(قصة فلسطينية حقيقية لأطول إختفاء لمقاوم إستمرت ستة وعشرين عاما)
هنا " قُصْرَةْ "،القرية الفلسطينية التي تقع على بعد أربعة وعشرين كيلومترا جنوب شرق مدينة نابلس ،هذا من ناحية جغرافيا المكان، أما جغرافيا الزمان،فهي الاشهر التي تلت حرب العام 1967، والتي كان من نتيجتها سقوط الضفة الفلسطينية في قبضة الاحتلال،بالإضافة لأخواتها العربيات الجولان وسيناء....
هنا "قُصْرَةْ " الوديعة بجمالها وهدوئها وعلو جبالها المطلة على الاغوار،والتي يلحظ أهلها جبال الاردن واضحةً وقت الصفاء، لكن الواقع الجديد المتمثل بوجود محتل مر، فقد ضاع الجمال ، وتَعَكّر ألصفاء، وغلى الغضب في ألصدور، فكانت جلسات الشبان ، ولقاءات كبار السن في حواري القرية ومضافاتها وبيوتها وحقولها، تتحدث عن الواقع الجديد المؤلم... أحمد وحسن ومحمود،لا يكتمل الحديث بينهم إلا بوجود نادر، ذاك الشاب الفلاح المتوقد وطنية وطاقة، يبحث مع اصدقاءه بشغف مقاومة ألمحتلين،يشجعه في ذلك وجود الفدائيين في الأردن والعمليات التي تنفذها مجموعاتهم التي تتسلل من هناك للأراضي المحتلة على الدوام...
كان أحمد الذي تسيد المجموعة المتشكلة من الاصدقاء الاربعة ،عسكرياً سابقا في الجيش الأردني،وكان شاب يتسم بالخبرة النسبية والرزانة والصبر، لقد أبلغ أصدقاءه لتوه أنه قام بإرسال رسالة للقيادة في عمان، وما زال ينتظر الجواب، وأنه يسعى لتكوين خلية عسكرية للقيام بمهاجمة أهداف إحتلالية في المنطقة ، حتى أبعد من المنطقة، وفق الممكن ووفق توجيهات القيادة...
سُرَّ نادر ورفاقه بهذا الخبر ، وانتظروا أسابيع حتى جاءتهم الرسالة الجوابية التي توافق على قبول انتماءهم لـ "فتح" وجهازها العسكري، وقد تضمن الرسالة أيضا اسماء حركية سرية لأربعتهم... أحمد القائد كان اسمه "جبل" ونادر " معاوية "، وحسن " عروة " ، ومحمود " صقر "، وكانت أهم جملة في الرسالة ما كتب في نهايتها، وهي : -" إنتظروا منا رسالة صوتية عبر إذاعة "العاصفة"، لتوجيهكم إلى النقطة "الميتة"، التي ستجودون ما يلزمكم من سلاح، للبدء في مشواركم الكفاحي.."
*
كان الطريق شاقا ومرهقا بين "قُصْرَةْ" ومنطقة الأغوار من صعود هضاب وجبال،ونزول وديان وعروق، فساروا بِجَلَدٍ وتَحَمُلٍ ليلا سيراً على الاقدام في ليلة غاب عن سمائها القمر، حيث توجد النقطة " الميتة " التي زرع لهم فيها السلاح ، حتى وصولوا ذلك الغار مع الفجر، وجدوا العلامة المتفق عليها ، فقاموا بحفر ما تحت أرضيتها في الجانب الايمن من الغار بأغصان الشجر،فوجدوا كيساً من "الخيش" مُوَثَقْ الفتحة والوسط والنهاية، بحبلٍ رفيع نسبيا من خيوط البلاستيك يعرف "بالمصيص"،... ازالوا كل ما عليه،وفتحوه، فوجدوا بداخله أربع قطع سلاح رشاش نوع "الكلاشنكوف"، وعدد من المخازن المحشوة بالرصاص والذخيرة، ... فرحواْ، وكبّرواْ، وتعانقواْ، ولما نظروا لباب الغار، وجدوا الصبح قد بدأ بالانبلاج وهَمَّ ثلاثتهم بالخروج، أوقفهم أحمـــد قائلا :-: إنتظرواْ .. لا تخرجواْ.. لا بد من البقاء هنا حتى يّحِلَّ الليل.. ونعود تحت جنح الظلام كما جئنا....
*
بعد الرصد المتأني، والمراقبة الدقيقة، كان القرار بمهاجة الجيب العسكري الذي غالبا ما يَمُرُ في ساعات الصباح والمساء في الطريق الزراعي المحاذي للقرية والواصل للقرى المجاورة مثل قرية جوريش شمالا وجالود جنوبا والمجدل وعقربا في الغرب، ...كان هذا الجيب يَتَعَمّدْ الدخول في الاراضي الزراعية، فيهرس المنتوجات، ويروع المزارعين،ويَعْبَثْ بمحتويات الخيام الزراعية بحجة التفتيش، أحمد جمع رفاقه الثلاثة ، ورسم لهم على ورقة كانت معه توقعات خط سير سيارة الجيب،... ووضع رأس القلم على منطقة تتوسط تلك المزارع مليئة بشجر الزيتون الكثيف ، وقال هنا سنكمن لهم، وبعد أن ننفذ العملية ، سننسحب جنوبا إتجاه البلدة ونختفي كل حسب وجهة بيته بعد أن نخبأ السلاح، دون أن يلحظنا أحد،أو يشك بنا أحد...
هز الجميع رأسه بالموافقة ، وأعطى أحمد تحديد ساعة الصفر... التي كانت في مساء اليوم التالي عند الساعة التاسعة تماما، وهكذا كان... مرت سيارة الجيب في الساعة التاسعة والنصف،فبادؤها بصليات غزيرة من إطلاق النار، صليات فاجأت وأربكت جنود الدورية الثلاث، فلم يتمكنوا من الرد بالمثل،فوقعوا بين قتيل وجريح ، وإنسحب أحمد ورفاقه من المكان،بعدما خلت شوارع القرية من المارة الذين سارع كل من كان خارج بيته للعودة سريعا له،متلهفا لمعرفة ما جرى، في حالة انتظار إنجلاء حقيقة ألأمر، وخوفا من إقتحام القرية والتنكيل بأهلها.
*
مرت القرية بأيام عصيبة من منع التجول والمداهمات والاعتقالات والتحقيق،لم يفلح المحتل في فك شفيرة هذا العمل الفدائي،لكنه أبقى القرية وشبانها تحت المجهر، أحمد الذي إطمئن نوعا ما إلى فشل مخابرات الاحتلال في الاستدلال على مجموعته، تحرك بإتجاه الرجل الخمسينيّ من قريته يثق به، والذي كان رسول التواصل بينه وبين القيادة في عمان، فهو دائم السفر والعودة من وإلى الاردن،فعرض عليه حمل رسالة جديدة للقيادة ، وافق ذلك الخمسيني بعد تردد، ومضى في ذات يوم من أيام الشتاء قاصدا العاصمة الاردنية عمّان، وعلى معبر جسر دامية أو ما كان يسميه الاحتلال جسر "ألمبي"، تم إعتقاله، وإقتيد للتحقيق معه ، فإنهار وإعترف بالرسالة التي كانت تحمل دليلا كبيراً على أن من قام بالعملية هو أحمد وشركاءه... فسارعت المخابرات الاسرائيلية ليلا بمداهمة القرية وإعتقلت أحمد بطريقة وحشية ومستفزة، الأمر الذى حدى بنادر أن يرسل في طلب حسن ومحمود للقاء بين كروم الزيتون في الجهة الشمالية من القرية...
ثلاثتهم قلقون، بعدما شعروا انهم قد يكونوا على وشك الاعتقال...، كشف حسن لرفاقه عن معلومة أخبره بها أحمد قبل إعتقاله بأنه ينوي إرسال رسالة عاجلة للقيادة ... وأن الرسول سافر اليوم صباحا ويمكن أن يكون قد اعتقل
قال نادر :- لا بد من الحذر .. يا شباب علينا ترك منازلنا هذه الايام تحسبا من المداهمات حتى تنجلي صورة ما سيحدث مع أحمد... والآن لنفترق... ولا نتواصل لأن التحركات في القرية الان تحت المتابعة من قبل عملاء الاحتلال..
نادر الوحيد الذي هجر بيته وراح ينام بين كروم الزيتون لأيام... وبعد أكثر من أسبوعين على إعتقال أحمد،اقتحمت قوات الاحتلال برفقة عناصر المخابرات بيت نادر وحسن ومحمود،فوجدت حسن ومحمود واعتقلنهما، ولم تفلح في اعتقال نادر، لتبدأ الان عملية الاختفاء والمطاردة التي تجاوزت الربع قرن...
*
والد نادر الرجل الخمسيني في ذلك الوقت كان هو كلمة السر والصندوق الاسود لنجله المطارد ،فبعد أن أمضى نادر اشهرا مطاردا في الجبال وكروم الزيتون التي تحيط بالقرية بعلم شخص واحد هو والده، وبعد دنوا موسم الشتاء من العام 1968/1969.قرر والده نقله لبيت أخته المتزوجة في مخيم عايدة للاجئين قرب مدينة بيت لحم، وفعلا نجح في إيصاله هناك ،فإتخذ نادر غرفة له في بيت أخته، وعثر على عمل في بيت لحم، وعمل بصمت وخفية لمدة سنتين تقريبا،حيث قرر زوج أخته ـــ التي لا تعلم عن سر اخيها شيئا ــ الرحيل لقرية" قُصْرَةْ"، للعمل والإقامة الدائمة، بينما تظاهر نادر بنيته البقاء في بيت لحم، لكنه عاد لإطراف قريته "قُصْرَةْ" مرة أخرى ، وتواصل مع والده ، الذي سارع للقاءه بين كروم الزيتون، وقال له : إسمع يا بنيّ.. عليك بالتواصل مع قيادتك حتى يجدون لك سبيلا في الوصول اليهم بعدما إعترف زملائك بكل ما فعلتموه... وعليك التعجيل في هذا الأمر قبل دخول موسم الشتاء القادم..
قبل أن ينتهي صيف العام 1970، كانت القيادة في عمّان على علم بطلب نادر، فأرسلت له مجموعة من خمسة افراد مسلحين التقوه في أحد جبال القرية، فأرسل لوالده ليودعه، فكان وداعا رجوليا حاراً، فعاد الوالد الى بيته مع حلول الظلام ، بينما شق نادر ورفاقه الخمسة الطريق نحو نهر الاردن لاجتيازه..
مع الفجر وصلوا الى قرب النهر، قال قائد ألمجموعة ليتقدم ثلاثة منكم لكشف الطريق أمامنا، وعندما تتأكدون من خلو الطريق من المخاطر، أرسلوا لنا إشارة الأمان... تقدم الثلاثة والثلاثة من خلفهم يتبعوهم... وفي اللحظة الحاسمة التي أمسك فيها الثلاث المتقدمين السلك الشائك وشرعوا بقصة بمقصات كان معهم، باغتهم مجموعة من جنود الاحتلال كانت قد إختبأت بين نبات القصل المتشابك، فبدأ الاشتباك المسلح .. قائد المجموعة أمر نادر الاعزل من السلاح بالتراجع سريعا للخلف، وتقدم هو ورفقيه لإسناد مجموعته المشتبكة... ساعة من الاشتباك العنيف، أستخدمت فيه القوات المحتلة العربات المصفحة والحوامات والاسلحة الثقلية.. إرتقى خمستهم شهداء، فعاد نادر فاراً من المكان إلى اطراف قريته مرة أخرى...
*
جاء الوالد لابنه نادر، فرآه في حالة يرثى لها، فكَّرَ ملياً فيما يفعل، قال لابنه :إسمع يا بنيّ هناك بيت متروك لابن عمي سلميان السعيد في أول القرية.. تركه عمك سليمان وفر أثر حرب حزيران67، وهو سصنف الان "أملاك غائب" .. في أسفل منه بَهْوُ واسع ،لا يعرفه إلا سليمان واهله وانا بعد الخالق... ٍسأضعك فيه ، وآتيك فيه بالزاد وما تحتاج كل عدة ايام..حتى يقضي الله امرا كان مفعولا... فوافق نادر الذي لم يبقى أمامه أي خيار آخر..
دخل نادر مع والده البهو الذي يفوح رطوبة، ويمتلأ غبارا وترابا، فشرعا في تنظيف المكان بقدر الممكن،نادر شرع بالتنظيف بيديه، بينما غادر الوالد لإحضار فرشة وغطاء وبعض الاطعمة والشموع ومذياع وبطاريات احتياطية للمذياع وبعض الكتب الثقافية والمجلات ،فإفترش نادر المكان الذي سيبقى فيه من صيف العام 1970 حتى خريف العام 1994...
كان نادر إذا ملَّ هنا والملل طويل قاتل، يتسلل ليلا إلى كروم الزيتون،يتمشى، وإذا ما شعر بأحد، تورى وعاد بحذر إلى البَهْوْ... كان إذا ما تأخر عليه والده في إحضار الطعام، يخرج ليلا متخفيا إلى البساتين القريبة،فيأخذ حاجته من الخضار والفواكه ويعود،وكان يحاول أحيان صيد الطيور لتكون إلى جانبه أنيسة وونيسة..كان يتحدث همسا مع الزواحف التي تفاجأه في مخباه،يرقيها عندما تخرج من البيض، وعندما تنموا وتكبر، وقد يناله حظ وافر عندما تراها تموت،...كان يُكَّرِمْ النمل ببعض ذرات السكر لتبقى حوله... يستحلف الشمس أن تبقى والنهار أن لا يرحل،لأن الليل بالنسبة له خانق قاتل... ليس في ظلمته ، بل لكونه محطة التفكير الأعمق،فيه تراكم الهواجس، والكوابيس...
مرت الايام والأشهر والسنين... وهو في مكانه ، لا يأتيه أحدا إلا مالك سره، حتى والدته التي ظلت تبكيه حتى كادت أن تفقد نور بصرها كانت تعتقد أنه إلتحق بالفدائيين ، ولا يعلم له ذكر....
المحتلون لم يقتنعوا بما يتناقله الناس في القرية من هروب نادر، وهم ما زالوا وبعد عدة سنوات يريدون القاء القبض عليه،وكأنهم قدروا أن سره عند ذلك الاب الكتوم، فإعتقلوه، وعرضوه للتحقيق القاسي لمدة زادت عن عشرين يوما، كاد فيها أن يفقد حياته ، لكنه انكر أي معرفة بمصير إبنه... كان يقول لهم كل ما أعرفه أنه هرب للاردن، وهناك إختفت آثاره..
وبعدما فشل جهاز المخابرات الاسرائيلي في فك لغز نادر من خلال التحقيق مع والده، أطلقوا سراحه وأبقوه تحت المراقبة،فأدرك أبو نادر ذلك ، وأخذ يتحرك بحذر كبير، ويتصرف بذكاء وبدهاء عميق، وأصبح لا يأتي إبنه كما كان حتى لا يلفت الانتباه
بالقابل... مرت السنين ثقلية على نادر وهو داخل البَهْوْ ،فغيّرت فيه حتى في تضاريس شكله، أصبح خافت الصوت، سريع الدمعة، عريض الوسط، كان يبكي عندما يسمع عرسا في البلدة ويعلم ان العريس هو إبن لزميل كان معه على مقاعد الدراسة... وعندما إندلعت إنتفاضة الحجارة، وشاركت كل القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية فيها، وتعرضت هذه التجمعات الفلسطينية لاقتحامات متكررة ومداهمات مباغته، تعرض المنزل الذي يسكن بهوهه للطرق ومحاولة الاقتحام، لكن الصفائج الحديدة الصدأءة التي كان تغطي نوافذ وأبوب المنزل المتروك كانت تعيد حسابات الجنود المقتحمين.. كم مرة تسارعت دقات قبلة من طرقات الباب ليلا ونهارا، لكنهم لم يدخلوا.. بل دخل غازهم المسيل للدموع.. فأسال دمع نادر المعتاد على الجريان... حتى أنه ذات مرة كاد أن يختنق وهو يحاول منع سعاله من الخروج من جوفه خوفا من أن يسمع صوت سعاله أحد.
هنا " قُصْرَةْ "،القرية الفلسطينية التي تقع على بعد أربعة وعشرين كيلومترا جنوب شرق مدينة نابلس ،هذا من ناحية جغرافيا المكان، أما جغرافيا الزمان،فهي الاشهر التي تلت حرب العام 1967، والتي كان من نتيجتها سقوط الضفة الفلسطينية في قبضة الاحتلال،بالإضافة لأخواتها العربيات الجولان وسيناء....
هنا "قُصْرَةْ " الوديعة بجمالها وهدوئها وعلو جبالها المطلة على الاغوار،والتي يلحظ أهلها جبال الاردن واضحةً وقت الصفاء، لكن الواقع الجديد المتمثل بوجود محتل مر، فقد ضاع الجمال ، وتَعَكّر ألصفاء، وغلى الغضب في ألصدور، فكانت جلسات الشبان ، ولقاءات كبار السن في حواري القرية ومضافاتها وبيوتها وحقولها، تتحدث عن الواقع الجديد المؤلم... أحمد وحسن ومحمود،لا يكتمل الحديث بينهم إلا بوجود نادر، ذاك الشاب الفلاح المتوقد وطنية وطاقة، يبحث مع اصدقاءه بشغف مقاومة ألمحتلين،يشجعه في ذلك وجود الفدائيين في الأردن والعمليات التي تنفذها مجموعاتهم التي تتسلل من هناك للأراضي المحتلة على الدوام...
كان أحمد الذي تسيد المجموعة المتشكلة من الاصدقاء الاربعة ،عسكرياً سابقا في الجيش الأردني،وكان شاب يتسم بالخبرة النسبية والرزانة والصبر، لقد أبلغ أصدقاءه لتوه أنه قام بإرسال رسالة للقيادة في عمان، وما زال ينتظر الجواب، وأنه يسعى لتكوين خلية عسكرية للقيام بمهاجمة أهداف إحتلالية في المنطقة ، حتى أبعد من المنطقة، وفق الممكن ووفق توجيهات القيادة...
سُرَّ نادر ورفاقه بهذا الخبر ، وانتظروا أسابيع حتى جاءتهم الرسالة الجوابية التي توافق على قبول انتماءهم لـ "فتح" وجهازها العسكري، وقد تضمن الرسالة أيضا اسماء حركية سرية لأربعتهم... أحمد القائد كان اسمه "جبل" ونادر " معاوية "، وحسن " عروة " ، ومحمود " صقر "، وكانت أهم جملة في الرسالة ما كتب في نهايتها، وهي : -" إنتظروا منا رسالة صوتية عبر إذاعة "العاصفة"، لتوجيهكم إلى النقطة "الميتة"، التي ستجودون ما يلزمكم من سلاح، للبدء في مشواركم الكفاحي.."
*
كان الطريق شاقا ومرهقا بين "قُصْرَةْ" ومنطقة الأغوار من صعود هضاب وجبال،ونزول وديان وعروق، فساروا بِجَلَدٍ وتَحَمُلٍ ليلا سيراً على الاقدام في ليلة غاب عن سمائها القمر، حيث توجد النقطة " الميتة " التي زرع لهم فيها السلاح ، حتى وصولوا ذلك الغار مع الفجر، وجدوا العلامة المتفق عليها ، فقاموا بحفر ما تحت أرضيتها في الجانب الايمن من الغار بأغصان الشجر،فوجدوا كيساً من "الخيش" مُوَثَقْ الفتحة والوسط والنهاية، بحبلٍ رفيع نسبيا من خيوط البلاستيك يعرف "بالمصيص"،... ازالوا كل ما عليه،وفتحوه، فوجدوا بداخله أربع قطع سلاح رشاش نوع "الكلاشنكوف"، وعدد من المخازن المحشوة بالرصاص والذخيرة، ... فرحواْ، وكبّرواْ، وتعانقواْ، ولما نظروا لباب الغار، وجدوا الصبح قد بدأ بالانبلاج وهَمَّ ثلاثتهم بالخروج، أوقفهم أحمـــد قائلا :-: إنتظرواْ .. لا تخرجواْ.. لا بد من البقاء هنا حتى يّحِلَّ الليل.. ونعود تحت جنح الظلام كما جئنا....
*
بعد الرصد المتأني، والمراقبة الدقيقة، كان القرار بمهاجة الجيب العسكري الذي غالبا ما يَمُرُ في ساعات الصباح والمساء في الطريق الزراعي المحاذي للقرية والواصل للقرى المجاورة مثل قرية جوريش شمالا وجالود جنوبا والمجدل وعقربا في الغرب، ...كان هذا الجيب يَتَعَمّدْ الدخول في الاراضي الزراعية، فيهرس المنتوجات، ويروع المزارعين،ويَعْبَثْ بمحتويات الخيام الزراعية بحجة التفتيش، أحمد جمع رفاقه الثلاثة ، ورسم لهم على ورقة كانت معه توقعات خط سير سيارة الجيب،... ووضع رأس القلم على منطقة تتوسط تلك المزارع مليئة بشجر الزيتون الكثيف ، وقال هنا سنكمن لهم، وبعد أن ننفذ العملية ، سننسحب جنوبا إتجاه البلدة ونختفي كل حسب وجهة بيته بعد أن نخبأ السلاح، دون أن يلحظنا أحد،أو يشك بنا أحد...
هز الجميع رأسه بالموافقة ، وأعطى أحمد تحديد ساعة الصفر... التي كانت في مساء اليوم التالي عند الساعة التاسعة تماما، وهكذا كان... مرت سيارة الجيب في الساعة التاسعة والنصف،فبادؤها بصليات غزيرة من إطلاق النار، صليات فاجأت وأربكت جنود الدورية الثلاث، فلم يتمكنوا من الرد بالمثل،فوقعوا بين قتيل وجريح ، وإنسحب أحمد ورفاقه من المكان،بعدما خلت شوارع القرية من المارة الذين سارع كل من كان خارج بيته للعودة سريعا له،متلهفا لمعرفة ما جرى، في حالة انتظار إنجلاء حقيقة ألأمر، وخوفا من إقتحام القرية والتنكيل بأهلها.
*
مرت القرية بأيام عصيبة من منع التجول والمداهمات والاعتقالات والتحقيق،لم يفلح المحتل في فك شفيرة هذا العمل الفدائي،لكنه أبقى القرية وشبانها تحت المجهر، أحمد الذي إطمئن نوعا ما إلى فشل مخابرات الاحتلال في الاستدلال على مجموعته، تحرك بإتجاه الرجل الخمسينيّ من قريته يثق به، والذي كان رسول التواصل بينه وبين القيادة في عمان، فهو دائم السفر والعودة من وإلى الاردن،فعرض عليه حمل رسالة جديدة للقيادة ، وافق ذلك الخمسيني بعد تردد، ومضى في ذات يوم من أيام الشتاء قاصدا العاصمة الاردنية عمّان، وعلى معبر جسر دامية أو ما كان يسميه الاحتلال جسر "ألمبي"، تم إعتقاله، وإقتيد للتحقيق معه ، فإنهار وإعترف بالرسالة التي كانت تحمل دليلا كبيراً على أن من قام بالعملية هو أحمد وشركاءه... فسارعت المخابرات الاسرائيلية ليلا بمداهمة القرية وإعتقلت أحمد بطريقة وحشية ومستفزة، الأمر الذى حدى بنادر أن يرسل في طلب حسن ومحمود للقاء بين كروم الزيتون في الجهة الشمالية من القرية...
ثلاثتهم قلقون، بعدما شعروا انهم قد يكونوا على وشك الاعتقال...، كشف حسن لرفاقه عن معلومة أخبره بها أحمد قبل إعتقاله بأنه ينوي إرسال رسالة عاجلة للقيادة ... وأن الرسول سافر اليوم صباحا ويمكن أن يكون قد اعتقل
قال نادر :- لا بد من الحذر .. يا شباب علينا ترك منازلنا هذه الايام تحسبا من المداهمات حتى تنجلي صورة ما سيحدث مع أحمد... والآن لنفترق... ولا نتواصل لأن التحركات في القرية الان تحت المتابعة من قبل عملاء الاحتلال..
نادر الوحيد الذي هجر بيته وراح ينام بين كروم الزيتون لأيام... وبعد أكثر من أسبوعين على إعتقال أحمد،اقتحمت قوات الاحتلال برفقة عناصر المخابرات بيت نادر وحسن ومحمود،فوجدت حسن ومحمود واعتقلنهما، ولم تفلح في اعتقال نادر، لتبدأ الان عملية الاختفاء والمطاردة التي تجاوزت الربع قرن...
*
والد نادر الرجل الخمسيني في ذلك الوقت كان هو كلمة السر والصندوق الاسود لنجله المطارد ،فبعد أن أمضى نادر اشهرا مطاردا في الجبال وكروم الزيتون التي تحيط بالقرية بعلم شخص واحد هو والده، وبعد دنوا موسم الشتاء من العام 1968/1969.قرر والده نقله لبيت أخته المتزوجة في مخيم عايدة للاجئين قرب مدينة بيت لحم، وفعلا نجح في إيصاله هناك ،فإتخذ نادر غرفة له في بيت أخته، وعثر على عمل في بيت لحم، وعمل بصمت وخفية لمدة سنتين تقريبا،حيث قرر زوج أخته ـــ التي لا تعلم عن سر اخيها شيئا ــ الرحيل لقرية" قُصْرَةْ"، للعمل والإقامة الدائمة، بينما تظاهر نادر بنيته البقاء في بيت لحم، لكنه عاد لإطراف قريته "قُصْرَةْ" مرة أخرى ، وتواصل مع والده ، الذي سارع للقاءه بين كروم الزيتون، وقال له : إسمع يا بنيّ.. عليك بالتواصل مع قيادتك حتى يجدون لك سبيلا في الوصول اليهم بعدما إعترف زملائك بكل ما فعلتموه... وعليك التعجيل في هذا الأمر قبل دخول موسم الشتاء القادم..
قبل أن ينتهي صيف العام 1970، كانت القيادة في عمّان على علم بطلب نادر، فأرسلت له مجموعة من خمسة افراد مسلحين التقوه في أحد جبال القرية، فأرسل لوالده ليودعه، فكان وداعا رجوليا حاراً، فعاد الوالد الى بيته مع حلول الظلام ، بينما شق نادر ورفاقه الخمسة الطريق نحو نهر الاردن لاجتيازه..
مع الفجر وصلوا الى قرب النهر، قال قائد ألمجموعة ليتقدم ثلاثة منكم لكشف الطريق أمامنا، وعندما تتأكدون من خلو الطريق من المخاطر، أرسلوا لنا إشارة الأمان... تقدم الثلاثة والثلاثة من خلفهم يتبعوهم... وفي اللحظة الحاسمة التي أمسك فيها الثلاث المتقدمين السلك الشائك وشرعوا بقصة بمقصات كان معهم، باغتهم مجموعة من جنود الاحتلال كانت قد إختبأت بين نبات القصل المتشابك، فبدأ الاشتباك المسلح .. قائد المجموعة أمر نادر الاعزل من السلاح بالتراجع سريعا للخلف، وتقدم هو ورفقيه لإسناد مجموعته المشتبكة... ساعة من الاشتباك العنيف، أستخدمت فيه القوات المحتلة العربات المصفحة والحوامات والاسلحة الثقلية.. إرتقى خمستهم شهداء، فعاد نادر فاراً من المكان إلى اطراف قريته مرة أخرى...
*
جاء الوالد لابنه نادر، فرآه في حالة يرثى لها، فكَّرَ ملياً فيما يفعل، قال لابنه :إسمع يا بنيّ هناك بيت متروك لابن عمي سلميان السعيد في أول القرية.. تركه عمك سليمان وفر أثر حرب حزيران67، وهو سصنف الان "أملاك غائب" .. في أسفل منه بَهْوُ واسع ،لا يعرفه إلا سليمان واهله وانا بعد الخالق... ٍسأضعك فيه ، وآتيك فيه بالزاد وما تحتاج كل عدة ايام..حتى يقضي الله امرا كان مفعولا... فوافق نادر الذي لم يبقى أمامه أي خيار آخر..
دخل نادر مع والده البهو الذي يفوح رطوبة، ويمتلأ غبارا وترابا، فشرعا في تنظيف المكان بقدر الممكن،نادر شرع بالتنظيف بيديه، بينما غادر الوالد لإحضار فرشة وغطاء وبعض الاطعمة والشموع ومذياع وبطاريات احتياطية للمذياع وبعض الكتب الثقافية والمجلات ،فإفترش نادر المكان الذي سيبقى فيه من صيف العام 1970 حتى خريف العام 1994...
كان نادر إذا ملَّ هنا والملل طويل قاتل، يتسلل ليلا إلى كروم الزيتون،يتمشى، وإذا ما شعر بأحد، تورى وعاد بحذر إلى البَهْوْ... كان إذا ما تأخر عليه والده في إحضار الطعام، يخرج ليلا متخفيا إلى البساتين القريبة،فيأخذ حاجته من الخضار والفواكه ويعود،وكان يحاول أحيان صيد الطيور لتكون إلى جانبه أنيسة وونيسة..كان يتحدث همسا مع الزواحف التي تفاجأه في مخباه،يرقيها عندما تخرج من البيض، وعندما تنموا وتكبر، وقد يناله حظ وافر عندما تراها تموت،...كان يُكَّرِمْ النمل ببعض ذرات السكر لتبقى حوله... يستحلف الشمس أن تبقى والنهار أن لا يرحل،لأن الليل بالنسبة له خانق قاتل... ليس في ظلمته ، بل لكونه محطة التفكير الأعمق،فيه تراكم الهواجس، والكوابيس...
مرت الايام والأشهر والسنين... وهو في مكانه ، لا يأتيه أحدا إلا مالك سره، حتى والدته التي ظلت تبكيه حتى كادت أن تفقد نور بصرها كانت تعتقد أنه إلتحق بالفدائيين ، ولا يعلم له ذكر....
المحتلون لم يقتنعوا بما يتناقله الناس في القرية من هروب نادر، وهم ما زالوا وبعد عدة سنوات يريدون القاء القبض عليه،وكأنهم قدروا أن سره عند ذلك الاب الكتوم، فإعتقلوه، وعرضوه للتحقيق القاسي لمدة زادت عن عشرين يوما، كاد فيها أن يفقد حياته ، لكنه انكر أي معرفة بمصير إبنه... كان يقول لهم كل ما أعرفه أنه هرب للاردن، وهناك إختفت آثاره..
وبعدما فشل جهاز المخابرات الاسرائيلي في فك لغز نادر من خلال التحقيق مع والده، أطلقوا سراحه وأبقوه تحت المراقبة،فأدرك أبو نادر ذلك ، وأخذ يتحرك بحذر كبير، ويتصرف بذكاء وبدهاء عميق، وأصبح لا يأتي إبنه كما كان حتى لا يلفت الانتباه
بالقابل... مرت السنين ثقلية على نادر وهو داخل البَهْوْ ،فغيّرت فيه حتى في تضاريس شكله، أصبح خافت الصوت، سريع الدمعة، عريض الوسط، كان يبكي عندما يسمع عرسا في البلدة ويعلم ان العريس هو إبن لزميل كان معه على مقاعد الدراسة... وعندما إندلعت إنتفاضة الحجارة، وشاركت كل القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية فيها، وتعرضت هذه التجمعات الفلسطينية لاقتحامات متكررة ومداهمات مباغته، تعرض المنزل الذي يسكن بهوهه للطرق ومحاولة الاقتحام، لكن الصفائج الحديدة الصدأءة التي كان تغطي نوافذ وأبوب المنزل المتروك كانت تعيد حسابات الجنود المقتحمين.. كم مرة تسارعت دقات قبلة من طرقات الباب ليلا ونهارا، لكنهم لم يدخلوا.. بل دخل غازهم المسيل للدموع.. فأسال دمع نادر المعتاد على الجريان... حتى أنه ذات مرة كاد أن يختنق وهو يحاول منع سعاله من الخروج من جوفه خوفا من أن يسمع صوت سعاله أحد.