هزَّ النبأُ أرجاءَ الأهل ودائرة الأصدقاء والمعَارف، ضرَب الجميعُ كفًّا بكَفْ، يتعجَّبون: أطَلاقٌ بعد كل هذا الحُب؟ وبدون أية إرهاصاتٍ تُرشِّح له؟ ما الذي جرَى، أتتسَارع الأحداثُ وتقع المفاجآتُ هكذا من دون أسباب؟!
زفافٌ أسطوريّ كان حفل تتويج حُبهما الذي كان يضرب بجذوره في عُمق سِنيِّ صباهما وشبابهما، عامان انقضيا على الزواج شُوهدا خلالهما في أحوال طبيعية.
لم تُفاجَأ بذلك النبأ العظيم؛ الذي استجمع قُواه خافضًا رأسه زائغًا بصَرهُ وهو يُنهيه إليها: لِنفترق!
لم تَدْرِ كيف تَجرَّأ على النُّطق به، هزَّت رأسها بالإيجاب ولم تنبس بحَرف، قامت في صمتٍ تَسبُقها دموعها لتَجْمع ما تَيسَّر من ملابسها وأشيائها البسيطة، أدار وجهه؛ ولكنه أخفَق في إمساك انهمار دموعه.
سبقها إلى الباب، مدَّ يده إليها بمفتاح الشقة يُخاطبها بصوت تهدَّج بحَشرجة البُكاء:
- هاكِ مفتاح الشقة، وسأغُادر لمدة أسبوع حتى تستردين كل ما فيها، لم تعبأ بما قال، غادرَت ولم تزل يده ممدودة به.
كان وَقْع القرار مِثلُ صاعقة ضربَت الفريقين من أهلهما، لم يُجب أيًّا منهما تساؤلات أهْلِه عن أسباب ما كان، التزما الصَّمت وكأنه سرًّا حربيًا لا يريدان تسريبه، حتى هي لم تَدْر حتى الآن سرُّ ذلك القرار الخطير.
مرَّ عامهما الأول، والتساؤلات تُحاصرهُما في غُدُوِّهما ورَواحهما، لماذا تأخَّرا في الإنجاب، لم يعبآ بذلك الفُضول المقيت، ولم ييأسا من الطَّواف بشتَّى عيادات مشاهير أطباء النساء والتوليد، وأشهر معامل التحاليل، الكلُّ أجمع أنْ لا عًيْبَ ظاهر، ولا سبب ملموس، سافرا إلى باريس، ثم إلى سويسرا ليتلقَّيا ذات الإجابة: لا سبَب ظاهر ولا عيب عُضويّ.
ظنَّتْ أنها القشَّة التي ستقصم ظَهر حبهما، ولكنها استطاعت بالحب أن تُقاوم تلك الظنون، لاذت بإيمانها الذي جنَّبها لحظات الخوف، ولكن مشاعره الجامحة أخذت تتلاشى، وشرودًا وحزنًا دفينين استشعرتهما في داخله.
ذات مساء تواجهه:
- إن شِئتَ الزواج فافعل، فمن حقك الأبوَّة.
تأمَّلها بنظرة حائرة وأجاب باقتضاب:
- فراقكِ لا أحتملهُ يا إلهام.
تجيب بنبرة حزن تكتنف صوتها:
- لن أفارقكْ.
خُيَّل إليها أنه رفَع عن كاهلها عِبئًا ثقيلا، ولكنَّ شروده تحوَّل إلى حُزنٍ ظاهر لم يَخْفَ عليها، أقلقها ما تراه وما تُحسُّه بين جوانحه، عاوَدت طرح ما طرَحتهُ عليه من قبل، انطلق فيها كالقذيفة:
- كُفِّي عن معاملتي كمريض تُوليه عطفِك، لو شِئتُ الزواج ثانيةً لما انتظرتُ رأيك.
تشاغَلتْ بإعداد الطعام في تلك الليلة، وجلسَتْ إلى جواره على المائدة وكأنها لم تسمع منه شيئا، قرَّرت أن تتجنَّب الحديث في هذا الأمر مرَّة أخرى، حتى كان قراره المُزلزل بعدها بنحو أسبوعين.
انقضى عام ونصف على الطلاق الذي عَلِم به القاصي والدَّاني، لغرابة تَوقُّعه بعد قصة حب عنيف كان يشهدها الجميع، بدأ الراغبون في الزواج منها التَّقدُّم لخطبتها، رفضت بإصرار، وتَعجَّبتْ من أهلها كيف يَتصوًّرن قبولها الزواج من غيره، يسألونها عن مصير أثاث شقتها، وعن حقوقها التي يُرتِّبها الطلاق، تجيبُهم بقناعة تامة:
- وما الذي أفعله بأثاثٍ لن يشاركني إياه، وأي أموال أطلبُها؟ وماذا أفعل بها وهو لم يَعُد معي؟.
لم يجد أحمد مَهربًا من مُطاردات ذويه لإعادة تزويجه، وافق صاغرًا على خِطبة أخرى، اقتربت مدة الخطبة من عام، تشكو العروس من فتور مشاعره، يلومونه، يخلو إلى نفسه، يَفسخ الخِطبة، يصحو الأهل والأصدقاء والمعارف على نبأ جديد، أحمد يُعيد إلهام إليه بعقدٍ جديد.
كان قرار الرُّجوع شأنٌ خاص بهما وحدهما كما كان قرار الطلاق، كادت إلهام أن تَطير من فرحتها، وجدتهُ كما كان، لهفته، تأجُّج مشاعره، حُبِّه القديم، كل شيء كما هو، أعيان جهازها، باقي ملابسها، زجاجات عطرها، حتى أوراقها التي كانت على مكتبها حين غادرت كما هي.
تنقضي أسابيع قليلة على عودتها، تَغيُّراتٍ فسيولوجية تقتضي اللجوء إلى الطبيب الشهير الذي كان يتولى علاجها، ثم كان الخبَر:
- مبروك .. حَمْلٌ مُدَّتهُ ثلاثة أسابيع!
انعقد لسان أحمد للحظات، لينطلق بسؤال غريب:
- لماذا؟
يُجيب الطبيب سؤالهُ بسؤال:
- قل لي أنتَ.. من اسْتكمَل في هذه الغَيبة علاجها؟
يحكي أحمد عن قرار الانفصال الذى اتَّخذه، وكيَف لم يدر لماذا اتَّخذه، وعن تسليم إلهام به ورُضوخها له، ورفضها الزواج من بعد رفضًا تامًا.
يَشرد الطبيب، بعينين زائغتين يُنبئان عن تفكير عميق يطول صمتُه، أحمد وإلهام يتشوَّقان لكلمة تخرج من فيهِ، يبتسم مع هزَّاتٍ عَمُودية من رأسه، يقول ولم يزل شارد النظرات:
- لا تفسيرَ إلاَّ أنَّ الانفصال كان إلهامًا؛ فقَضتْ مدتهُ على أجسامٍ مُضادة، مِن المُرجَّحُ أنها كانت السَّبب.
========
زفافٌ أسطوريّ كان حفل تتويج حُبهما الذي كان يضرب بجذوره في عُمق سِنيِّ صباهما وشبابهما، عامان انقضيا على الزواج شُوهدا خلالهما في أحوال طبيعية.
لم تُفاجَأ بذلك النبأ العظيم؛ الذي استجمع قُواه خافضًا رأسه زائغًا بصَرهُ وهو يُنهيه إليها: لِنفترق!
لم تَدْرِ كيف تَجرَّأ على النُّطق به، هزَّت رأسها بالإيجاب ولم تنبس بحَرف، قامت في صمتٍ تَسبُقها دموعها لتَجْمع ما تَيسَّر من ملابسها وأشيائها البسيطة، أدار وجهه؛ ولكنه أخفَق في إمساك انهمار دموعه.
سبقها إلى الباب، مدَّ يده إليها بمفتاح الشقة يُخاطبها بصوت تهدَّج بحَشرجة البُكاء:
- هاكِ مفتاح الشقة، وسأغُادر لمدة أسبوع حتى تستردين كل ما فيها، لم تعبأ بما قال، غادرَت ولم تزل يده ممدودة به.
كان وَقْع القرار مِثلُ صاعقة ضربَت الفريقين من أهلهما، لم يُجب أيًّا منهما تساؤلات أهْلِه عن أسباب ما كان، التزما الصَّمت وكأنه سرًّا حربيًا لا يريدان تسريبه، حتى هي لم تَدْر حتى الآن سرُّ ذلك القرار الخطير.
مرَّ عامهما الأول، والتساؤلات تُحاصرهُما في غُدُوِّهما ورَواحهما، لماذا تأخَّرا في الإنجاب، لم يعبآ بذلك الفُضول المقيت، ولم ييأسا من الطَّواف بشتَّى عيادات مشاهير أطباء النساء والتوليد، وأشهر معامل التحاليل، الكلُّ أجمع أنْ لا عًيْبَ ظاهر، ولا سبب ملموس، سافرا إلى باريس، ثم إلى سويسرا ليتلقَّيا ذات الإجابة: لا سبَب ظاهر ولا عيب عُضويّ.
ظنَّتْ أنها القشَّة التي ستقصم ظَهر حبهما، ولكنها استطاعت بالحب أن تُقاوم تلك الظنون، لاذت بإيمانها الذي جنَّبها لحظات الخوف، ولكن مشاعره الجامحة أخذت تتلاشى، وشرودًا وحزنًا دفينين استشعرتهما في داخله.
ذات مساء تواجهه:
- إن شِئتَ الزواج فافعل، فمن حقك الأبوَّة.
تأمَّلها بنظرة حائرة وأجاب باقتضاب:
- فراقكِ لا أحتملهُ يا إلهام.
تجيب بنبرة حزن تكتنف صوتها:
- لن أفارقكْ.
خُيَّل إليها أنه رفَع عن كاهلها عِبئًا ثقيلا، ولكنَّ شروده تحوَّل إلى حُزنٍ ظاهر لم يَخْفَ عليها، أقلقها ما تراه وما تُحسُّه بين جوانحه، عاوَدت طرح ما طرَحتهُ عليه من قبل، انطلق فيها كالقذيفة:
- كُفِّي عن معاملتي كمريض تُوليه عطفِك، لو شِئتُ الزواج ثانيةً لما انتظرتُ رأيك.
تشاغَلتْ بإعداد الطعام في تلك الليلة، وجلسَتْ إلى جواره على المائدة وكأنها لم تسمع منه شيئا، قرَّرت أن تتجنَّب الحديث في هذا الأمر مرَّة أخرى، حتى كان قراره المُزلزل بعدها بنحو أسبوعين.
انقضى عام ونصف على الطلاق الذي عَلِم به القاصي والدَّاني، لغرابة تَوقُّعه بعد قصة حب عنيف كان يشهدها الجميع، بدأ الراغبون في الزواج منها التَّقدُّم لخطبتها، رفضت بإصرار، وتَعجَّبتْ من أهلها كيف يَتصوًّرن قبولها الزواج من غيره، يسألونها عن مصير أثاث شقتها، وعن حقوقها التي يُرتِّبها الطلاق، تجيبُهم بقناعة تامة:
- وما الذي أفعله بأثاثٍ لن يشاركني إياه، وأي أموال أطلبُها؟ وماذا أفعل بها وهو لم يَعُد معي؟.
لم يجد أحمد مَهربًا من مُطاردات ذويه لإعادة تزويجه، وافق صاغرًا على خِطبة أخرى، اقتربت مدة الخطبة من عام، تشكو العروس من فتور مشاعره، يلومونه، يخلو إلى نفسه، يَفسخ الخِطبة، يصحو الأهل والأصدقاء والمعارف على نبأ جديد، أحمد يُعيد إلهام إليه بعقدٍ جديد.
كان قرار الرُّجوع شأنٌ خاص بهما وحدهما كما كان قرار الطلاق، كادت إلهام أن تَطير من فرحتها، وجدتهُ كما كان، لهفته، تأجُّج مشاعره، حُبِّه القديم، كل شيء كما هو، أعيان جهازها، باقي ملابسها، زجاجات عطرها، حتى أوراقها التي كانت على مكتبها حين غادرت كما هي.
تنقضي أسابيع قليلة على عودتها، تَغيُّراتٍ فسيولوجية تقتضي اللجوء إلى الطبيب الشهير الذي كان يتولى علاجها، ثم كان الخبَر:
- مبروك .. حَمْلٌ مُدَّتهُ ثلاثة أسابيع!
انعقد لسان أحمد للحظات، لينطلق بسؤال غريب:
- لماذا؟
يُجيب الطبيب سؤالهُ بسؤال:
- قل لي أنتَ.. من اسْتكمَل في هذه الغَيبة علاجها؟
يحكي أحمد عن قرار الانفصال الذى اتَّخذه، وكيَف لم يدر لماذا اتَّخذه، وعن تسليم إلهام به ورُضوخها له، ورفضها الزواج من بعد رفضًا تامًا.
يَشرد الطبيب، بعينين زائغتين يُنبئان عن تفكير عميق يطول صمتُه، أحمد وإلهام يتشوَّقان لكلمة تخرج من فيهِ، يبتسم مع هزَّاتٍ عَمُودية من رأسه، يقول ولم يزل شارد النظرات:
- لا تفسيرَ إلاَّ أنَّ الانفصال كان إلهامًا؛ فقَضتْ مدتهُ على أجسامٍ مُضادة، مِن المُرجَّحُ أنها كانت السَّبب.
========