كان يعِدُّ لنفسه القهوة عندما سمع ثلاث ضربات سريعة متتالية على باب القصر. أطفأ موقد الغاز، سار بخطى واثقة نحو الباب، وحدّث نفسه: مَن يكون الطارق يا ترى؟ زوجتي ستبيت الليلة عند والدتها المريضة، وابني في جامعته، والأصدقاء لا يأتون لزيارتي في القصر إلا بترتيب مسبق للزيارة. تابع سيره حتى وصل الباب، فتحه، جحظت عيناه، فتح فاه، لكنه تمكَّن من أن يكتم شهقة كادت أن تنفلت من جوفه عندما تبيَّنت له هوية طارق بابه في ليلة شديدة البرودة من ليالي كانون الأول، وقد احتجب فيها القمر. أرجعَ رأسه الى الوراء قليلا، وهو لا يزال يمسك بيده اليمنى مقبض الباب. لم يمهله الزائر حتى يأذن له بالدخول، دفعه بحركة من جسده غير محسوبة، فتجاوزه وسار نحو الداخل. تبعه حَكَم وهو يمطره بالأسئلة:
- ما الذي أتى بكَ الى هنا يا شعبان؟
- ألا تعرف أنني لا أستقبل زبائني هنا؟
- ما الأمر العاجل الذي أجبرك على القدوم في هذه الساعة من الليل والبرد يقص المسمار في الخارج؟
لم يجبه شعبان على أسئلته، ربما لم يسمعه لتركيزه بحديث ذلك الآخر وإنصاته له، ذلك الآخر الذي يحدّثه منذ مدة، منذ أن هجر النعاس وسادته، وعافت نفسه الأكل، ذلك الآخر الذي يحدث شعبان، ولا يسمعه أحد غيره. تابع شعبان سيره حتى وصل الأريكة الفخمة التي تتوسط قاعة القصر، ورمى بجسده المنهك عليها. كان التوتر باديًا على شعبان مثلما كان القلق باديًا على حكَم. تمالك حكَم نفسه وجلس على مقعد مقابل شعبان، صوَّب بصره نحو عينيّ شعبان وعاد يسأله: ما الذي أتى بكَ الى هنا؟ ألا تعرف أني لا أستقبل المرضى إلا في العيادة؟ ردّ عليه شعبان ولكن هذه المرة بجملٍ خالية من التأتأة خلافا لما عهده حكَم بحديث شعبان معه في الجلسات العلاجية:
- أنت طبيبي وعليك أن تستقبلني في أي وقتٍ وفي أي مكان. قال شعبان وأضاف:
- أنا أدفع لك المال لتحلّ أزمتي وتخلصني من الحالة التي أنا فيها. عليك أن تريحني من الوجع الذي أشعر به.
أدرك حكَم أن صوت ذلك الآخر قد تمكّن من شعبان، وعلا في داخله حتى قضَّ مضجعه وبات يلاحقه ليلا ونهارا، لقد نغَّص عليه حياته، وحرمه من متع الحياة الطبيعية. ومع وضع كهذا، قال حكم لنفسه، لا طائل من الجدال مع شعبان، بل يجب مداراته ومجاراته حتى لا يثور أو يأتي بسلوك لا تُحمد عواقبه.
- ماذا حدث لك يا شعبان! هيا أخبرني. سأله حكم بهدوء.
- لم أعد أحتمل يا دكتور، ذاك الصوت لا يفكُّ عن إزعاجي ولا يكفّ عن تهديدي بالقتل. يريدني أن أقتل، وإن لم أفعل، سيقتلني هو. قال شعبان محتدا.
جحظت عينا حكم مرة أخرى ورفع صوته سائلا شعبان وكأنه يقصد برفع صوته أن يُسمع صوت ذاك الآخر سؤاله:
- هل تناولت المهدئ الذي وصفته لك يا شعبان؟
- توقفت عن تناوله، لم يعد يسعفني. أجابه شعبان.
استشاط حكم غضبا وصرخ به:
- أخبرني كيف تفعل هذا دون استشارتي؟
انتفض شعبان ووقف قِبالة حكَم وراح هو الآخر يصرخ في وجه حكم قائلا له:
- لتعلم أني لست مجنونا. عليك أن تدرك أنت وأصدقاؤك وزوجتك وابنك أني لست مجنونا، هل تفهم؟ أنا لست مجنونا، لست مجنونا.
أستدار حكم ومشى باتجاه غرفة مكتبه بخطوات سريعة، وشعبان يتبعه وهو يردد بصوت عالٍ: قلت لك أنا لست مجنونا، لست مجنونا...
تناول حكَم حقيبته السوداء الموضوعة على طاولة مكتبه، تلك الحقيبة التي ترافقه ليس الى العيادة فقط، وإنما الى كل مكان يذهب إليه. فتحها بيدين مرتعشتين، أخرج منها حقنة وزجاجة صغيرة الحجم مملوءة بمادة شفافة مائعة، لا بد أنها نوع من المهدئات تعطي مفعولا أسرع من تلك التي على شكل أقراص، وهذا لا شكّ ما أراده حكم؛ أن يحقن شعبان في وريده حتى تسكن ثورته، ويخنق صوت ذاك الآخر الذي يحرضه على ارتكاب جريمة القتل. راح حكَم يسحب المادة الشفافة المائعة من الزجاجة بواسطة الحقنة، فثار شعبان أكثر وازدادت حدة ثورته عندما رأى الطبيب يملأ الحقنة بالسائل الشفاف ويتقدم نحوه. أخرج شعبان مسدسا كان قد وضعه في حزام سرواله وأسدل قميصه عليه ليخفيه، وأشهره في وجه حكم. ذعر حكَم، وتسارعت نبضات قلبه، لكن ذلك لم يردعه عن محاولة الوصول الى ذراع شعبان، والتحايل عليه لحقنه بالمهدئ ظانا أن شعبان أضعف من يُقْدم على فِعل القتل. راح يتقدم نحوه بهدوء، أو الأصح متظاهرا بذلك، ويطلب من شعبان بصوت خفيض أن يهدأ. لكن شعبان ظل مشهرًا المسدس الذي ترنّح بين يديه المرتجفتين تارة الى اليمين وأخرى الى الشمال كَثمِل العائد الى بيته من إحدى الحانات الليلية بعد أن أفرط بشرب الخمر. كان حكم يخطو ببطء نحو شعبان، وكان الأخير يخطو ببطء الى الخلف ويصرخ: لست مجنونا، قلت لك أنا لست مجنونا... ودوّى صوت طلقة في فضاء الغرفة واختلط بزمجرة الريح العاصفة التي راحت تخترق نافذة الغرفة وتتطيّر ستائرها.
*********************
- ما الذي أتى بكَ الى هنا يا شعبان؟
- ألا تعرف أنني لا أستقبل زبائني هنا؟
- ما الأمر العاجل الذي أجبرك على القدوم في هذه الساعة من الليل والبرد يقص المسمار في الخارج؟
لم يجبه شعبان على أسئلته، ربما لم يسمعه لتركيزه بحديث ذلك الآخر وإنصاته له، ذلك الآخر الذي يحدّثه منذ مدة، منذ أن هجر النعاس وسادته، وعافت نفسه الأكل، ذلك الآخر الذي يحدث شعبان، ولا يسمعه أحد غيره. تابع شعبان سيره حتى وصل الأريكة الفخمة التي تتوسط قاعة القصر، ورمى بجسده المنهك عليها. كان التوتر باديًا على شعبان مثلما كان القلق باديًا على حكَم. تمالك حكَم نفسه وجلس على مقعد مقابل شعبان، صوَّب بصره نحو عينيّ شعبان وعاد يسأله: ما الذي أتى بكَ الى هنا؟ ألا تعرف أني لا أستقبل المرضى إلا في العيادة؟ ردّ عليه شعبان ولكن هذه المرة بجملٍ خالية من التأتأة خلافا لما عهده حكَم بحديث شعبان معه في الجلسات العلاجية:
- أنت طبيبي وعليك أن تستقبلني في أي وقتٍ وفي أي مكان. قال شعبان وأضاف:
- أنا أدفع لك المال لتحلّ أزمتي وتخلصني من الحالة التي أنا فيها. عليك أن تريحني من الوجع الذي أشعر به.
أدرك حكَم أن صوت ذلك الآخر قد تمكّن من شعبان، وعلا في داخله حتى قضَّ مضجعه وبات يلاحقه ليلا ونهارا، لقد نغَّص عليه حياته، وحرمه من متع الحياة الطبيعية. ومع وضع كهذا، قال حكم لنفسه، لا طائل من الجدال مع شعبان، بل يجب مداراته ومجاراته حتى لا يثور أو يأتي بسلوك لا تُحمد عواقبه.
- ماذا حدث لك يا شعبان! هيا أخبرني. سأله حكم بهدوء.
- لم أعد أحتمل يا دكتور، ذاك الصوت لا يفكُّ عن إزعاجي ولا يكفّ عن تهديدي بالقتل. يريدني أن أقتل، وإن لم أفعل، سيقتلني هو. قال شعبان محتدا.
جحظت عينا حكم مرة أخرى ورفع صوته سائلا شعبان وكأنه يقصد برفع صوته أن يُسمع صوت ذاك الآخر سؤاله:
- هل تناولت المهدئ الذي وصفته لك يا شعبان؟
- توقفت عن تناوله، لم يعد يسعفني. أجابه شعبان.
استشاط حكم غضبا وصرخ به:
- أخبرني كيف تفعل هذا دون استشارتي؟
انتفض شعبان ووقف قِبالة حكَم وراح هو الآخر يصرخ في وجه حكم قائلا له:
- لتعلم أني لست مجنونا. عليك أن تدرك أنت وأصدقاؤك وزوجتك وابنك أني لست مجنونا، هل تفهم؟ أنا لست مجنونا، لست مجنونا.
أستدار حكم ومشى باتجاه غرفة مكتبه بخطوات سريعة، وشعبان يتبعه وهو يردد بصوت عالٍ: قلت لك أنا لست مجنونا، لست مجنونا...
تناول حكَم حقيبته السوداء الموضوعة على طاولة مكتبه، تلك الحقيبة التي ترافقه ليس الى العيادة فقط، وإنما الى كل مكان يذهب إليه. فتحها بيدين مرتعشتين، أخرج منها حقنة وزجاجة صغيرة الحجم مملوءة بمادة شفافة مائعة، لا بد أنها نوع من المهدئات تعطي مفعولا أسرع من تلك التي على شكل أقراص، وهذا لا شكّ ما أراده حكم؛ أن يحقن شعبان في وريده حتى تسكن ثورته، ويخنق صوت ذاك الآخر الذي يحرضه على ارتكاب جريمة القتل. راح حكَم يسحب المادة الشفافة المائعة من الزجاجة بواسطة الحقنة، فثار شعبان أكثر وازدادت حدة ثورته عندما رأى الطبيب يملأ الحقنة بالسائل الشفاف ويتقدم نحوه. أخرج شعبان مسدسا كان قد وضعه في حزام سرواله وأسدل قميصه عليه ليخفيه، وأشهره في وجه حكم. ذعر حكَم، وتسارعت نبضات قلبه، لكن ذلك لم يردعه عن محاولة الوصول الى ذراع شعبان، والتحايل عليه لحقنه بالمهدئ ظانا أن شعبان أضعف من يُقْدم على فِعل القتل. راح يتقدم نحوه بهدوء، أو الأصح متظاهرا بذلك، ويطلب من شعبان بصوت خفيض أن يهدأ. لكن شعبان ظل مشهرًا المسدس الذي ترنّح بين يديه المرتجفتين تارة الى اليمين وأخرى الى الشمال كَثمِل العائد الى بيته من إحدى الحانات الليلية بعد أن أفرط بشرب الخمر. كان حكم يخطو ببطء نحو شعبان، وكان الأخير يخطو ببطء الى الخلف ويصرخ: لست مجنونا، قلت لك أنا لست مجنونا... ودوّى صوت طلقة في فضاء الغرفة واختلط بزمجرة الريح العاصفة التي راحت تخترق نافذة الغرفة وتتطيّر ستائرها.
*********************