في عمق تموز الجاري من فوق العام الخامس والثمانين من القرن الماضي،كانت إطلالة شمس الأربعاء على حواري المدينة العتقية في جنين، ليست كباقي ألإطلالات فهنا، في هذا البيت الممتلئ تاريخا وعبقا عربيا أصيلا، إنبعاث روح ، وميلاد حياه، طفل ذكر ولد لتوه ،فمليء البيت صراخا،وفي الحارات المجاورة، شبان يملئون الأزقة والشوارع ناراً ومواجهات، إنتشرت رائحة الغاز المدمع في الاجواء، وفوق الأبنية كأنها غمامة بيضاء،هرع الأهل إلى الطفل يغطونه خوفا من الاختناق، لكن بكاءه ويداه اللتان تتحركان بسرعة ، كانتا تقولان .. لا.. وكأنه يشارك الفتيان والشبان المواجهة، سألوا الوالد : ماذا أسميته؟؟ أجاب الوالد : شجاع.... ***** الأطفال هنا، كما باقي ربوع الوطن المجروح، لا يرضعون الحليب فقط، بل تشرب أسماعهم وتتلقى ذاكرتهم الطفولية الغضة الحكايا والقصص،وما أن كادت خطواته تتجاوز الباب الرئيسي، حتى عزف الوطن الملحمة الشعبية الأولى، وإنصهر فيها القريب والبعيد،كل يوم أهزوجة عن شهيد أو جريح أو معتقل أو مطارد، فكان أخواله وأبناء حييهم من هؤلاء،وكلما تجمعت النسوة وتحدثن عما يجري كل يوم، كان والدته تنظر اليه.. ,تتوجس من المستقبل خيفة تتحسسها بفطرة الأمومة..خاصة وأن بالها لا يهدأ على شقيقها،كلما حدثت " كبسية " على مطارين، حبست الأنفاس، حتى ينجلي الموقف، لكن شجاع، الذي كان طفلا، أصبح يخطوا خطواته الأولى في الحارات، يلاحق الصبية، ويلاحظ قامات الملثمين، فيعدوا خلفهم،وهو لم يتجاوز الخامسة، لعله يعي لغز هذه المشاهدات، التي لا تستوعب منها ذاكرته الصغيرة، الا أن العاب الأطفال في الحواري قد اختفت، وان الألعاب الان هي بيننا وبين المحتلين، رجم بحجارة..ودما ورصاص. ****** في الثامن والعشرين من ايلول من العام الالفين، كان ملعب بلدية جنين على موعد مع مباراة رسمية بين فريقين من القدس هما أبو ديس وسلوان ضمن الدوري الممتاز، وبالرغم من انه ليس مرغما بالرياضة، الا انه استجاب لطلب اصدقاءه الذين دعوه لمشاهدة المباراة، وقبل الموعد بساعة، وعند اقتراب آذان العصر، التقوا جميعا وساروا نحو الملعب،.. الاقدام بإتجاه الملعب خفيفة.. ترى ما الامر.. شاهدوا بعضا من الشبان عائدين، سأل احدهم اؤلئك الشبان، هل الغيت المباراة؟؟ رد الشاب : نعم... هناك شهداء في المسجد الأقصى سرت في بدنه قشعريره للحظات : شهداء .. دعونا نعود... كان ذلك الموقف مفتاح علاقته بالثورة الشعبية الثانية، صدمه اكثر مشاهد الدم والموت،.. تغيرت كل برامجه اليومية، أصبح ألان المحج اليومي الى الجلمة، اشتد عوده وتعب في القاء الحجارة وقذف الزجاجات والفارغة والحارقة، وتوسعت ذاكرته بمشاهد ومسيرات الشهداء والجرحى والتوقف طويلا امام المشافي لترسم نفسه بلون الدم والدموع غضبا يتراكم يوما بعد يوم...هذا الغضب الذي لم يعد داخله يبقل بان يبقى الحجر، كفة الميزان... أخذ يبحث مع بعض أقرانه عن مجموعة يستظلون بالسلاح...ومع تسارع الاحداث وتعاظمها، وصل لمبتغاه، لقد تعرف سرعا على مجموعة لديها مما يشتهي... بندقية وسيارة... فكان الثانية أسرع اليه..... ***** في ساعات الصباح الأولى، رن جواله، نظر اليه، عرف الطالب، رد سريعا، فهم من يكون المتحدث والمكان، فأجاب:- ها أنا قادم... تعجل في فتح السيارة وقيادها وانطلق نحو المنطقة الصناعية، دقائق وصل وترجل، دخل ورشة التصليح، مجموعة من الشباب منهم مطاردون يتحدثون عن أمور تهم المقاومة، دخل النقاش بقوة، الأمر صعب، وخطير، يتحتم التفكير العميق، جاءت القهوة، تذكر ان إشعال سيجاره قد تهدأ من روعه، ضرب على جيوبه.. فلم يجد ، تذكر أن علبة السجائر في السيارة، نهض فورا الى سيارته المركونة أمام الورشة، فتحها واخذ يبحث عن ضالته، مرت من جنبه اقدام مسرعة، لم يكد يرفع راسه لرؤيتهم حتى سمع زخات من الرصاص المتواصل، يا الهي إنهم يطلقون النار داخل الورشة، أدرك وهو في عز الارتباك انها "وحدات خاصة"،..... إندفع الى الجهة الجنوبية، نالته رصاصة في قدمه، لم يسقط بقي محافظا على توازنه بالرغم الألم والدم، هرول سريعا نحو مركز المدينة، وبقي حتى وصل لبيتهم والقي بنفسه على السرير، ومن حوله أصدقاء، ومن أهل الحي، فسأل: احد يخبرني ماذا جرى؟؟ قال أحدهم :- هناك شهيدين وثالث في حال الخطر بكى شجاع بكاء الرجال المقهورين.... ***** إمتشق السلاح، محققا رغبة جاءت في عز حاجتها، وأصبح أحد أبرز عناصر الاستنفار الدائم، ومن من يلبون الدعوة العاجلة عند كل توغل،فلم يتأخرا يوما لتلبية اية ساحة مواجهة، حتى ذلك اليوم الذي لعلع فيها الرصاص في كل مكان من المدينة والحي الشرقي، جاءه هاتف.. هناك شباب محاصرون، لا بد من نصرتهم على الفور ، فلبى، اخذ له مكانا قرب سينما الهاشمي، اصبح يطلق النار بتركيز على الجيش الذي يشدد الحصار على المجاهدين، فجأءة جاءته رصاصة في البطن، حمله رفاقه الى سيارة الإسعاف التي كان فيها أحد الأطباء ومسعف وسائق، حاولت السيارة الانطلاق به الى المشمفى ، لكنه رفض بشدة.. قائلا:- .. لا اريد أن اعتقل ...قد يقتحموا المشفى .. أريد أن أتلقى الإسعاف هنا.. قد أعود الى المعركة ... وبقيت سيارة الاسعاف تدور في الشوارع والحارات، ولم يعد الى البيت الا بعد ستة اشهر... ****** على غير العادة ، كان مساء سعيداً على الأسرة وهي تشاهد إبنها المطارد بينها بعد غياب طويل، الكل منهمك في تحقيق رغبات إشتاق اليها..، الحذر يلف العائلة، لقد حضر لتناول العشاء مع أسرته.. فوالدته كانت تعلم ما يحب وما لا يرغب من المأكولات.. الان شرعت في تحضير "المخشي"، ساعات أمضاها معهم، قبل ان يرن الجوال، رفعة الى أذنيه، تغيرت ملامحه فجأءة.. وقال ها أنا قادم قفزت والدته: شجاع إبقى معنا... لم نراك بعد قال : ان شاء الله عائد يا أمي.. تفقد مخزن السلاح ... ونظر الى والدته وقال: إدعوا لي قالت وهو يخرج : الله معاك يحميك ويحفظك بلسانها .. وقلبها يستشعر انها قد تكون اللحظات الاخيرة لهذه الروح التي خرجت من روحها..... انطلق في جوف الليل الماطر عبر الأحياء والحارات صوب بئر الجمال الواقع جنوب المدينة، قالوا أن نقطة عسكرية تغلق الشارع هناك، التقى بهم، كانوا بعضة مسلحين، وصلوا بحذر... كان هناك مجال لأن يكونوا عرضة للرصد .. قال :أنا من سيتقدم... إبقو هنا.. وإن نجحت تقدموا.. تسلل ببطء.. شعر انه بأمان.. تلفت نحو البيوت والابنية.. لم يلحظ أي حركة.. فقط السيارات العسكرية تقف في منتصف الطريق..صوب بندقيته نحوها وشرع بإطلاق النار... دقائق... قرر أن يتقدم نحوها لعله يحدث فيها إصابة مباشرة، تجاوز بعض المساكن ووصل الى الطريق الفرعي، نظر يمينا ويسارا، أسرع في قطع الطريق، فدوى رصاص القنص، ثلاثة عيارات نارية أصابته في قدمية.. سقط ارضا، لكنه إستجمع قواه وزحف نحو باب ذلك البيت المغطى بشجر الزيتون... واصل زحفة وهو ينظر الى تدفق الدم من ركبته اليسرى وقدمه اليمنى.. وصل الباب طرقه بهدوء في البداية.. طرق ثانية وثالثة ورابعة.. لا أحد يجيب.. بدأ المطر بالهطول.. طرق الباب بقوة.. يبدوا أن أهل البيت يعتقدون أن جنودا بالباب.. تشرب بنطاله بالدم وماء المطر..التقط الجوال وبحث عن رقم خاله... ضغط على الاتصال.... جاء الجواب "-اين انت يا شجاع ؟؟ رد شجاع بصوت متألم : لقد أصبت.. انا بالقرب من بئر الجمال .. رد خاله: انتظرني ها انا قادم.... دقائق كانت سيارة أحد الجيران تنطلق على عجل نحو المكان وسط النار والأمطار والليل البارد المخيف.. وصلوا بالقرب من الحاجز.. أشعل الجنود المصباح القوي في وجه السائق وقالوا له ،- ممنوع المرور عاد جوال خاله يهز سواد الليل البارد... أين أنت..؟؟ أجاب شجاع : لا استطيع أن أحدد المكان ... الظلام دامس وجراحي تنزف بغزارة .. وبطارية الهاتف على وشك التوقف.. قال له خاله: إسمع إربط جرحك ... نحن في مواجهة الحاجز ... هم يطلبون منا العودة .. نريد أن نعرف اين انت........؟؟ إرفع صوتك عاليا قال شجاع: لقد ربط جرحي الايمن بسترتي، والايسر بجرزتي .. لكني لا أستطيع أن أخرج صوتا ... الوحدات الخاصة قريبة مني ... أظن اني زغت عنهم بعدما زحفت.. هم يبحثون عني.. أو ربما يشاهدوني وينتظرون أن أنزف حتى الموت.. أخذت امه الجوال وحدثته بلهفة ودموع ... قال لها رضاك يا امي... لقد سقطت مني البندقية ... لا أعرف المكان الذي أنا فيه.. كل شيء من حولي دامس الظلمة.. أمي كم اشتاق لتقبيل يدك.... رضاك يا أمي..... انقطع الخط... فقد توفقت البطارية... نظر خاله الى الساعة... لقد قاربت الثانية عشر ليلا... والجميع في داخل السيارة يحاول البحث عن جواب... أو أن يسمع صوتا.... وبعد ساعتين ونصف تحركت السيارات العسكرية ، وانسحبت من المكان.. ترجل الجميع من السيارة وشرعوا يبحثون عنه وهم ينادون بأعلى اصواتهم الحزينة والمرتبكة والخائفة من القادم ... شجاع .. شجاع.. شيئا فشيئا جاء بعض الشبان من الحي... واخذوا يبحثون معهم.... صرخ أحدهم.. غير بعيد عن مكان السيارة... ها هو شجاع هرع الجميع نحو المكان،فوجدوه جثة هامدة،وقد لفظ أنفاسه بعدما فقد معظم دمه.. إنه يسبح في بحر من الدم لم يستطع المطر أن يذيبه أو أن يبدل لونه الأحمر....