عبدالقادر وساط - رسالة من أبي العلاء المعري ورسالة إليه

1- عبدالقادر وساط

من أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي، المشهور بأبي العلاء المعري
إلى حضرة الأديب أحمد بوزفور

السلام عليك ورحمة الله تعالى، وبعد

مرحباً بكتابك الذي جاءني على غير موعد وأنْهَلَني من خير مورد. وإني لأقول لك- بعد أن قُرئَ عليّ- ما قلتُهُ في زمن مضى للشيخ أبي القاسم المغربي، وكان قد أنفذَ إليّ "إصلاح المنطق" مختصَراً:
" السلام عليكِ أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية، أيّ هواء رَقَاك وأي غيث سقاك!"
و أذكرُ أنّ أحدَ أخوالي كانَ سافرَ إلى المغرب فأطال الغياب، فأرسلتُ إليه قصيدة طويلة على الوافر، أقول في مطلعها:
تُفَدّيكَ النفوسُ ولا تُفادىٰ
فأدْنِ الوصْلَ أو أطِلِ البعادا
وفيها أعاتبه على كثرة أسفاره:
وقيل: أفادَ بالأسفار مالاً
فقلنا: هل أفادَ بها فؤادا؟
وخالي هذا هو أبو القاسم علي بن محمد، وكان رجلا كثير الأسفار، مثل أنداده من التجار. وهو من بني سَبيكة، الذين أفتخر بهم في قصيدتي هذه بقولي:
كأنّ بَني سبيكة َفوق طيرٍ
يجُوبون الغوائرَ والنّجادا
وقد ذكرتَ رعاك الله -في كتابك إلَيّ- ما لمستَه في شعري من زهو واعتداد بالنفس. والحق أني لم أكن أخلو من ذلك في غضارة شبابي. وكيف لا وقد نشأتُ في بيت مُعرق في العلم والفضل؟ إذ كان جدي القاضي أبو الحسن سليمان بن محمد شاعراً ومحدثا فاضلا. ومن جميل شعره قصيدة في الناعورة، يقول في مطلعها:
وباكيةٍ على النهرِ
تئنُّ ودمْعها يجري
وأخوالي من بيت معروف من بيوتات حلب. بل إن والدي عبدالله نفسه كان شاعرا وعالما باللغة، أخذَ العربية عن ابن خالويه، وأخي الأكبر- أبو المجد- كان شاعرا، لكنه كان في ذلك دون الأخ الأصغر عبدالواحد أبي الهيثم، صاحب البيت المشهور:
مَنازل قومٍ حدثتْنا حديثَهمْ
فلمْ أرَ أجلى منْ حديثِ المَنازلِ
ولهذا البيت قصة. فقد مرّ أبو الهيثم برَجُل يَقلع حجارةً من أطلال "سياث"(المعرة القديمة) فساءه ذلك وراعه ما يسمع من زجَل الأحجار تحت المعاول، فنظم في ذلك قصيدة لامية بديعة منها البيت المذكور.
وقد مات أبو الهيثم ولما يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر. وتحتفظ له كتب الأدب كذلك برائية بديعة بعثها إليّ أيام كنتُ في بغداد، يناشدني فيها أن أعود إلى معرة النعمان.
وكان ابنُ عمتي ورفيق صباي أبو صالح محمد بن المهذب- وهو من ذوي الفضل والعلم- شاعرا مُجيداً. وله نونية بديعة على الطويل، يصف فيها عزلتي بعد رجوعي من بغداد، ثم يستشفع بأخي أبي الهيثم لأفتح له بابي الموصد. وذلك بعد أنْ أجمعتُ على انفرادٍ يَقطع ما بيني وبين الناس ويَجعلني كالظبي في الكناس. ومن أبيات هذه النونية:
نأى ما نأى والموت دون فراقه
فما عذره في النأي إذْ هو دانِ؟
نعم أيها الشيخ الأديب-حفظك الله- لقد افتخرتُ في شعري بأهل قرابتي- وأنا في حداثة سني- وافتخرتُ كذلك بنفسي. بل إن هناك قصائد كثيرة في "سقط الزند" أسرفُ فيها في الفخر إسرافاً. ولكنني أزعم أن هذا الفخر بالنفس لم يكن مبنيا على الزهو والاعتداد - كما هو الشأن عند أبي الطيب المتنبي- وإنما كان مكابرة مني، بسبب آفة العمى-أو بفضل هذه الآفة- التي ابتُليتُ بها وأنا في سنتي الرابعة، بعد أن أصابتني علة الجدري، فنشأتُ لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، لأني أُلْبسْتُ في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر، فلم أعقلْ غيره:
و إظلامُ عينٍ بعده ظلمة ُ الثرى
فقُلْ في ظلامٍ زيدَ فوق ظلامِ
ثم إن الشامتين والحساد كانوا يزيدونني اعتدادا وإصرارا ومكابرة:
وقد نبحُوني و ما هجْتهمْ
كما نبحَ الكلبُ ضوءَ القمرْ
ويشهد الله أني لقيتُ منهم عنتا كبيرا، خاصة في مدينة السلام. فهذا أبو الحسن علي بن عيسى الربعي -إمام النحو ببغداد- قال يوماً لمن معه، كي يُؤذَنَ لي بدخول مجلسه: "فليصعد الإصطبْل"، والإصطبل هو الأعمى بلغة أهل الشام.
فكيف لا أفتخر- أيها الأديب الأريب- بعلمي وحسبي على الربعي وأمثاله؟
وأما عن إعجابي بشعر أبي الطيب فلذلك قصة طويلة، بدأتْ وأنا طفل صغير حين ذهبَ بي والدي إلى حلَب، وفيها أخوالي بنو سبيكة. وهناك كنتُ أتلقى النحو على ابن سعد النحوي. وأنت تعرف أن ابن سعد هذا كان راوية المتنبي. وكان يوماً يروي قصائده على مسمع مني، فأنكرتُ روايته لبيت من دالية أبي الطيب، التي مطلعها :(أزائرٌ يا خيال أم عائدْ / أم عند مولاك أنني راقدْ؟ ) والبيت كما رواه ابن سعد هو: (أو مَوْضعاً في فناء ناحيةٍ / تَحْملُ في التاج هامة العاقدْ.)
فقلت له مصححا: "أو مُوضِعاً في فتَان ناجيةٍ."
والمُوضع- كما لا يخفى عليك- هو المسرع في سيره، والفتان غشاء من أدم يوضع فوق الرحل، والناجية هي الناقة السريعة. وبهذه الرواية يستقيم المعنى ويتضح.
والسلام عليك و رحمة الله.

****


2-أحمد بوزفور

رسالة إلى أبي العلاء المعري

السلام عليك أيتها الحكمة الإنسانية الخالدة، ما بقي على هذه البسيطة قارئُ عربيةٍ مستنير.
أما بعد،
فمن ينكر ياشيخي الجليل أنك ابْنُ بَجْدتها في الأدب والعلم، وابنُ شجرتها في النسب المُعرق في الشعر:
وهل أنت إلا شاعرٌ وابنُ شاعرٍ
وذو نسب في (الشاعرين) عريق؟
أصولك وفصولك، ياسيدي، من سلالة لا يَجْحدُ أحدٌ تفوقَها وتألقَها في تاريخ الأدب العربي، وأنت جُديل هذه السلالة المحكك، ومحكها المجدول، فتهْ إن شئت كما شئت، فمن ذا يُحاجّك إلا جاهل أو جاحد أو لئيم؟
إنه فخر المكابرة، كما تفضلتَ بالقول، وقد وعيتَه فطامنْتَ منه وخفضتَ لنا نحن قراءك والمعجبين بك جناح الرفق من الرحمة، كي تهيئنا لتَقَبُّل مفهومك التراجيدي عن الإنسان.
ولعلك ياشيخي تسأل عن معنى كلمة التراجيدي.. وأنى لي أن أشرح ما عجزَ عن شرحه ابنُ رشد، وهو عندنا في المغرب مفكر وفيلسوف شرحَ أرسطو وقَرَّبَ الحكمة من الشريعة أو الشريعة من الحكمة، وفهم من التراجيديا الإغريقية شيئا قريباً من النبل السيئ الحظ أو المجد الصريع أو الموت المولود مع كل مولود والنامي فيه حين ينمو وقاتلُهُ حين يموت.
وقد عرفنا من سيرتك المبثوثة في كتب الأدب، والتي تَفَضلَ عالمٌ من علمائنا المعاصرين، كفيف البصر مثلك، اسمه طه حسين، فأشرف على جمع ما قاله القدماء فيك وقالوه عنك في كتاب واحد أسماه (تعريف القدماء بأبي العلاء)... عرفنا من هذه السيرة أنك أُصبتَ بالعاهة صغيرا ولم تعد تذكر من الألوان، كما قلت في رسالتك، إلا اللون الأحمر. وقد نصحتُ بعضَ طلابنا بتتبع هذا العرق في شعرك، وقلت لهم إنني أحدس أن لهذا اللون معنى خاصا في قصائدك، لا يقاربه لون آخر، وضربتُ لهم بعض الأمثلة، على ذلك ، ومنها قولك عن البرق:
إذا ما اهتاج أحمرَ مستطيراً
حسبتَ الليل زنجيا جريحا
ومنها ما جاء في قصيدتك الشهيرة، التي تقول في مطلعها:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيَتْ والزمان ليس بفاني
حين تتحدث عن سهيل، وهو نجم يضرب إلى الحمرة:
يسرع اللمحَ في احمرار كما تُســْـ
ــرعُ في اللمح مقلةُ الغضبان
ومنها قولك عن السيف:
ودبّت فوقه حُمْرُ المنايا
ولكن بعدما مُسختْ نمالا
والعرب تُشَبِّهُ فرند السيف وما عليه من الوشي بآثار النمل. يقول امرؤ القيس:
ومُهَنَّدٍ عَضْبٍ مَضاربهُ
في متنه كمدبّة النمل
وليس عجيبا ياشيخي الجليل أن تصحح لراوية المتنبي ما يرويه من شعره. ولو أدركتَ المتنبي وهو حي وتحاورتما في شعره لكان قد قال: ( المعري أعلم بشعري مني ومن ابن جِنِّي). أما التصحيف وطرائفه فكثيرة، ولا سيما ما يُروى منها عن عصر انتقال الثقافة العربية من الشفوي إلى المكتوب، وفي هذه الطرائف المفرح والمحزن والممتع. وأنقل من كتبك ياشيخي قولك في تعريف التصحيف:(أصْل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب).
و أما حديثك عن ( المَوضع والمُوضِع) وتفسيرك للمُوضِع: مِنْ (أوْضَعَ يُوضِع)، فقد ذكرني بقصيدة لامرئ القيس أولها:
أرانا مُوضِعين لأمرِ غيبٍ
ونُسْحَرُ بالطعام وبالشراب
وبِرَجَزٍ لدريد بن الصمة يقول فيه:
يا ليتني فيها جَذَعْ
أخبُّ فيها وأضعْ
وبشعر لعمر بن أبي ربيعة:
تبالَهْنَ بالعرفان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغٍ أكلّ وأوضعا
وكان عمر قد تنكر في زي أعرابي أضلَّ ناقتَه، كي يتقرب من نسوة ذهبْنَ للنزهة خارج المدينة. وأين يُذهب بنا في هذه الكلمة ياشيخي عن قوله تعالى في سورة التوبة (لوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين.)
ويقول المفسرون عن كلمة (لأوضعوا) هنا: أي لأسرعوا السير بينكم بالنميمة والفتنة والبغضاء. وفي انتظار كتبك تقبل ياسيدي وإمامي الخالصَ من محبتي.


--------------------------------------------------------
من الكتاب المشترك (رسائل من القدماء ورسائل إليهم) مع صديقي وأستاذي الكبير أحمد بوزفور، الذي شرفني بثقته غاية التشريف، وأفادني بغزارة علمه وبسعة اطلاعه، وشجعني بلطفه ودماثته.
وهو كتاب أرجو أن يرى النور في وقت قريب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى