وليم صالح - هذا أيضاً سوف يمضي

ترسم الكلمات في إيران فنها الخاص بخطوط تجذب العارف بالفارسية وغير العارف بها، إحدى أكثر العبارات تكراراً على الأحجار الكريمة والأقمشة والقطع الفنية في إيران عبارة "هذا أيضاً سوف يمضي" أو كما تكتب بالفارسية “این نیز بگذرد‎”.
"هذا أيضاً سوف يمضي" 1





تقول الحكاية* إن ملكاً أراد ذات يوم أن يدوّن على خاتمه عبارة تكون له العون عند تزاحم المصائب، وناقوساً يدق في موعده لينبهه من غفلته عند توالي الرغائب، فأرسل لحكيم طلباً بحاجته، فخط له الحكيم بعد أن تفكر بالأمر ملياً: “هذا أيضاً سوف يمضي”، لتكون العبارة الأكثر نجاعة له كيفما كانت الظروف، فتخفف عنه الهموم عندما تُقبل صروف الدهر، وتنبهه من حجب الغفلة بعد إدبار قوارع العصر، لتؤكد أنها حكمة عبقرية في تسكين القلوب على كلا الحدين.

لم يغفل الشعراء الفرس عن تدوين جواهر أسلافهم الحكماء في طيات دواوينهم الشعرية، تاركين رسالة للأجيال المقبلة على مسرح الحياة من بعدهم، مفادها أن مهما كان حالكم أيها الأبناء فإن هذا الشيء أيضاً سوف يمضي، يبدله الله من حال إلى حال.
تنوع كل شاعر بطريقة عرضه، واستعان كل واحد منهم بهذه العبارة بكل ما فيها من حكمة في طريقة تختلف عن نظيره، فمنهم من راح ليداوي بها جفاء المحبوب، ومنهم من ذهب ليعزي نفسه بفقدان الاحبة، وبينما راح آخرون لمقارعة أهوال الزمان والصعاب من خلف القضبان بسيف هذه الرؤية الفريدة من نوعها: هذا أيضاً سوف يمضي. نجد أن الشاعر سنائي ذائع الصيت في آواخر القرن الخامس ومطلع القرن السادس الهجري، والذي يُعد أحد أركان الشعر الصوفي، يخاطب خليله:
يا من قل وفاؤك .. هذا أيضاً سوف يمضي
يا من طال جفاؤك .. هذا أيضاً سوف يمضي

ولم يبخل علينا الشاعر ابن يمين الأمير فخر الدين محمود، الذي عاش في نهايات القرن السابع الهجري في تلقين الأجيال درساً في هذه الحياة، ناصحاً بالامتناع عن الغبن من أحداث هذا الزمن قائلاً:
أيها القلب توقف لا تثقل نفسك بالهموم، هذا ايضاً سوف يمضي
فإن الدنيا برمتها ماضية من هذا الممر، هذا أيضاً سوف يمضي

الشاعر المعاصر محمد تقي بهار الملقب بملك الشعراء المولود في سنة 1886 ميلادية في مدينة مشهد والمتوفي سنة 1951، أي في زمن قريب من زمننا هذا استعان بالخطبة الرائعة ذاتها ليهون على نفسه مرارة أيامه بين جدران زنزانته في السجن:
هون عليك أيها القلب فكل شيء سوف يمضي.
لا تتعب نفسك بضيق جدران السجن، فإن هذا أيضاً سوف يمضي.

بينما الشاعر الإيراني، فخر الدين عراقي، والذي ينحدر من مدينة كميجان – همدان والموارى جسده في مدينة دمشق السورية عام 688 هجرية، نظم في هذا السياق تحفة فريدة من نوعها، متفائلاً بأن لا بد من عودة الحبيب الذي طال تجاهله له:
إلى متى سأبقى احتمل جفاؤك؟ هذا أيضاً سوف يمضي
طفح الكيل من لا مبالاتك … هذا أيضاً سوف يمضي
قُضِى عمري ولم يبق لي سوى نفس أخير
افرح … أيكفيك هذا ؟!! هذا أيضاً سوف يمضي
تعال وأمضِ ولا تعاود النظر إلي
جعلت فداك يا ايتها الروح هذا أيضاً سوف يمضي
كل امرئ وصل لغاية مطلبه عندك
إلا هذا المتسول (أنا) المسكين، هذا أيضاً سوف يمضي
أيها الحبيب أنت تعاديني وأنا أدعو لك، هذا أيضاً سوف يمضي
أتيت إلى عتبتك ولم تدعني
أمضي من جوار دارك، هذا أيضاً سوف يمضي
مر قلبي من مضاربك، عاد منكسراً
لم يسمع حتى سلامك، هذا أيضاً سوف يمضي
قُضى كل ذلك الحب الذي احببتني
يا لحيف الزمان تغير رأيك .. هذا أيضاً سوف يمضي
إلى متى سيبقى المسكين “عراقي”
يحتمل جفاؤك،، هذا أيضاً سوف يمضي

لم يقتصر ترصيع الشعر الفارسي ب “هذا أيضاً سوف يمضي” على الشعر الكلاسيكي فقط، فقد جاء شعراء الأدب المعاصر ليكملوا ما بناه الاجداد مثل مهدي اخوان ثالث الملقب بـ “م.أميد” وتعني الأمل وعلى الرغم من أنه ولد في مدينة مشهد الإيرانية وعاش في القرن الماضي والذي يبعد عن الشاعر سنائي ألف عام تقريبا،، ولكن كتب كلماته متمسكاً بذات الرؤية:
لقد نذرتُ
ذات يوم سأكون مبتهجا
سآتي وأكتب
وجب عيش الحياة رغداً
فعلى نكبات هذا الزمن أن تضرب رأسي برفق
من ثم تبتسم ،، وتمضي مجدداً بطريق الشوق
ذات يوم سأكون فرحاً
سآتي وأكتب
“هذا أيضاً سوف يمضي”.

لم يكن العرض في السطور السابقة على سبيل الحصر وإنما على سبيل الذكر، فكثرٌ هم الأدباء الذين تغنوا بهذه الحكمة، وبالرغم من تعددهم إلا أن كل أديب منهم أراد أن يقول كل صعب سيتبدد وكل هين لا بد سوف تُطوى صفحته، فلا بقاء لرخاء عيش أو لضيق.. مؤكد كل واحد منهم على شدة الأمل التي علينا أن نتحلى بها و بأن لا بد من يسر بعد عسر، حتى وإن كان الضيق وباء كورونا مثلاً، ولا بد من صحوة دائمة من ستار الغفلة، من كل لبيب حكيم مهما طال بنا رغد العيش.

* هناك روايات عديدة حول أصل هذه الحكمة، هناك من يرجعها إلى الهند وهناك من يقول إنها من فارس ورأي يؤكد أن مصدرها النبي سليمان. في خطاب له أرجع الرئيس الأميركي الراحل أبراهام لنكولن إلى الشرق دون أن يشير إلى بلد المنشأ. “Address before the Wisconsin State Agricultural Society”. Abraham Lincoln Online. Milwaukee, Wisconsin. September 30, 1859.





تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الفارسي
المشاهدات
724
آخر تحديث
أعلى