أمل الكردفاني- رجل من العالم السفلي- قصة

هذه هي اللحظة التي أدركت فيها أن حياتي لم تكن تهم أحداً، كلهم قذفوا وجهي بالتراب، ثم رسموا عبوساً كاذباً في وجوههم وهم يغادرون مقبرتي، قبل أن يعودوا لحياتهم وكأن شيئاً لم يحدث. إنها قصة سخيفة، مستهلكة، ولذلك سأتجاوزها بحزن، لأتحدث عن فلسفتي القسرية. وهي قسرية لأنها فلسفة فُرضت عليَّ فرضاً. فلم اختر أبداً أن أكون هكذا. كائناً بلا ظل، وبلا معنى. كل شيء فُرِض عليَّ في حياتي السابقة كما أسلفت. إن تكرار الكلام سمة من سمات العالم السفلي. وذلك لأن الوقت هنا طويل جداً، كما أننا نملك خاصية تسريع الأحداث في العالم العلوي، تستطيع أن ترى مستقبل أبناءك وتعرف نهاية التاريخ حقاً وليس كساخافات فوكاياما..لم ينتصر أي اتجاه أو مذهب بل كل الآيدولوجيات انهزمت. هنا في العالم السفلي، عالم الحقيقة، فالحقيقة دائما تحت الأرض وليست فوق السماء، غير أن الأحياء الحمقى دائماً ما يعلقون أوهامهم على السماء. رغم أنهم لا يبذرون البذور إلا تحت أقدامهم ليأكلوا. لم أكن بالأعلى مختلفاً عنهم. بل كنت كما قلت كائناً تافهاً، بلا معنى. ماذا كنت؟ أنا حتى لا أتذكر جيداً، فلا شيء يمكن أن أتذكره، لا شيء يستحق أن يلتصق بالذاكرة. كل ما أتذكره أنني كنت تاجر دسائس. نعم، أو شيء من هذا القبيل. كنت أبيع الدسائس. هذه كانت مهنتي. كيف توقع بعدوك بعد أن تسدد له ضربة قاضية. لكن المسألة لم تكن بتلك البساطة. في الحقيقة لقد إلتقيت بأشخاص طيبين جداً، كانوا يهرعون إليَّ لأقدم لهم خدماتي. كانوا حملاناً يتعرضون لشراسة الذئاب. يأتونني باكين يرجون مساعدتي لكي أنقذهم. فأدرس حالتهم دراسة مستفيضة ثم أرسم لهم خطة الإجهاز على العدو. تلك المرأة التي كانت تعمل موظفة، وهي تتعرض لخباثة موظفتين أخرتين، وكان المدير يعينهما على خبثهما لأنه كان موعوداً من كلتيهما ببعض العلاقات الآثمة. جاءتني الموظفة باكية، فوضعت لها خطة أوقعت بالرجل والمرأتين. لقد أدخلتهم الثلاثة إلى السجن بفضيحة ممارسة جنسية ثلاثية. وتم ترقية موظفتي المسكينة كمديرة للهيئة، ونلت أنا بعض المال. لقد أضطرت لبيع سيارتها لتسدد أتعابي. هناك قصص أخرى، لكنني لا أتذكرها بوضوح. ما أتذكره هو أن بعضها انتهى بالقتل. لذلك لم أعش طويلاً لأن قلبي تعب من الشعور المستمر بالذنب...وحين مت..ارتاح الجميع على ما يبدو، فلقد كنت أملك أسرارهم جميعاً. لا أعرف إن كنت شيطاناً أم ملاكاً، فلقد ساعدت الضعفاء قليلي الحيلة الذين لم يجربوا الخبث من قبل. لقد قال ماكبث لزوجته حين تعبا بأن تعبهما ناتج عن حداثة عهدهما بالخيانة. أو ربما حداثة عهدهم بالشر. لكن هل كان ماكبث وزوجته شريرين؟ لست متأكداً فحتى دانكان لم يكن سوى نتاج خيانة سابقة. إن كل لقمة نبتلعها نسرقها من فم إنسان آخر. وهكذا تبني الحكومات سياساتها تجاه حكومات الدول الأخرى والشعوب تجاه الشعوب الأخرى. ولذلك فنحن كشعوب لسنا سوى عصافير تأكل من فم العصفورة الأم التي تسرق الديدان الصغيرة من أمهاتها. فلماذا نشعر نحن البشر بالذنب حينما نطبق ما فرضته علينا الطبيعة من قوانين.
لا أعرف إجابة لذلك، لكنني غالباً ما كنت أعتزل في مكتبي، وأجلس لساعات طوال وأنا مكفهر الوجه مهموم الفؤاد بضحاياي. لم أكن شخصاً مهماً، لذلك كان عملي كتاجر دسائس يشعرني بأهميتي؛ فكم من زعماء السياسة لجأوا إليَّ لكي أحيك لهم الدسائس ضد معارضيهم. لقد دفعوا لي أموالاً طائلة، وتغنجت في النعيم. لكن الأهم أنني عرفت كل خبايا وأسرار الدولة. وهكذا أخذت أبيع كل المعلومات لأعداء الدولة، ترقيت لمستوى أعلى، حيث عهد لي بتجنيد الزعماء السياسيين الكبار. لقد تحول الشعب كله لجواسيس ضد بعضه البعض. كنت أوزع الأوامر عليهم واحداً واحداً، ثم أجلس وأشاهد نتائج أوامري في التلفاز. رأيت المشانق، ورأيت الحروب، ورأيت السجون، والموت من الجوع والمرض، ورأيت الحمقى يرفلون في الغنى، والأذكياء يفرون، والشعوب البلهاء ترقص كفراشات النار حول مهلكها. ثقل قلبي من الشعور بالذنب، فقررت الإنتحار. قررت الهروب إلى الصحراء وذبحت نفسي هناك. ولا أعرف كيف وجدوا جثتي. لكنهم كانوا فرحين جداً رغم أنهم كانوا يرسمون على وجوههم ملامح حزن مزيفة. لقد ماتت أسرارهم معي. كنت أعرف أنهم فرحين، كما كنت أعرف أنهم لن يتصوروا أبداً أنني سأمارس مهنتي حتى بعد موتي. ففي العاشرة مساء، تحلق الشعب كله أمام التلفاز، كانت إحدى الفضائيات الأجنبية، تنقل تسجيلات حوارية معي حول كل تلك الأسرار. لقد كشفتهم كلهم. إن اربعين مليون مواطن باستثناء الأطفال والمعاقين والعجزة، كانت معلوماتهم منشورة على الملأ. لقد سمعوا أسماءهم جميعاً، وكل الدسائس التي حاكوها لبعضهم البعض. استمرت الحلقات لمدة ستة أشهر. غير أنهم جميعاً فضلوا الصمت. لم يحاولوا لوم بعضهم البعض، فكلهم مجرمون، وكلهم في الخسة سواء. الشيء الوحيد الذي حدث هو أنهم عانوا لمدة ستة أشهر من الشعور بالغم الأسود. وبعد ذلك عادوا يمارسون حياتهم الطبيعية ولكن بصمت مطبق. لم يستطع أياً منهم أن يبصق في وجه الآخر. كانوا عراة تماماً من ذلك الزيف الذي عاشوا فيه طوال حياتهم. لقد تحرروا.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى