ثيابٌ بديعة فاخرة، ألوانٌ جميلة متناسقة، يُطوِّق كل اصبع من اصابعها خاتمان وربما فى بعضها ثلاثة، تلتفُّ الأساور حول مِعصمها؛ يتدلى منها ما زادها تناسقا وبهاءً، وما يتحلَّى به صدرها ورأسها، فكان يُعلن عن نفسه حين يستقبل شعاع شمس الغروب، فيعكس من فيض جماله أبهَى ألوان الدنيا.
ما أن وطئِت قدماها ذلك الأوتوبيس الفاخر؛ حتى أعلن عطرها فورا عن مَجيئها، سارت بخطوات واثقة؛ لا تعبأ بتلك العيون الفاحصة؛ حتى استقرت فى مقعدها إلى جوارى.
انتظم الأوتوبيس فى سيره، راوَد ذهنى حدَثٌ كان قد تأثَّر به وجدانى خلال تحقيق من التحقيقات، سحبتُ من حقيبتى قلمًا وورقًا؛ ورحتُ أدوِّنُ انطباعاتى، لم يقطع علىَّ استرسالى فيما أكتبُ؛ سوى حركة طفلتها التى اتخذت من رجليها مقعدا، ولكن سرعان ما غلب الطفلة النُّعاس فنامت، تداعت الأفكار إلى ذهنى، واستطردتُ فى الكتابة.
تلك الانطباعات كانت حول قصة أرملة شابة ثريَّة؛ رحلَ عنها زوجها وتركها هى وابنها الصغير نهبًا لطمع شقيقه؛ الذى بلغت مضايقاته لها الذُّرى، وحين ألقت أمامها الأقدار بصديق، كان يواسيها ويُسرِّى عنها؛ استأجر ذلك الشقيق من يضربه فقتَله، قاصدًا بذلك كشف علاقتها به والتلويح بسوء مسلكها؛ ومن ثم تنحيتها عن الوصاية؛ وفرْض نفسه على المال، وما أن سيق إلى ساحة الاتهام حتى انكشف المستور.
كان فحوى الحكاية؛ أنَّ كنوز الدنيا لا تساوى شيئا أمام لحظة من الراحة والأمان؛ التى ينشدها كل البشر، وأنَّ من كانت نفسه موتورة مذعورة؛ فلن يُعوِِّضه مال الدنيا عن فُقدانه الطمأنينة والراحة والأمان.
فرغتُ من الكتابة، مالت جارتى الأنيقة برأسها للأمام تفتح حقيبة يدها، دمعات ساخنات تستقر على يدى المجاورة لها، رمقتُها بلحظي؛ مدَّت يدها فى صمتٍ تطلب بإيماءة من رأسها أن أعطيها الورق، ناولتها إياه من دون تعليق، أدركتُ أنها وهى تسند رأسها إلى ظهر مقعدها؛ كانت تُلقى بنظرها تتابع ما أخط أولاً بأول، عاشَت معى أحداث الحكاية وتفاعَلَت معها؛ فغلبتها دموعها.
قرأتْ ما كتبتُ ومدَّت به يدًا؛ وجفَّفتْ بالأخرى دموعًا جديدة كانت تترقرق فى عينيها، وهمَستْ بصوتٍ حزين خفيض :
- هل تعرفنى؟
اعتذرتُ لها عن استدرار ما كتبْتُ لشجونها ودموعها؛ هزَّت رأسها شاكرة وناولتنى الورق، ثم رفعَت يدها وأزاحت عن عينيها دمعات أخرى، وأضافت بذات الصوت الهامس الحزين :
- إنها قصتى !
تملَّكنى الفضول لمعرفة حكايتها، فاعتذرتُ لها من جديد؛ كى أفتح أمامها الطريق لاستكمال حديثها، قالت وبحَّة حزن قد ألمَّت بصوتها :
- قصةُ هذه الأرملة قصتى، ولكن الذى عذَّبنى وأدمى قلبى من أجل مثل هذا المال الكثير؛ لم يكن أهل زوجى مثلها، وإنما أهلى أنا، أبى وأمى وإخوتى، طمعوا فيما تركَ زوجى من خير وفير، لم يقتنع أحدهم؛ أنِّى أمينة عليه لصغيرين قد تركهما أمانة فى عُنقي.
ثم تحشرَج صوتها ببكاء مكتوم وأردفَتْ:
- كان لى ولد يكبُر هذه الطفلة بعام واحد، وذات مساء تشاجر معى أخى بسبب هذا المال، وقذف نحوى "بفازة" استقرت فى رأس ولدى؛ سقطَ صريعًا مُضرجُا فى دمائه؛ ودخل أخى السجن، لو كنتُ أعلم بما يُخبِّئه القدَر؛ لفَديتُ ولدِى ليس بمالى فقط، بل بكل كنوز الدنيا لو كنتُ أملكها.
عادت برأسها إلى ظهر مقعدها، أغمضَت عينيها؛ سحَبَتْ نفَسًا عميقا أخرجته زفرة مكتومة وأمسَكتْ عن الكلام.
تذكرتُ صورتها وهى تطل علينا بتلك الأناقة والبهاء، ولم تغادر عيناى صورتها وهى تئنُّ فى صمتٍ تحكى وجيعتها المدفونة فى أعماقها.
أثارت حكايتها شجوني، تأمَّلتُ وتألّمت، تأملتُ ما كان فى البدء ظاهرًا، وتألمتُ لمرارة ذلك الذى تُخفيه تلك المظاهر.
كل ما فيها كان ينطق بالأناقة والفخامة والثَّراء، يُوحى مظهرها بكل مباهج الحياة، حتى صمتُها المهموم تخالُه كبرياء، لا يُساور من يرها مجرَّد شكٍ فى أنها ذاقت يومًا طعم الهموم أو الآلام، أو أنَّ هدوء الملامح وطيب المُحيَّا تكسوه هكذا أثواب الأحزان.
إننا نظلمُ الناس إنْ أخذناهم بمظاهرهم، فإن أحزان القلوب قد لا تنبئ عنها المظاهر!
=======
بهاء المري
ما أن وطئِت قدماها ذلك الأوتوبيس الفاخر؛ حتى أعلن عطرها فورا عن مَجيئها، سارت بخطوات واثقة؛ لا تعبأ بتلك العيون الفاحصة؛ حتى استقرت فى مقعدها إلى جوارى.
انتظم الأوتوبيس فى سيره، راوَد ذهنى حدَثٌ كان قد تأثَّر به وجدانى خلال تحقيق من التحقيقات، سحبتُ من حقيبتى قلمًا وورقًا؛ ورحتُ أدوِّنُ انطباعاتى، لم يقطع علىَّ استرسالى فيما أكتبُ؛ سوى حركة طفلتها التى اتخذت من رجليها مقعدا، ولكن سرعان ما غلب الطفلة النُّعاس فنامت، تداعت الأفكار إلى ذهنى، واستطردتُ فى الكتابة.
تلك الانطباعات كانت حول قصة أرملة شابة ثريَّة؛ رحلَ عنها زوجها وتركها هى وابنها الصغير نهبًا لطمع شقيقه؛ الذى بلغت مضايقاته لها الذُّرى، وحين ألقت أمامها الأقدار بصديق، كان يواسيها ويُسرِّى عنها؛ استأجر ذلك الشقيق من يضربه فقتَله، قاصدًا بذلك كشف علاقتها به والتلويح بسوء مسلكها؛ ومن ثم تنحيتها عن الوصاية؛ وفرْض نفسه على المال، وما أن سيق إلى ساحة الاتهام حتى انكشف المستور.
كان فحوى الحكاية؛ أنَّ كنوز الدنيا لا تساوى شيئا أمام لحظة من الراحة والأمان؛ التى ينشدها كل البشر، وأنَّ من كانت نفسه موتورة مذعورة؛ فلن يُعوِِّضه مال الدنيا عن فُقدانه الطمأنينة والراحة والأمان.
فرغتُ من الكتابة، مالت جارتى الأنيقة برأسها للأمام تفتح حقيبة يدها، دمعات ساخنات تستقر على يدى المجاورة لها، رمقتُها بلحظي؛ مدَّت يدها فى صمتٍ تطلب بإيماءة من رأسها أن أعطيها الورق، ناولتها إياه من دون تعليق، أدركتُ أنها وهى تسند رأسها إلى ظهر مقعدها؛ كانت تُلقى بنظرها تتابع ما أخط أولاً بأول، عاشَت معى أحداث الحكاية وتفاعَلَت معها؛ فغلبتها دموعها.
قرأتْ ما كتبتُ ومدَّت به يدًا؛ وجفَّفتْ بالأخرى دموعًا جديدة كانت تترقرق فى عينيها، وهمَستْ بصوتٍ حزين خفيض :
- هل تعرفنى؟
اعتذرتُ لها عن استدرار ما كتبْتُ لشجونها ودموعها؛ هزَّت رأسها شاكرة وناولتنى الورق، ثم رفعَت يدها وأزاحت عن عينيها دمعات أخرى، وأضافت بذات الصوت الهامس الحزين :
- إنها قصتى !
تملَّكنى الفضول لمعرفة حكايتها، فاعتذرتُ لها من جديد؛ كى أفتح أمامها الطريق لاستكمال حديثها، قالت وبحَّة حزن قد ألمَّت بصوتها :
- قصةُ هذه الأرملة قصتى، ولكن الذى عذَّبنى وأدمى قلبى من أجل مثل هذا المال الكثير؛ لم يكن أهل زوجى مثلها، وإنما أهلى أنا، أبى وأمى وإخوتى، طمعوا فيما تركَ زوجى من خير وفير، لم يقتنع أحدهم؛ أنِّى أمينة عليه لصغيرين قد تركهما أمانة فى عُنقي.
ثم تحشرَج صوتها ببكاء مكتوم وأردفَتْ:
- كان لى ولد يكبُر هذه الطفلة بعام واحد، وذات مساء تشاجر معى أخى بسبب هذا المال، وقذف نحوى "بفازة" استقرت فى رأس ولدى؛ سقطَ صريعًا مُضرجُا فى دمائه؛ ودخل أخى السجن، لو كنتُ أعلم بما يُخبِّئه القدَر؛ لفَديتُ ولدِى ليس بمالى فقط، بل بكل كنوز الدنيا لو كنتُ أملكها.
عادت برأسها إلى ظهر مقعدها، أغمضَت عينيها؛ سحَبَتْ نفَسًا عميقا أخرجته زفرة مكتومة وأمسَكتْ عن الكلام.
تذكرتُ صورتها وهى تطل علينا بتلك الأناقة والبهاء، ولم تغادر عيناى صورتها وهى تئنُّ فى صمتٍ تحكى وجيعتها المدفونة فى أعماقها.
أثارت حكايتها شجوني، تأمَّلتُ وتألّمت، تأملتُ ما كان فى البدء ظاهرًا، وتألمتُ لمرارة ذلك الذى تُخفيه تلك المظاهر.
كل ما فيها كان ينطق بالأناقة والفخامة والثَّراء، يُوحى مظهرها بكل مباهج الحياة، حتى صمتُها المهموم تخالُه كبرياء، لا يُساور من يرها مجرَّد شكٍ فى أنها ذاقت يومًا طعم الهموم أو الآلام، أو أنَّ هدوء الملامح وطيب المُحيَّا تكسوه هكذا أثواب الأحزان.
إننا نظلمُ الناس إنْ أخذناهم بمظاهرهم، فإن أحزان القلوب قد لا تنبئ عنها المظاهر!
=======
بهاء المري