بكيت وأنا أكتب هذه القصة، وأبكي كلما قرأتها:
مصطفى نصر
كانتا تجلسان في الطرقة الطويلة الضيقة لبيت جدتي، تمدان ساقيهما وتستندان على الحائط وتغنيان: " شرشر حليمة بان ".وباقي الفتيات يجلسن مثلهن ملتصقات بالحائط، ويرددن عليهما.
لا أذكر الآن ما هي المناسبة،ربما قرب موعد زواج خالي.
تسكن فوزية فوق سطح البيت المجاور لبيت جدتي، أمها بيضاء وجميلة، وصوتها مرتفع نسمعه من حجرة جدتي معظم الوقت، و" الشامية " تسكن البيت المقابل.هما صديقتان، تتقابلان كثيرا، تذهبان لشراء لوازم اسرتيهما من دكان حسني البقال، أو من السوق القريب. اشتهرتا بإجادة غناء الأفراح. كلما اقترب موعد زفاف تدعوهما الأسر ليغنيان في الحجرات، أو في دخلة البيوت مع باقي فتيات الحارة.
كنت مهتما بأغانيهما التي اسمعها لأول مرة.ولكنني لم استطع الاقتراب منهما، أتابعهما من بعيد، كانتا في الرابعة عشر تقريبا ودخلتا عالم الأنوثة. وأنا أكبر منهما بقليل، ولو سألتهما عما يغنيان سيظنان أنني أرغب فيهما، أو في واحدة منهما.
" شرشر حليمة بان "،
تجلس زوجة خالي، تلصق ظهرها بحائط الطرقة، وتشد ثوبها لتخفي ساقيها وتبتسم في حياء، فباقي كلمات الأغنية تؤكد مقصدهما من هذا الـذي بان.
شقيق فوزية؛ صديقي، أتشاجر معه كثيرا وفي كل مرة أغلبه، لكنه صديقي، والده كان يستأجر دكانا في آخر الحارة التي تلي حارة جدتي، بابه على الشارع العمومي، كان يصنع فيه الحلاوة العسلية.يدق مسمارا كبيرا في الحائط، ويشد الحلوي إلى أن تلين. وعند المغرب، يغلق باب دكانه الخشبي الكبير، ويحوله إلى أراجوز. لكنه استأجر دكانا في مواجهة حارة جدتي وحوله إلى قهوة.
والد صديقي رجل نزهي، يأخذ أسرته: زوجته البيضاء التي تميل للامتلاء وباقي أسرته، ويدخل بهم سينما الدورادو في محطة مصر، ويشتري لهم قازوزة وسندوتشات في الاستراحة. لكنه لا يغلق القهوة، يتركها لمساعده إلى أن يعود من السينما.
للقهوة راديو كبير يضعه في المقدمة، كنا نقف بجواره لسماع تمثيلية سمارة وتوحة وحسن ونعيمة، وبرنامج ساعة لقلبك.فبيوتنا ليس فيها راديوهات ولا كهرباء، لكنه كثيرا ما يغلق الراديو قائلا: عندنا ميت في الصعيد.
ويطردنا من أمام القهوة.وذهبت مع ابنه – صديقي – لشراء قطعة أفيون من " أم سلامة " التي تسكن البيت المجاور لبيتهم، نزلنا درجات من الطوب الأبيض الكبير، ودخلنا البيت المظلم، وأم سلامة تجلس على الكنبة الكبيرة بجسدها الكبير جدا، تعرفني المرأة جيدا، وتعرف جدتي. أعطاها صديقي النقود، فأمسكت سروالا كبيرا من العبك، كان موضوعا في اهمال على الكنبة، وشدت "الاستك " وقطعت الافيون وأعطته له.ثم أعادت قطعة الأفيون الكبيرة إلى مكانها.
***
وتغني فوزية والشامية أغنية أخرى:
البنت تقول لأبوها ما نمشي وحدي عايزه جدع حليوه يسند لي ضهري.
وتصفقن الفتيات، ويضحكن.
" الشامية " أقل طولا من فوزية، وأكثر حياءً وهدوءً.مثل أمها التي قلما نسمع صوتها وأبوها عثمان طويل وعريض، وفي الحفلات التي تقام في الشوارع يكون هو البطل، يرمي طاقيته على العالمة التي ترقص أو تغني وهو يصيح، فتمسكها العالمة ولا تعيدها إليه إلا إذا صعد إلى المسرح وغني ورقص معها ودفع لها النقطة، وزوجته تنظر من دخلة البيت مبتسمة، تقولن النسوة لها: الحقي جوزك.
فتقول: خليه يعمل إللي هو عايزه.
تسكن أم الشامية في بيت مثل معظم بيوت الحارة، دور واحد، ولابد من نزول عدة درجات مصنوعة من الطوب الأبيض الكبير، تسكن حماتها – أم عثمان – في حجرة تطل على الحارة وهي في الداخل.
أم عثمان متزوجة من شقيق زوج ابنتها التي تسكن بعيدا، هو أصغر منها بكثير، لذا تبدي اهتماما بزينتها، تشد " المدورة " الملونة حول جبهتها.
كانت تناديني لكي اشتري لها أشياء من البقال، فأمد لها ما طلبت دون أن أنزل، فتحس بخجلي، فتسألني: اتطاهرت؟
فأجيب خجلا : أيوه.
فتضحك، ثم تطلب مني أن انتظر.تعطيني لمبة كهرباء محروقة من التي يجدونها بكثرة في الزبالة، تقول: خد أعملها سينما.
هي كنز بالنسبة لي، اشحت علبة سجائر كبيرة من حسني البقال، الرجل يعرف طلبي عندما يري اللمبة. يساعدني زملائي في عمل السينما، أدق بحرص شديد على مسامري اللمبة، لكي يخرج ما في مدخلها دون أن تكسر، ونضع ماء فيها، ثم نضعها في منتصف علبة السجائر الكبيرة، ونسندها بغطاء العلبة، ثم نفتح فتحة لننظر منها، ونضع الشريط السينمائي في الناحية الأخري، وننظر فنري المنظر مجسما.
***
وتغني الفتاتان :
روَّح يا بتاع " الويكة " وأمي عامله فطير
وتجيبنها باقي البنات :
يا خوي الناموس قرصني هاتلي عنب وتين
كنتُ سعيدا بهذه الصداقة الجميلة، كثيرا ما أراهما معا، يتضاحكان، ويتحدثان، ويجريان في طريقهما إلى الدكاكين التي سيشتريان منها، لكن مرضت البنت الشامية، هكذا تحدثت الحارة، والدها عثمان حزن عليها، فلم يعد يرمي طاقيته على العوالم، وجلست أمها بجوار فراشها، ولم تعد جدتها تشد المدورة الملونة حول جبهتها؛ ليحس زوجها الشاب أنها صغيرة، ولم تعد تضحك..
ماتت " الشامية "، وابتعدت فوزية عن الغناء، ظلت في البيت إلى أن جاءها عريس طالبا الزواج، وأرادت أمها أن تأتي بالبنات ليغنين قبل موعد الزفاف – كالعادة – لكن فوزية رفضت باصرار، فقد تذكرت صديقتها الشامية التي كانت تغني معها.
مصطفى نصر
كانتا تجلسان في الطرقة الطويلة الضيقة لبيت جدتي، تمدان ساقيهما وتستندان على الحائط وتغنيان: " شرشر حليمة بان ".وباقي الفتيات يجلسن مثلهن ملتصقات بالحائط، ويرددن عليهما.
لا أذكر الآن ما هي المناسبة،ربما قرب موعد زواج خالي.
تسكن فوزية فوق سطح البيت المجاور لبيت جدتي، أمها بيضاء وجميلة، وصوتها مرتفع نسمعه من حجرة جدتي معظم الوقت، و" الشامية " تسكن البيت المقابل.هما صديقتان، تتقابلان كثيرا، تذهبان لشراء لوازم اسرتيهما من دكان حسني البقال، أو من السوق القريب. اشتهرتا بإجادة غناء الأفراح. كلما اقترب موعد زفاف تدعوهما الأسر ليغنيان في الحجرات، أو في دخلة البيوت مع باقي فتيات الحارة.
كنت مهتما بأغانيهما التي اسمعها لأول مرة.ولكنني لم استطع الاقتراب منهما، أتابعهما من بعيد، كانتا في الرابعة عشر تقريبا ودخلتا عالم الأنوثة. وأنا أكبر منهما بقليل، ولو سألتهما عما يغنيان سيظنان أنني أرغب فيهما، أو في واحدة منهما.
" شرشر حليمة بان "،
تجلس زوجة خالي، تلصق ظهرها بحائط الطرقة، وتشد ثوبها لتخفي ساقيها وتبتسم في حياء، فباقي كلمات الأغنية تؤكد مقصدهما من هذا الـذي بان.
شقيق فوزية؛ صديقي، أتشاجر معه كثيرا وفي كل مرة أغلبه، لكنه صديقي، والده كان يستأجر دكانا في آخر الحارة التي تلي حارة جدتي، بابه على الشارع العمومي، كان يصنع فيه الحلاوة العسلية.يدق مسمارا كبيرا في الحائط، ويشد الحلوي إلى أن تلين. وعند المغرب، يغلق باب دكانه الخشبي الكبير، ويحوله إلى أراجوز. لكنه استأجر دكانا في مواجهة حارة جدتي وحوله إلى قهوة.
والد صديقي رجل نزهي، يأخذ أسرته: زوجته البيضاء التي تميل للامتلاء وباقي أسرته، ويدخل بهم سينما الدورادو في محطة مصر، ويشتري لهم قازوزة وسندوتشات في الاستراحة. لكنه لا يغلق القهوة، يتركها لمساعده إلى أن يعود من السينما.
للقهوة راديو كبير يضعه في المقدمة، كنا نقف بجواره لسماع تمثيلية سمارة وتوحة وحسن ونعيمة، وبرنامج ساعة لقلبك.فبيوتنا ليس فيها راديوهات ولا كهرباء، لكنه كثيرا ما يغلق الراديو قائلا: عندنا ميت في الصعيد.
ويطردنا من أمام القهوة.وذهبت مع ابنه – صديقي – لشراء قطعة أفيون من " أم سلامة " التي تسكن البيت المجاور لبيتهم، نزلنا درجات من الطوب الأبيض الكبير، ودخلنا البيت المظلم، وأم سلامة تجلس على الكنبة الكبيرة بجسدها الكبير جدا، تعرفني المرأة جيدا، وتعرف جدتي. أعطاها صديقي النقود، فأمسكت سروالا كبيرا من العبك، كان موضوعا في اهمال على الكنبة، وشدت "الاستك " وقطعت الافيون وأعطته له.ثم أعادت قطعة الأفيون الكبيرة إلى مكانها.
***
وتغني فوزية والشامية أغنية أخرى:
البنت تقول لأبوها ما نمشي وحدي عايزه جدع حليوه يسند لي ضهري.
وتصفقن الفتيات، ويضحكن.
" الشامية " أقل طولا من فوزية، وأكثر حياءً وهدوءً.مثل أمها التي قلما نسمع صوتها وأبوها عثمان طويل وعريض، وفي الحفلات التي تقام في الشوارع يكون هو البطل، يرمي طاقيته على العالمة التي ترقص أو تغني وهو يصيح، فتمسكها العالمة ولا تعيدها إليه إلا إذا صعد إلى المسرح وغني ورقص معها ودفع لها النقطة، وزوجته تنظر من دخلة البيت مبتسمة، تقولن النسوة لها: الحقي جوزك.
فتقول: خليه يعمل إللي هو عايزه.
تسكن أم الشامية في بيت مثل معظم بيوت الحارة، دور واحد، ولابد من نزول عدة درجات مصنوعة من الطوب الأبيض الكبير، تسكن حماتها – أم عثمان – في حجرة تطل على الحارة وهي في الداخل.
أم عثمان متزوجة من شقيق زوج ابنتها التي تسكن بعيدا، هو أصغر منها بكثير، لذا تبدي اهتماما بزينتها، تشد " المدورة " الملونة حول جبهتها.
كانت تناديني لكي اشتري لها أشياء من البقال، فأمد لها ما طلبت دون أن أنزل، فتحس بخجلي، فتسألني: اتطاهرت؟
فأجيب خجلا : أيوه.
فتضحك، ثم تطلب مني أن انتظر.تعطيني لمبة كهرباء محروقة من التي يجدونها بكثرة في الزبالة، تقول: خد أعملها سينما.
هي كنز بالنسبة لي، اشحت علبة سجائر كبيرة من حسني البقال، الرجل يعرف طلبي عندما يري اللمبة. يساعدني زملائي في عمل السينما، أدق بحرص شديد على مسامري اللمبة، لكي يخرج ما في مدخلها دون أن تكسر، ونضع ماء فيها، ثم نضعها في منتصف علبة السجائر الكبيرة، ونسندها بغطاء العلبة، ثم نفتح فتحة لننظر منها، ونضع الشريط السينمائي في الناحية الأخري، وننظر فنري المنظر مجسما.
***
وتغني الفتاتان :
روَّح يا بتاع " الويكة " وأمي عامله فطير
وتجيبنها باقي البنات :
يا خوي الناموس قرصني هاتلي عنب وتين
كنتُ سعيدا بهذه الصداقة الجميلة، كثيرا ما أراهما معا، يتضاحكان، ويتحدثان، ويجريان في طريقهما إلى الدكاكين التي سيشتريان منها، لكن مرضت البنت الشامية، هكذا تحدثت الحارة، والدها عثمان حزن عليها، فلم يعد يرمي طاقيته على العوالم، وجلست أمها بجوار فراشها، ولم تعد جدتها تشد المدورة الملونة حول جبهتها؛ ليحس زوجها الشاب أنها صغيرة، ولم تعد تضحك..
ماتت " الشامية "، وابتعدت فوزية عن الغناء، ظلت في البيت إلى أن جاءها عريس طالبا الزواج، وأرادت أمها أن تأتي بالبنات ليغنين قبل موعد الزفاف – كالعادة – لكن فوزية رفضت باصرار، فقد تذكرت صديقتها الشامية التي كانت تغني معها.