سعد محمود شبيب - كتاب الاغاني، في ظل حكم الغمّانِ

يندر واقعا أن تجد اديبا او كاتبا او اي انسان مولع بالقراءة لم يطالع كتاب الأغاني لأبي فرج الاصفهاني والذي وضعه قرابة عام ٣٣٥ للهجرة.
وهو من الكتب التي تدفعك عنوة لمطالعتها واتمامها ، حيث منح الله تعالى مؤلفه موهبة فذة في الترغيب للتمعن بمحتواه وعدم تسلل الملل الى اي فصل من فصوله ، ولعل ذلك ما أهّله ليكون قفزة نوعية في كتب الأدب العربي من حيث : سلاسة اللغة، وجمال السرد ، وتيسير الفهم، والابتعاد عن التعقيد، والتنويع بين الشعر الجميل والقصة المشوقة والتاريخ والحكم ، وهو ما سار عليه كثير من المؤلفين الذين أعقبوه ممن خلدوا جواهر الأدب العربي.
ورغم انه يحمل اسم الاغاني، الا اننا لا نجد فيه قصة لاغنية ولا عن تفاصيل لحن واحد، بل مجرد فصل يتيم عن المطربين خلال عهد المنصور..
ورغم الصيت العظيم والواسع للكتاب ، الا ان بعضا من الباحثين الكبار قد اتخذوا مواقف سلبية للغاية منه ومن وصاحبه .
فالدكتور الزيات اتهم مؤلفه بانه مثل حاطب الليل، يجمع ما يصح وما لا يصح ويضعه بين دفتيه ، اما العقاد فقد عد الاصفهاني كاذبا من طراز خاص، كاذب يصنع ما يقول دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتحقق ، فهو يضع قصة صحيحة الى جوار عشر مكذوبات ، ليختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل ..
في حين نسف عميد الادب العربي
د طه حسين البنيان من أساسه، فاعتبر الاصفهاني مجرد شخصية وهمية من وحي الخيال، وان الكتاب برمته قد نسجته أنامل بعض الرواة البارعين قبل نهاية العصر العباسي لأسباب سياسية بحتة .
تتراوح القصص الواردة فيه بين ذكر جواهر الأدب ، ورجال الادب وكذلك قلة الأدب وانعدامه في بعض الأخبار ، وهي تتناول الاحداث التي جرت على العهدين الأموي والعباسي ، واخبار ملوكها وفرسانها ورجالاتها ووصف طرقات مكة والمدينة وبغداد، واسواقها وطرق التعامل بين الناس حينها ، مع التركيز التام على قصص الشعراء مع الملوك والخلفاء، حين يتناولونهم بالمدح او الذم .
كما ويميل المؤلف الى الطرافة في السرد، فيشير على سبيل المثال الى قصة دخول شاعر على الخليفة ابي جعفر المنصور، وقد انشد فيه قصيدة مدح عصماء قل نظيرها متأملا ان يهبه الخليفة مليون جنيه استرليني، غير أن المنصور الدوانيقي وبما عرف عنه من بخل لا يوصف ، أعطاه دانقا واحدا، اي نصف معشار الدينار، فخرج منه وهو يكاد يتفجر غيظا، وقال لصاحبه شاكيا : تالله لقد مدحته بقصيدة لو مدحت بها الدهر لأمنت مصائبه، لكنني كذبت المدح فكذبني العطاء!!
ومن الطرائف الاخر التي وردت فيه ، قصة دخول الشاعر علي بن الجهم على المتوكل حين أنشد فيه :
انت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب..
وحين وجد الخليفة نفسه وقد تحول الى تيس وكلب وحديقة حيوانات متنقلة، أمر بقطع رأسه، فتشفع له الندماء مبررين الامر أن ابن الجهم قادم من البادية توا، ولم تزل كلماته واشعاره تمتاز بالفظاظة والغلظة، فعفا المتوكل عنه ومنحه دارا جميلة على النهر، فتهذبت الفاظه، واصبحت اشعاره تذاع صباحا عقب اغاني فيروز ، من الاذاعة العباسية الحجرية !!
ومن غرائب القصص التي وردت فيه، قصة ابن سيرين وكيف اصبح المفسر الاول للأحلام ..
وخلاصة القصة أنه كان نساجا يعمل في السوق ، فاستدعته احدى النساء الى دارها كي يصلح لها بساطا، لكنه بوغت بها وهي تقفل الباب وتهدده بالقتل ان لم يطاوعها ويسرق معها دار جارها الغني الموسر!!
ويتمم الاصفهاني القصة بقوله : ان ابن سيرين امتنع عن السرقة، بينما بقيت تحتجزه في الدار رهينة حتى يطاوعها في السرقة، فالهمه الله ان يتلو بعض الآيات، لتتسمر في مكانها وبخرج من دارها ويهبه الله لأمانته موهبة التفسير الفذة ..
وبالطبع لم يبين لنا الاصفهاني ماهية السلاح الذي تحمله هذه الجارية، وهل هو من صنف الأسلحة النووية او الهيدروجينية، والذي مكّن امرأة عادية من تهديد واحتجاز شاب له قوة البغل وطول الجمل وضخامة الديناصور، وجعله طوع يمينها وهو خائف مرتعب مثل سعفة في مهب الريح !!
ولعل هذه القصة ومثيلاتها من التوافه، هي التي اصابت الكتاب ببعض العيوب والمثالب، مع ايماننا بفضله في تخليد حوادث الدهور الغابرة كما أسلفنا.
ولنتخيل سادتي ان يقوم مؤلف بوضع كتاب ثان مثل الاغاني عن حكم سراقنا عام ٣٠٠٠ للميلاد ، ويكون ، مستمدا أحداثه من عصرنا الفاني ويضع له عنوان (الأغاني في ظل حكم الغمان) ، إذ سترد فيه قصص جميلة زاهية لا يصدقها عقل ولا تستقيم مع منطق دون أدنى ريب.
فيقول في احدى قصصه على سبيل المثال : دخل شاعر على الخليفة ابراهيم الجعفري فمدحه بقصيدة عصماء اذهلت الحضور، غير ان الجعفري وعقب اتمام القصيدة صار يسأله :
يا أخا العرب ، هل البرتقاله سميت برتقالة لأن لونها برتقالي، أم ان اللون البرتقالي سمي برتقاليا لانه مثل لون البرتقالة؟؟
فيصاب عندها الشاعر بالحول والجلطة الدماغية والنوبة القلبيه وسرطان الحاجين ويقول لصحبه : احملوني بعيدا ، فقد جردني من كل شيء وشعل جد اجدادي..
ومما سيرد في الكتاب دخول احد الحكماء على رئيس الوزارة وصار يسأله :
ما الواحد، وما الاثنان، وما الثلاثة؟
فيجيبه الخليفة بقوله : اما الواحد فوالله ما ادري، واما الاثنان فبروح ابويه ما ادري، وأما الثلاثة فبداعة حجية كمرة فلا أدري..
وسأل مواطن الوزير الشهرستاني عن مغزى جولة التصاريح، التي جعلت النفط في مهب الريح، فأمر له بجارية من بلاد الروم ومائة دينار ذهبا وأجابه :
خذ هديتنا ايها الفصيح، والباب اللي تجيك منه الريح سدّة واستريح، لا أشعل والديك يا قبيح.
وَدخل رجل على الاصلع مشعان وقال له : أصلع الله الخليفة، كيف لك ان تطل من الشاشه، وتتفاخر بالرشوة كالحشاشة؟ دون أن تخشى اعتقالا او رشّاشة؟؟
فيجيبه ابو يزن بكل بشاشة : تالله قد سرقوا فيلا كبيرا، وما سرقت الاّ فراشة..
ومما ورد في فصل مآثر النواب في إصلاح ذات الجيب والتهام الكباب، ان رجلا لمح النائبة خزيمة بنت الأعمش وهي تعتصم ضد الحكومة فسألها : الا ايتها النائبة، ان راتبك جاوز الأربعين مليونا، وثروتك صعقت قارون وفرعونا، فمالي اراك من المتظاهرين، وانت اسطورة من أساطير الفاسدين؟؟
فاجابته ودمعة ساخنة تكاد تفر من عينها :
اما حديثك عن الراتب، فاعلم اني اقسمه ثلاثا، ثلث للفقراء، وثلث لليتامى، وثلث للأصدقاء، واما ثروتي فاعلم أني لا امتلك منها قرشا واحدا لانها بين يدي فقراء لندن ومتسولي لبنان وباريس، وإذا ما شئت أن تتيقن من صحة كلامي، فسوف أجعل افراد حمايتي يمطرونك بوابل من الرصاص، حتى يجعلوك مثل حبة الأجاص ، وسترى كيف ارعى من بعدك، ثلة اليتامى من ولدك ، واهديهم كل يوم سمكة مشوية مع الصاص.
إلا ان خاتمة الكتاب فقد كانت هي الأجمل، حين دخل موظف على السيد الرئيس وقال له :
ليس يدهشني ان تطلع الشمس مع القمر ، ولن يصيبني بالجنون لو كلمتني نجمة ، او طرقت داري فقمه، أو ابيضت بداري فحمة، لكن ما يصعقني ان اتسلم ملاليم ولي الف سنة خدمة، وتمطر عليك الملايين وانت لم تتم يوما في الخدمة..
عندها، استلقى الرئيس على عرشه وقهقه عاليا ثم دعك ذقنه بيده وسأله :
اتعلم مالعتاريف؟؟
اجابه صاحبنا : والله ما ادري..
فرد عليه الرئيس : انت بس ردد ( ما ادري) كل يوم وتصير زعيم ، واني بالخدمة!!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى