سعد محمود شبيب - واقع اغرب من الخيال . الحاج كساب، ومخبز الحي!!

عند طفولتي المبكرة، كنت ابغض إلى ابعد حد ارسالي من قبل اهلي الى أي مكان حتى لو كان سطح الدار ، او باب المنزل، وأفضّل ان اخرج واطوف مع صحبي دون قيود ، ثم اعود الى المنزل واقلد الكبار، فأكتب قصة قصيرة واعرضها على اهلي، ويكون مصيرها المحتوم هو الشارع وليس حتى سلة المهملات !!
غير اني كنت اجد لذة كبرى حين يتم ارسالي الى مخبز على مقربة أمتار من دارنا، ليس حبا بالرغيف او حرصا على غذاء العائلة، بل لنظافة هذا المكان وطهر انفس العاملين فيه، وحرصهم ومنذ ذلك الوقت على ارتداء الكفوف وصدريات العمل وكأنهم منتسبو مركز صحي يديرهم طبيب عظيم مثل سندرسن باشا!!
كان ما يحببني للمخبز، هو ذلك الرجل الشيبة الوقور الذي لا يكف عن تلاوة القرآن الكريم بصوت خاشع رخيم ، يزيد تلاوته لذة وجه نوراني قلما تجد له نظيرا، وجه يذكرني بجدي لابي الذي احببته بشكل لايوصف رحمه الله.
كان الشاب الشهم غالب هو صاحب المخبز، وكنت عادة ما انادي الشيخ الوقور بأبي غالب، فيتبسم بوجهي ويقول لي بصوت ابوي هاديء : لنعم ما كنّيتني يا ولدي.
وبالطبع لم أفهم معنى الكنية، ولا ادرك سر قوله ذلك لي، فظننته يدعو لي بالكنّة ، وحسبتها اخت الجنة الصغيرة !!
كان الحاج محبوبا من قبلنا نحن الاطفال جميعا، وهو يمتاز علاوة على تنظيمه طابور المشترين بحسن اشرافه على العمل، وكونه مقصدا لحل المشاكل التي تقع بين رجال الحي ، فيطيّب نفس هذا بحلو الكلام، وخاطر الاخر بما يحفظ من احاديث كريمة وحجج طيبة فلا يبقي خلافا بين اثنين، حتى عُدّ مختارا غير متوج ونبعا لا ينفذ للحكمة والفطنة وخوض تجارب الحياة العميقة، وهو من جاوز الخمسين عمرا قبل سنوات طوال.
لم أزل اذكر ذلك اليوم الغريب وحرب ايران تستقبل عامها الثالث ، يوم كان لهاث الورى ملفتا للنظر نحو المخبز، وتجمعهم حول صاحب العمل غالب وهو يضرب رأسه بشدة ويصرخ بصوت باك : قد مات المسكين ، لقد قتله من لا يخشى عذاب الله وهرب..
لم نفقه مما حدث شيئا، حتى حضرت على الفور سيارة إسعاف وسيارتا شرطة، قام افرادها بتفريق الجموع، وانطلقت الإسعاف بسرعة مهولة وهي تحمل الضحية، تاركة ضباط الشرطة وهم يحاولون تهدئة غالب والتحقيق في ملابسات الحادث.
كان ما حدث يعدّ صاعقة غير مسبوقة صدمت الجميع وأصابتهم بوجوم وحالة أشبه بالجنون ، صدمة اكبر من ظهور الشمس عند انتصاف الليل ، إذ تبين ومن خلال قصة غالب أن الرجل التقي الحكيم الحاج ربيع ، وَهذا هو اسمه، لا يمت له بصلة وانه قادم من مكان بعيد وفق ما ادعاه ، وقد ادى دور التقي ببراعة، والواقع انه كان يتحين الفرص ليسطو على الوارد الاسبوعي للمخبز ، وعلى النقود المخصصة للدقيق، فلم يكن أمامه عند صباح الواقعة من عائق سوى العامل المسؤول عن تخمير العجين، فقام بضربه على رأسه بآلة حادة قصد قتله ، وبعد إتمامه جريمة السرقة، هرب الى جهة مجهولة..
كان مما هوّن من وقع الكارثة هو بقاء العامل حيا ، وقيام الشرطة بجهود جبارة للبحث عن المجرم بغية سرعة إلقاء القبض عليه، ثم وعقب اسبوع من التحريات الدقيقة وجمع المعلومات ، وقع في كمين محكم للقوات الأمنية وهو يترنح سكيرا في احدى طرقات كوكوك ، حيث لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد !!
وقد بقي حينا يتناول قصة هذا المجرم حد تناسينا لوقائع حرب ايران، إذ تبين انه لا ينتمي إلى المحافظة التي ادعى قدومه منها، وان اسمه كساب وليس ربيعا ، وانه نصاب خطير وصاحب سوابق عديدة، فقدم للقضاء بتهمة الشروع بالقتل مع تهم أخرى كالسطو والاحتيال ، وقد حكم عليه بالاعدام شنقا حتى الموت لارتكابه جريمة السرقة في زمن الحرب، لكنه وتقديرا لكبر سنه ، خفف عليه الحكم الى السجن المؤبد.
وللحق، فلا أعلم ان كان كساب حيا او ميتا ، ولربما رحل في السجن الذي دخله عجوزا ضالا مجرما، لكن ما اعلمه ان قصة هذا النصاب لو حدثت اليوم فلن تصيبنا بالدهشة، ففي بلادنا ألف كساب والف نصاب، لم يبقوا حتى التراب الذي يرومون بيعه، وليس فينا من غالب واحد سوى اللصوص، لصوص السلطة وسارقي الشعب في وضح النهار، حيث يبكي الشعب كله، وتعجز الشمس عن تجفيف دموع المنكوبين.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى