حميد العنبر الخويلدي - قراءة في قصة "حالة تمرد" للقاصة هدى أحمد حجاجي

حالة تمرد.. قصة قصيرة
للقاصة هدى أحمد حجاجي

كانت عيناها الدليل الوحيد على أنها قد استيقظت من نومها، فقد فتحتهما في هدوء مع احتفاظ سائر أعضاء جسدها بوضعها الذي كانت عليه ، وكان العضو الذي قام بالحركة بعد العنيين مباشرة هو عقلها ، فلقد بدأ ت تتحرك ببطء ليذكرها بذلك الحلم السخيف الذي كانت تعانى منه في أثناء النوم ،وكأنما لذ لها أن تستعيده مرة أخرى في يقظتها انتقاماً من ذلك الرعب الذي صاحبها في نومها. تركزت عيناها على سقف الحجرة وهما لا تكادان تريان إلا ذلك الحلم الذي ينشط العقل الآن بشيء من المعاناة في إعادته. ها هي تسير في مقر عملها ،فجأة تشعر بدوارن وضعف شديدين تسقط على الأرض ،يسرع إليها الزملاء يحملونها إلى مقعد وثير، تتكاثر من حوله الأسئلة وتتناثر الكلمات، وهي جالسة في شرود كأن الأمر لا يعنيها تشير في بطء إلى ساقها اليمنى يكتشفون معها أنها لا تتحرك ،يحاول الجميع إصلاحها لكنها ساق لعينة ،ترفض الاستجابة لهم ، ينقلونها إلى المستشفى ، يقوم الأطباء بعملهم ذهبت كل جهودهم سدى ،كانت صامتة حتى الآن ،يصر الأطباء على ضرورة أن تتكلم ،خرج صوتها واهناً خفيضاً ،فرح الجميع إلا هي ،أغلق الأطباء الحجرة وسألوها إن كانت تقبل صداقتهم ،وافقت سألوها :هل هناك أمر ما في داخلك تكتمينه ويعذبك كثيراً؟
أجابت: نعم ناشدوها أن تبوح لهم به بعد تأكيدهم بضمان سريته رفضت سألوها :هل هذا الأمر شديد الأهمية بالنسبة لأحد غيرك ؟ أجابت: بل شديد التفاهة . سألوها:لماذا لا تقولين إذن؟
أجابت : لا، لا أستطيع ،توعدوها بأن ساقها ستكون الثمن ، ردها الوحيد بأنه حتى لو كانت حياتها هي الثمن.
أمر الأطباء بإعطائها حقنة غابت بعدها عن الوعي ،انتهت من استعادة حلمها الكئيب ،لكن ما هذا؟ مازال الحلم يحاصرها حتى بعد يقظتها نفس السرير ،نفس الحجرة بل نفس الوجوه التى كانت في الحلم هي التى تراها ،إذن هي في مستشفى حقيقي وكل ما مر بها لم يكن سوى الحقيقة المجردة وليس حلماً،فجأة تذكرت ساقهااليمنى تلك التي رفعت راية العصيان في وجهها ،حاولت تجربتها وجدتها ما زالت تعصاها ،تجاهلت كل الوجوه التي تحمل ابتسامات إجبارية من حولها ،مرت لحظات قصيرة لكنها كانت كافية لأن تستعيد في ذهنها جزءاً كبيراً من حياتها كيف كانت. إنها تعيشها بلا نظام وتستخدم أعضاء جسدها بلا رحمة وتستنزف عقلها وأعصابها بلا حدود، وما ذلك إلا لأنها توجد في الحياة في تلك الفترة من الزمان، كم سألت نفسها فيما مضى إلى متى سيظل جسدها وعقلها يتحملانها بلا تمرد أو عصيان رغم قسوتها وجبروتها؟
وكانت تتعجب من تحملها واستكانتها لكن ها هي كل المقاييس تختلف ، وتم رفع راية التمرد والعصيان في وجهها، وكانت ساقها اليمنى أول من تقدم لحملها ، الآن يحاول الأطباء استرضاءها ،لكنها أبداً لن ترضخ قبل أن ترضخ هي، وأيقنت أنها علة استعداد للرضوخ .لكن هل تستطيع الاستمرار ؟ أعادها صوت الطبيب إلى واقعها وهو يقول :لقد قررنا بقاءك معنا في المستشفى أيام عدة ،صاحت بدون تفكير : لا ، لا ورغم كل ما قيل بعد ذلك قالت أيضا :لا . قامت بالتوقيع على إقرار تحملها المسؤولية وذهبت إلى منزلها ،رفضت كل اقتراحات العلاج ،كل ما طلبته فقط يومين راحة وفي اليوم الثالث كانت بين زملائهافي العمل سليمةً معافاة .


للقاصة هدى أحمد حجاجي ،،،،، من مصر


********************************


( نص نقدي مقابل)


( القصة،
أن ترصدها،
وتلمَّ ،شتاتها ،
وتنفخَ فيها من روحك أخيراً لتكون كما هي )

كلُّ نص قصصي هو من واقع الحياة الفعلية ،مترابط معها لزاماً وتوثيقًا ،وهذا مايجعلنا نتوخى الإمتاع واللذة الفنية دائماً ،فهناك في الفن مدارس ،منها الواقعي الصِّرْف المباشر ، وهناك غيرها من التنويعات المنهجية ، أكثرها من بنات الربط الذهني ومسحة التخيّل ،وهذا كذلك جميل ،إنما لو لملم القاصُّ شتاتَ قصته وكونياتها من حضن الطبيعة ، فهذا مراد بحد ذاته مبهر ، وكل ما زرعت العفوية وتلقائيات فعل الزمكان فهذا حلو وتام بكماله وصورته ، كون القصص بأجمعها ، ولدت في ثنايا الواقع الوجودي وارتبطت به وارتبط بها .
ولو سألنا سؤالاً هنا ، ماهو الدافع الذي دفع القاصة هدى حجاجي أحمد لكتابة مثل هذه القصة بالذات وبالفعل ،وتسميتها ( حالة تمرد)
الفنان كائن خلّاق فوق القدرة المادية ،وعن طريقه يتم استقراء القدري للممكنات في الواقع ،القدري نعني به الماوراء ، وهو قوة المطلق ، فلعله -ونقصد المبدع -اليد البارعة التي تحدث التغيير وتحدث النقلة النوعية ، وعلى هذا الأساس ، لا بد من ناموس مادي تتخاطر من خلاله الفيوضُ الحالّةُ أحداثاً ، والمدفوعة قياساً وتقديراً على ما له من علاقة بالبنية أولاً بأول ، وهذا الناموس يجري تحت سقف الضرورة الوجودية ،
الفنان كذلك مع عامل الضرورة في الواقع تجده قناةً رابطةً تَسْتَلِمُ وتُسَلِّمُ ، تَستَلم مايُضاف من محدث مكاشفاتي به بصمة الغيب ، وتُسَلِّم مايجب من إخبار معنوي اختزله الواقع وجوباً في أن يتغيّر ، بحسبان الآتي الحتمي ، وموقف التصيرات الذي ينصه القاص ،وبه تعتمل الكيفية الكلية للنتاج.
يستدعي النقص أولًا ،أو الحاجة ،وهذا يوحي به لسان إمكان الموجود ، وعلى ضوئه يتأتى الغيبي وفق نسبيةٍ مقدّرةٍ سلفاً ،( حالة تمرد )، اسمان وصفيان بالقياس اللفظي ، /حالة /تعني ظاهرةَ شيء موجودٍ له مايخصه ويميزه من غيره ، يكتنفه النظر ويرصده ،فهناك شد بين الناظر والمنظور من الموجود،/تمرّد /، حاصل حركة اعتبار الكتلة المرئية التي وصفناها بمفردة حالة ،ترابط وَلّفَتْه اللغة كونها حمّالةً للمعنى المبصر أو المرصود من قبل المبدع ، في عملية لَمِّ الشُّتات وابتداعه بطريقة أخرى لاتختلف عن رسم قلم الوجود بنسبة فاعلة هيكلية ، ولو اختلفت فقدت ملح الواقع وذائقته ، وكذلك لاتسلم من التشوْه ،هذه مجريات القصة الواقعية ،فلعل أولَ منتج لأية قصة في الحياة هو الواقع ورموز البنية النصية ، المبدع اختزالي ليس إلا وعلى طريقة كشف الرابط والأثر ، أقرب إلى علم الحفريات، ولكن بأسلوب يخترعه حسب طبيعة الفن : رصد ، تشخيص ، مخالطة عينية ، إزاحة الكاهل ، تحفيز روح استنهاضها ، نقول إنها اكتملت من مكانها التي هي فيه قبلُ مع الموجودات تلابساً والتحاماً بمثل ما كانت ووزعها الوجود الكوني آنذاك ، فحين عرفنا أنها اكتملت واستُنْهِضت ، هنا تُجْرى النَّقْلة ولكن أين وكيف ،،،؟ هدى المبدعة رصدت قصتَها من خلال استشعار الذات حصراً، وقراءة المأمول ، ومن ثم شخّصت هناك جسداً جمالياً مغموراً طمرته الظواهر ، بعدها خالطته وأعني /القاصة هدى /مخالطة الإرادة والاختيار والرغبة في حب الكشف عنه ، وإخراجه أي بإزاحة الطامر له والغامر الذي طمسه ، الوجود هنا محشود بالمكنونات لم يفقد اعتبارات تاريخ أية ذرة حتى ولو كانت مذاق تفاحة آدم او عُرْيه الجميل ، أو عناد وصلف كورونا المعاصر.
وبعد أن احتاطت القاصة بالصورة كاملة انشَدَّت لها أخذت تراها، كثر اللَّغط ، من أي الزوايا أنعشُها بالنفخة ياترى ، المبدع خلّاق ينعش بُناهُ بنفخة تسري بالهيكل المحشود ، الهيكل الذي جُمِع ، نعم جمع ذابلاً أصفر خارجًا من بطن الخانة متململاً للتو، رأى دائرة الشوف ومابها من قرينات، لامسته أصابع ناعمة ، أفاق دبت فيه صفاتُه حسب مراماته وماتمليه ع -ليه ذاته ،فهو وأعني النص عالم من الاعتبار المحدث يحمل معنى قد يكون ذا اعتبار متعال كمثل رواية شكسبيرية أو رواية نجيبية كأولاد حارتنا ،إذن علينا وفي هذا المعيار ، أن نجمل المنظور النقدي الذي اشتغلت عليه القاصة هدى أحمد حجاجي ،وأي قاص حيثما عمل من السرديات القصار أو الطوال :
١- رصد المآل ٢- تشخيص الحال ٣- التخالط العيني. ٤- إزاحة الكاهل. ٥- الحافز أو نفخة إنعاش المخلوق المحدث ،٦-النقلة النوعية ، أي من نصاب خامات الموجود إلى نصاب فاكرة إبداع الذهن ، المهم نقول اصطلاحاً عنها بالنقلة النوعية هذا ناموس قصة /حالة تمرد /وهي في خزانة الوقت في وحداته ،وأن يتبين للمتلقي المكاشفة الجوهرية ، حيث إن أول المتلقين هو المبدع الذي دخل موقف التصيرات وكان في الشهودية الفاعل ،فبالمكاشفة تتم الرؤيا ويتم العيان ويفرح المبدع ،هنا نصطلح ونقول لقد حدثت النقلة الثالثة وهي تمام الصورة ،أي أصبحت /حالة تمرد /حقيقةً من حقائق الموجود.
هدى أحمد حجاجي مبدعة "حالة تمرد" ، رصدت وشخصت ...إلخ الناموس الذي كشفنا ،وهذا أول الحصر ، بعدها عملت النقلة الثانية إلى فاكرة الخيال الذهني ، ومن بعدها إلى العرض وهو المناولة الثالثة أو مناولة الكمال النصي.

الناقد: حميد العنبر الخويلدي
حرفية نقد اعتباري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى