الفصل الخامس عشر
استعمال التبغ والبن والحشيش والأفيون الخ
إن تحريم الخمر بأنواعها في التشريع الإسلامي، جعل المسلمين يلجئون إلى وسائل أخرى تسبب لهم نشوة خفيفة أو ضروباً مختلفة من الطرب الشديد
وأكثر هذه الوسائل انتشاراً في أغلب البلدان الإسلامية ما يسميه العرب (كيفاً) وهو تدخين التبغ، ولا يمكنني أن أترجم هذا اللفظ بأكثر من (لذة لطيفة). ويبدو أن هذا التبغ أدخل إلى تركيا وجزيرة العرب وغيرهما من بلاد الشرق قبيل القرن السابع عشر من الميلاد أي بعد سنوات قليلة من انتظام تصديره كسلعة تجارية من أمريكا إلى أوربا الغربية. وكثيراً ما أشتد الجدل حول إباحة التدخين للمسلم غير أن ذلك جائز الآن. وقد غير التبغ من طباع المدمنين عليه من الترك والعرب وجعلهم على الأخص أكثر كسلاً مما كانوا عليه قبلاً، فهم يضيعون في تدخين شبكهم وقتاً طويلاً. إلا أنه كان ذا أثر آخر حسن، فقد أغنى إلى قدر كبير عن استعمال النبيذ الذي يضر على الأقل بصحة سكان الأقاليم الحارة. وتقدم قصص ألف ليلة وليلة التي كتبت قبل استعمال التبغ في الشرق والتي تصور لنا بلا ريب عادات العرب وشمائلهم في ذلك الوقت تصويراً صادقاً، تقدم هذه القصص أدلة وافرة على أن المسلمين وقتئذ أو في العصر السابق مباشرة كانوا يشربون النبيذ علانية. ويمكن أن نقول دفاعاً عن الشبك - كما يستعمله العرب والترك - أن أنواع التبغ الخفيفة التي يستعملونها عادة لها تأثير لطيف. فهي تهدئ الجهاز العصبي وترهف الذهن بدلاً من أن تبِّلده. ولا شك أن الشبك يتضمن كثيراً من ملذات الشرقيين ويقدم إلى الفلاح منعشاً رخيصاً زهيداً ويبعده في الغالب عن الملذات المضرة
وتعتبر القهوة، نعيماً مماثلاً للتبغ وتؤخذ معه، وقد ساعدا على جعل النبيذ أقل انتشاراً ب العرب. ويؤيد هذا الافتراض لفظ القهوة وهي تسمية عربية قديمة للنبيذ. ويقال إن هذا الشراب المنعش اكتشفه في الجزء الأخير من القرن السابع للهجرة أو الثالث عشر من الميلاد متعبد عابد الشيخ عمر دفعه الاضطهاد إلى أحد جبال اليمن مع بعض أتباعه، وحمله الجوع إلى أن يشرب منقوع البن الذي ينبت هناك بالطبيعة. غير أن استعمال البن لم ينتشر في اليمن إلا بعد هذا الزمن بجيلين. وقد استوردت مصر البن بين سنتي 900 و910 هجرية أي في أواخر القرن الخامس عشر أو ابتداء القرن السادس عشر من الميلاد، أو قبل إدخال التبغ إلى الشرق بجيل تقريباً. وكان يشربه حينئذ في جامع الأزهر فقراء اليمن ومكة والمدينة الذين وجدوا فيه منشطاً لهم على العبادة والتسبيح، وكانوا يعكفون على شربه بكثرة. وأدخل البن إلى الآستانة بعد ذلك بنصف قرن تقريباً. وقد أثارت القهوة منازعات حادة بين المتعبدين والمتعلمين في جزيرة العرب ومصر والأستانة. فكان كثير من العلماء يؤكد أن القهوة لها خصائص مسكرة فتحرم على المسلمين بينما كان آخرون يقررون أن للقهوة فضائل، إحداها مقاومة النوم فتكون عوناً قوياً للأتقياء على عبادتهم ليلاً. وكثيراً ما كان بيع البن حينئذ يحرم ويحلل حسب رأي الحاكم. أما الآن فيقول جميع المسلمين تقريباً بحل القهوة، ويفرطون في استعمالها، وحتى الوهابيون الذين هم أشد المسلمين صرامة في الحكم على التبغ والتمسك بأحكام القرآن والحديث. وكانت القهوة تجهز قبلا من حب البن وقشره معاً. ولا تزال تعدّ في جزيرة العرب منهما معاً أو من القشر فقط. وتحّضر في البلاد الشرقية الأخرى من الحب وحده يقلى ويطحن أولاً فأولاً.
في القاهرة أكثر من ألف (قهوة). والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود. ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل، مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثاً وعرضها كذلك تقريباً. وفي داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة. ويرتاد المقاهي أفراد الطبقة السفلى والتجار وتزدحم بهم عصراً ومساءً. وهم يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه. ويقدم (القهوجي) القهوة بخمس فضة للفنجان الواحد أو عشر فضة (للبكرج) الصغير الذي يسع ثلاثة فناجين أو أربعة. ويحتفظ القهوجي أيضاً بعدد من آلات التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزه. وتستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذي يباع في بعض المقاهي. ويتردد الموسيقيون، والمحدثون على بعض المقاهي في الأعياد الدينية خاصة
(يتبع)
عدلي طاهر نور
مجلة الرسالة/العدد 506
مجلة الرسالة - العدد 506
بتاريخ: 15 - 03 - 1943
استعمال التبغ والبن والحشيش والأفيون الخ
إن تحريم الخمر بأنواعها في التشريع الإسلامي، جعل المسلمين يلجئون إلى وسائل أخرى تسبب لهم نشوة خفيفة أو ضروباً مختلفة من الطرب الشديد
وأكثر هذه الوسائل انتشاراً في أغلب البلدان الإسلامية ما يسميه العرب (كيفاً) وهو تدخين التبغ، ولا يمكنني أن أترجم هذا اللفظ بأكثر من (لذة لطيفة). ويبدو أن هذا التبغ أدخل إلى تركيا وجزيرة العرب وغيرهما من بلاد الشرق قبيل القرن السابع عشر من الميلاد أي بعد سنوات قليلة من انتظام تصديره كسلعة تجارية من أمريكا إلى أوربا الغربية. وكثيراً ما أشتد الجدل حول إباحة التدخين للمسلم غير أن ذلك جائز الآن. وقد غير التبغ من طباع المدمنين عليه من الترك والعرب وجعلهم على الأخص أكثر كسلاً مما كانوا عليه قبلاً، فهم يضيعون في تدخين شبكهم وقتاً طويلاً. إلا أنه كان ذا أثر آخر حسن، فقد أغنى إلى قدر كبير عن استعمال النبيذ الذي يضر على الأقل بصحة سكان الأقاليم الحارة. وتقدم قصص ألف ليلة وليلة التي كتبت قبل استعمال التبغ في الشرق والتي تصور لنا بلا ريب عادات العرب وشمائلهم في ذلك الوقت تصويراً صادقاً، تقدم هذه القصص أدلة وافرة على أن المسلمين وقتئذ أو في العصر السابق مباشرة كانوا يشربون النبيذ علانية. ويمكن أن نقول دفاعاً عن الشبك - كما يستعمله العرب والترك - أن أنواع التبغ الخفيفة التي يستعملونها عادة لها تأثير لطيف. فهي تهدئ الجهاز العصبي وترهف الذهن بدلاً من أن تبِّلده. ولا شك أن الشبك يتضمن كثيراً من ملذات الشرقيين ويقدم إلى الفلاح منعشاً رخيصاً زهيداً ويبعده في الغالب عن الملذات المضرة
وتعتبر القهوة، نعيماً مماثلاً للتبغ وتؤخذ معه، وقد ساعدا على جعل النبيذ أقل انتشاراً ب العرب. ويؤيد هذا الافتراض لفظ القهوة وهي تسمية عربية قديمة للنبيذ. ويقال إن هذا الشراب المنعش اكتشفه في الجزء الأخير من القرن السابع للهجرة أو الثالث عشر من الميلاد متعبد عابد الشيخ عمر دفعه الاضطهاد إلى أحد جبال اليمن مع بعض أتباعه، وحمله الجوع إلى أن يشرب منقوع البن الذي ينبت هناك بالطبيعة. غير أن استعمال البن لم ينتشر في اليمن إلا بعد هذا الزمن بجيلين. وقد استوردت مصر البن بين سنتي 900 و910 هجرية أي في أواخر القرن الخامس عشر أو ابتداء القرن السادس عشر من الميلاد، أو قبل إدخال التبغ إلى الشرق بجيل تقريباً. وكان يشربه حينئذ في جامع الأزهر فقراء اليمن ومكة والمدينة الذين وجدوا فيه منشطاً لهم على العبادة والتسبيح، وكانوا يعكفون على شربه بكثرة. وأدخل البن إلى الآستانة بعد ذلك بنصف قرن تقريباً. وقد أثارت القهوة منازعات حادة بين المتعبدين والمتعلمين في جزيرة العرب ومصر والأستانة. فكان كثير من العلماء يؤكد أن القهوة لها خصائص مسكرة فتحرم على المسلمين بينما كان آخرون يقررون أن للقهوة فضائل، إحداها مقاومة النوم فتكون عوناً قوياً للأتقياء على عبادتهم ليلاً. وكثيراً ما كان بيع البن حينئذ يحرم ويحلل حسب رأي الحاكم. أما الآن فيقول جميع المسلمين تقريباً بحل القهوة، ويفرطون في استعمالها، وحتى الوهابيون الذين هم أشد المسلمين صرامة في الحكم على التبغ والتمسك بأحكام القرآن والحديث. وكانت القهوة تجهز قبلا من حب البن وقشره معاً. ولا تزال تعدّ في جزيرة العرب منهما معاً أو من القشر فقط. وتحّضر في البلاد الشرقية الأخرى من الحب وحده يقلى ويطحن أولاً فأولاً.
في القاهرة أكثر من ألف (قهوة). والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود. ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل، مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثاً وعرضها كذلك تقريباً. وفي داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة. ويرتاد المقاهي أفراد الطبقة السفلى والتجار وتزدحم بهم عصراً ومساءً. وهم يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه. ويقدم (القهوجي) القهوة بخمس فضة للفنجان الواحد أو عشر فضة (للبكرج) الصغير الذي يسع ثلاثة فناجين أو أربعة. ويحتفظ القهوجي أيضاً بعدد من آلات التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزه. وتستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذي يباع في بعض المقاهي. ويتردد الموسيقيون، والمحدثون على بعض المقاهي في الأعياد الدينية خاصة
(يتبع)
عدلي طاهر نور
مجلة الرسالة/العدد 506
مجلة الرسالة - العدد 506
بتاريخ: 15 - 03 - 1943
مجلة الرسالة/العدد 506/المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم - ويكي مصدر
ar.wikisource.org