. هذه كلها انتصارات حقيقية، حتى لو بدت صغيرة، لكن مراكماتها ستصنع النصر الكبير، والنهائي..
أن ننهض بعد كل كبوة، وأن نرفض الاستسلام، وأن نتمسك بروايتنا، وأن يظل وعينا الوطني عصيا على عمليات الكي والتطويع والتدجين، وأن نواصل المقاومة في كل الأرض المحتلة، وأن نظل متحدين.. يكفي أي من ذلك لكي نقول انتصرنا..
سلام لشهدائنا وجرحانا وأسرانا وللصامدين في أرضهم..
سلام لفلسطين..
# عبدالغني سلامة
# فلسطين
مبدعون فلسطينيون
Creative Palestinians
تاريخيا، نعرف الكثير من الانتصارات العسكرية جُللت بالعار، وبعض الهزائم صارت رمزا للفداء والصمود وجدوى التضحية.. وهنا تصبح مقارنات الأرقام والبيانات لا معنى لها.. فالمسألة ليست تجارة، مقياسها الربح والخسارة.. في حركة فتح، أول درس تعلمناه "الإيمان بحتمية النصر"، من منطلق أنه لا يمكن لأي شعب أو حتى فرد أن يضحّي ما لم يقتنع بجدوى تضحيته، بمعنى أنها ستكون جزءاً من عملية متراكمة، سنقطف ثمارها بعد حين.. والإيمان بالنصر شرط أساسي لرفع المعنويات، وتعبئة الطاقات؛ لذا من أول واجبات القيادة فتح نافذة للنصر، أو شق الطريق التي ستؤدي إلى النصر.. وهنا يصبح مجرد رفع إشارة النصر مسألة فارقة بين الاستسلام والصمود..
نحن الفلسطينيون نكاد نتميز بطريقة تعاطينا مع مفهوم النصر، نفهمه بشكل مختلف، صحيح أنه يغلب عليه الطابع العاطفي والوجداني، ولكن ربما كان هذا سر بقائنا ومواصلتنا وصمودنا طوال القرن الماضي في وجه المشروع الاستعماري الصهيوني.. ولو ألقينا نظرة سريعة على بعض الأمثلة لأدركنا أهمية احتفالنا بالنصر، حتى لو كان معنويا.. وفي الحقيقة، كانت كل انتصاراتنا معنوية.. كان يكفينا نصرا عسكريا وسياسيا واحدا لننهي هذه المأساة.. مرة واحدة، وإلى الأبد.. لكن هذا للأسف كما يعلم الجميع، لم يحصل حتى الآن..
فرحنا بانتصارات عز الدين القسام، رغم أنها انتهت باستشهاده هو ومع من معه.. فرحنا بانتصار ثورة ال36، والإضراب الكبير، رغم أنها انتهت باستجلاب المزيد من اليهود إلى فلسطين، وفرحنا بانتصارات عبد القادر الحسيني وجيش الجهاد المقدس، رغم أنها انتهت بالنكبة وضياع فلسطين..
بعد النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني، وسنوات طويلة من الضياع والتشتت انطلقت الثورة الفلسطينية، وكان أول نصر تحققه في معركة الكرامة.. فرحنا بهذا النصر، رغم أن إسرائيل ظلت تواصل احتلالها للأرض، وتواصل بناء مقدراتها وتطورها..
فرحنا بنصر حرب تشرين 1973، وعبور خط بارليف، رغم أنها انتهت بثغرة الدفرسوار (عسكريا)، ومن ثم باتفاقيات كامب ديفيد (سياسيا).
في معارك الثورة في الجنوب اللبناني، وخاصة في العرقوب، وفي اجتياح الليطاني، كنا كل مرة نحتفل بالنصر، رغم أنها أدت إلى احتلال الجنوب وإيجاد سعد حداد وجماعته.. وفي حرب الصواريخ 1981 على إصبع الجليل فرحنا بالنصر، وبإجلاء المستوطنين عن كل شمال فلسطين، مع أن النتيجة كانت اجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان صيف 1982. وبعد تلك الحرب أيضا احتفلنا بالنصر والصمود ثلاثة أشهر، رغم أن نتيجتها كانت خروج الثورة من أهم ساحة لبلدان المواجهة..
وفرحنا بانتصارات الانتفاضة الشعبية 1987، مع أنها جلبت أوسلو.. وفرحنا باندحار إسرائيل عن الجنوب في العام 2000، رغم أنها كانت عبارة عن استعداد للتفرغ لمعركتها الأهم والتي ستدشنها في اقتحام شارون للأقصى.. وفي انتفاضة الأقصى فرحنا بانتصارات مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس وكنيسة المهد وبالعمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر، وبسقوط 1080 قتيل إسرائيلي خلال تلك الانتفاضة. رغم أنها انتهت بتدمير مقرات السلطة وبناء جدار الفصل. وفرحنا بانسحاب إسرائيل من غزة 2005 رغم أنها كانت تمهيدا للانقسام.
وفي إضرابات الأسرى كنا كل مرة نحتفل بانتصار السجين على السجان، ونتغنى ببطولات الأسرى، رغم أن منجزات الإضرابات كانت في إطار تحسين شروط السجن.
وفي حرب تموز 2006، فرحنا بانتصارات حزب الله، ورفعنا صور السيد حسن نصرا الله، رغم الدمار الهائل الذي حل بلبنان، وأنها أدت إلى فرض انسحاب قوات حزب الله 40 كلم شمال الحدود.
وفي الحروب العدوانية الثلاث السابقة على غزة (2008، 2012، 2014) كنا كل مرة نحتفل بالنصر، رغم الدمار الهائل والتضحيات الجسيمة والخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات..
هذه المرة، وبعد الجولة الدامية على غزة أيضا احتفلنا بالنصر، رغم أنها انتهت دون أي التزام سياسي أو أمني إسرائيلي، وهي خلافا للجولات الثلاث السابقة التي كانت تنتهي على الأقل بتفاهمات ومكتسبات تتعلق بتحسين شروط الحصار.. أثناء العدوان كنا على ثقة عالية بأن أي تفاهمات ستكون مربوطة بالقدس والاستيطان والضفة الغربية والداخل المحتل، وبالكثير من شروط المقاومة الأخرى.. هذا لم يحصل، ومع ذلك احتفلنا بالنصر.. وبالطبع يحق لنا ذلك، لنفس الأسباب والظروف التي أحاطت بالانتصارات السابقة..
بهذا العرض المكثف يبدو أننا أكثر شعب حقق انتصارات.. وهذا ليس من باب السخرية، أو التقليل من أهمية الانتصار الأخير.. ولكن إذا وضعنا مفهوم الانتصارات في سياقها الطبيعي، أي بوصفها مجرد انتصارات معنوية ورمزية، وعملية مراكمة للمنجزات، ضمن صراع طويل وممتد وشامل ضد عدو شرس ومتخم بالقوة، يكون حينها نصرا حقيقيا، يمكن بل ويجب البناء عليه.. وغير ذلك، أي بالمبالغة والخطاب الشعبوي الانفعالي فإن ما نقوله عن وصف الانتصارات سيكون عملية تزييف للوعي الوطني، وطمس للذاكرة التاريخية، وبهذا سنبني إستراتيجات جديدة مؤسسة على التضليل وتشويه المعاني، وعلى أساسات واهنة، وبالتالي سنظل ندور في نفس دائرة الهزائم المتلاحقة.
بهذه القراءة التاريخية نربط الحلقات مع بعضها، وندرك أن كل حلقة أسست لما بعدها.. هذا لا يعني أن تاريخنا سلسلة من الانتصارات والمنجزات.. فكلنا يعرف حجم الخطايا والإخفاقات التي ارتكبناها جميعا، قيادة، ومجتمع، وفصائل.. ولكن، كل عملية فدائية، وكل مواجهة عسكرية، وكل مسيرة شعبية، وكل إضراب، وكل منجز سياسي مهما بدا لكم صغيرا، وكل دمعة أم، وحسرة أب، وعذابات أسير، وكل بيت تهدم، وكل معاناة لاجئ، وكل شهيد ارتقى للعلى، وكل صمود وبقاء فوق هذه الأرض.. هذه كلها انتصارات حقيقية، حتى لو بدت صغيرة، لكن مراكماتها ستصنع النصر الكبير، والنهائي..
أن ننهض بعد كل كبوة، وأن نرفض الاستسلام، وأن نتمسك بروايتنا، وأن يظل وعينا الوطني عصيا على عمليات الكي والتطويع والتدجين، وأن نواصل المقاومة في كل الأرض المحتلة، وأن نظل متحدين.. يكفي أي من ذلك لكي نقول انتصرنا..
سلام لشهدائنا وجرحانا وأسرانا وللصامدين في أرضهم..
سلام لفلسطين..
# عبدالغني سلامة
# فلسطين
مبدعون فلسطينيون
Creative Palestinians
Creative Palestinians مبدعون فلسطينيون
Creative Palestinians مبدعون فلسطينيون. Gefällt 172.184 Mal · 7.854 Personen sprechen darüber. تم تأسيس الصفحة عام 2009 بمبادرة من: الكاتب والباحث الراحل رائد الدبس وباسمة بطاط. إدارة الصفحة:...
www.facebook.com