الحوار محدد جداً، هذا هو الفرق بين الشعوب التي لا تملك وقتاً للمطاعنات اللسانية. الشعوب، التي يتم وضعها داخل خطة عمل جماهيرية قومية واسعة، ولمدد محددة، للوصول إلى أهداف محددة. أما الشعوب التي تفتقر إلى النظام، إلى السيستم، إلى التحديد الدقيق، إلى الإنجاز، فهي التي تعاني من حوارات غير محددة. حوارات فضفاضة، وحوارات تعقد ما يفترض تسهيله من مشاكل عبر الحوار. رغم ذلك، ورغم أن عبد الغفار يحيا ضمن تلك الشعوب غير المحددة، لكنه كان محدداً جداً. وبالتأكيد، فإنه شاذ عن مجتمعه الغارق في منح المعاني أكثر مما تحتمل عند القول أو التلقي. هكذا اعتبروه كائنا كريهاً، في قريته "حزنة الشدول". تجنبوه ولفظوه، وإن كان هو قد لفظهم قبل أن يلفظوه هم. وحينما تلفظك الجماعة، فإما أن تعيش كالميت، أو تفارقهم، وهكذا حمل عبد الغفار بقجته، وطار بحثاً في القرى عن شعب محددة حواراته. دار قرى البلد، قرية قرية، دون جدوى، واكتسب عداوات، بلا صديق واحد. حتى النساء لم يتحملنه. فهو محدد جداً. تزوج من قرية امراة تدعى "الناعسة"، مطلقة ولها صبيَّان. فتشاجر معهما بسبب طلباته الصريحة من أمهما أمامهما، ولو لا أنه متزوج من أمهما على سنة الله ورسوله لقتلاه. ثم تشاجر معها بدورها، لأنها كانت تقول أشياء وتعني أشياء أخرى. وهو لا يفهم إلا الحوار المباشر والمحدظ جداً. طلقها وغادر القرية، وقد حرض الصبيَّان أهل القرية فلاحقوه بالحجارة، حتى بلغ أرض الجبال وجسده مُحمم بالدماء من الرجم. وأرض الجبال هذي، امتداد لسلسلة جبلية طويلة من الشمال إلى الجنوب، جبال سوداء شاهقة ومسننة الحواف، وليس فيها سوى الكهوف المظلمة التي تخاف حتى الحيوانات المتوحشة الدخول فيها. ومع ذلك فقد دخلها عبد الغغار، وقرر الزهد في الحياة. كانت المياه تتدفق من قمم الجبال، لتصنع بحيرات صغيرة عميقة، تتصل بنهير صغير، يمتد كالأفعوان بين سفوح الجبال حتى يتبدد في الصحراء. فأقام عبد الغفار هناك وربى بعض الماعز الجبلي، والدجاج البري، وغزلان صغيرة تجمعت حوله بإرادتها الحرة، وحمى نفسه بكلب أليف، كان سميره، إذ كان يحاوره حوارات شيقة، واضحة ومباشرة، وكان الكلب بدوره يموء كالقطط حينما يملُّ حديث عبد الغفار فيسكت الاخير عن الكلام المباح أو ينبح ككلب حقيقي عندما يحاول الهرب من ثرثرة صاحبه، فينصب أذنيه وينبح نبحتين ثم يهرول إلى خارج الكهف ليتخلص من عبء سماع صاحبه. وحين يعود لحماية سيده يجده قد راح في سبات عميق.
الدجاجات البرية لم تكن تحب الثرثرة بل تصاب بالرعب منها، وكذلك الماعز، بل حتى أسماك البحيرة. لقد امضى عبد الغفار قرابة السنتين محاولاً شرح آلام وحشته لتلك الحيوانات، لكنها لم تكن تتحمل ذلك. حينها حاول تعلم كلام حيواناته، فهو يبقبق مع الدجاجات، وينبح مع الكلاب، ويثغو مع الماعز، ويفتح فمه ويغلقه عدة مرات مع السمك..حتى نال دربة واسعة في مخاطبة الحيوانات. غير أنه سئم الحديث معها، إذ أن ذخيرتها من المفردات كانت ضعيفة، وكان هو يحتاج لمن يفهمه فهما أعمق، حاول تعليمها كلمات أخرى، لكنها لم تتعلم. فترك حيواناته وحمل بقجته ورحل عن أرض الجبال، مقتحما غابات الطلح، وهناك وجد قبيلة من البدائيين العراة فدخل إليهم ولم يحفلوا به، ثم رأى منهم أنثى حسناء، تدعى مكاك، كانت مكاك فتاة طويلة القامة، رشيقة القد، حسيمة البطن، نافرة النهد، وافرة النعمة. غير أن القبيلة لم تكن تختلف عن حيواناته في ضعف الحصيلة من الكلمات. فاللغة تتسع باتساع الحاجات، ولم تكن لقبيلة مكاك أي حاجات غير غريزية تذكر. وقد ساء عبد الغفار أن يقع على محبوبته كل ذكر، وهو الذي لم يتمكن حتى من الحديث إليها خوفاً وخجلاً. ولما تحين الفرصة، والتقى بها وهي تدهن شعرها بمسحوق الزهور البرية لتطرد القمل قرب النبع، قال لها من كلمات الحب ما قال، لكن الفتاة لم تفهمه. حاول أن يشرح لها لواعج حبه، وظنت هي أنه يطلب الجنس فمكنته من نفسها، لكنه لم يكن يطلب ذلك بل كان يطلب شيئاً فوق الغريزة..شيئاً إنسانياً أكثر. وليشرح لها ذلك، حصد بعض الزهور، ووضعها أمامها، ثم أخذ زهرتين وقربهما من خديها، فنفرت مكاك متعجبة. كان يحاول أن يقول لها بأن خديها جميلان. لكنها لم تفهم هذا المجاز. قطف برتقالتين وقربهما من عينيها، فنفرت متعجبة، وكان يحاول أن يصف عينيها بجمال البرتقال فلم تفهم. ومرة أخرى حاولت أن تختصر المسافة فتسلمه جسدها، حينها لم يجد بداً؛ فقضى منها وطراً وغادر القرية يائساً حسيراً.
عاد إلى قريته الأولى "حزنة الشدول"، وجلس إلى أهلها، ورأى أن الحياة لا يمكن أن يكون لها طعم بالحوارات المحددة.. فالبشرية مؤسسة على المجاز، وعلى تعدد معاني المفردات والجمل؛ على الأحاديث الخبيثة والطيبة، التي تخلق الحب والكره. السعادة والألم. فتزوج من إبنة العمدة، وأنجب طفلته الأولى والتي أسماها مكاك.
(تمت)
الدجاجات البرية لم تكن تحب الثرثرة بل تصاب بالرعب منها، وكذلك الماعز، بل حتى أسماك البحيرة. لقد امضى عبد الغفار قرابة السنتين محاولاً شرح آلام وحشته لتلك الحيوانات، لكنها لم تكن تتحمل ذلك. حينها حاول تعلم كلام حيواناته، فهو يبقبق مع الدجاجات، وينبح مع الكلاب، ويثغو مع الماعز، ويفتح فمه ويغلقه عدة مرات مع السمك..حتى نال دربة واسعة في مخاطبة الحيوانات. غير أنه سئم الحديث معها، إذ أن ذخيرتها من المفردات كانت ضعيفة، وكان هو يحتاج لمن يفهمه فهما أعمق، حاول تعليمها كلمات أخرى، لكنها لم تتعلم. فترك حيواناته وحمل بقجته ورحل عن أرض الجبال، مقتحما غابات الطلح، وهناك وجد قبيلة من البدائيين العراة فدخل إليهم ولم يحفلوا به، ثم رأى منهم أنثى حسناء، تدعى مكاك، كانت مكاك فتاة طويلة القامة، رشيقة القد، حسيمة البطن، نافرة النهد، وافرة النعمة. غير أن القبيلة لم تكن تختلف عن حيواناته في ضعف الحصيلة من الكلمات. فاللغة تتسع باتساع الحاجات، ولم تكن لقبيلة مكاك أي حاجات غير غريزية تذكر. وقد ساء عبد الغفار أن يقع على محبوبته كل ذكر، وهو الذي لم يتمكن حتى من الحديث إليها خوفاً وخجلاً. ولما تحين الفرصة، والتقى بها وهي تدهن شعرها بمسحوق الزهور البرية لتطرد القمل قرب النبع، قال لها من كلمات الحب ما قال، لكن الفتاة لم تفهمه. حاول أن يشرح لها لواعج حبه، وظنت هي أنه يطلب الجنس فمكنته من نفسها، لكنه لم يكن يطلب ذلك بل كان يطلب شيئاً فوق الغريزة..شيئاً إنسانياً أكثر. وليشرح لها ذلك، حصد بعض الزهور، ووضعها أمامها، ثم أخذ زهرتين وقربهما من خديها، فنفرت مكاك متعجبة. كان يحاول أن يقول لها بأن خديها جميلان. لكنها لم تفهم هذا المجاز. قطف برتقالتين وقربهما من عينيها، فنفرت متعجبة، وكان يحاول أن يصف عينيها بجمال البرتقال فلم تفهم. ومرة أخرى حاولت أن تختصر المسافة فتسلمه جسدها، حينها لم يجد بداً؛ فقضى منها وطراً وغادر القرية يائساً حسيراً.
عاد إلى قريته الأولى "حزنة الشدول"، وجلس إلى أهلها، ورأى أن الحياة لا يمكن أن يكون لها طعم بالحوارات المحددة.. فالبشرية مؤسسة على المجاز، وعلى تعدد معاني المفردات والجمل؛ على الأحاديث الخبيثة والطيبة، التي تخلق الحب والكره. السعادة والألم. فتزوج من إبنة العمدة، وأنجب طفلته الأولى والتي أسماها مكاك.
(تمت)