وليم صالح - حكاية اختراع الشطرنج في ملحمة “الشاهنامة”

كيف جاء الشطرنج في ملحمة فارس الكبرى؟

عندما ازداد الخلاف بين الباحثين عبر التاريخ حول أصل اختراع لعبة الشطرنج، كان لا بد أن نستقي من بئر تاريخ الحضارة الفارسية التي لا شك أن أسلاف الفرس القدامى لعبوا دورًا هامًا إما في اكتشاف أو نشر هذه اللعبة. وبعد إمعان النظر في تاريخ الملاحم الإيرانية، نجد أن للملحمة الفارسية الكبرى “الشاهنامة” التي نظمها الشاعر الإيراني أبو قاسم فردوسي، والذي قدم خلالها جهدًا عظيمًا في تخليد تاريخ الفرس، مرورًا بأبرز الأحداث التي شهدتها الحضارة الفارسية منذ التكوين وحتى زمانه، مسترسلاً بوصفه كل صغيرة وكبيرة من عادات وتقاليد وأعراف وطقوس، ليجعل من منظومته الشعرية التي بلغت 60 ألف بيت شعري، نبعًا يستقي منه كل باحث عن الحقيقة، مقدمًا في أقسامها الثلاثة (الأسطورة، الحماسة والتاريخ) طرحاً شاملًا لكل جوانب تاريخ الإنسان البدائي وحتى يومه.

حكاية اختراع لعبة الشطرنج في “الشاهنامة“

لم يخفٍ فردوسي عنا سر اكتشاف لعبة الشطرنج في ملحمته، إذ تعد واحدة من أبرز الألعاب وأكثرها قدمًا في التاريخ، وما زالت حتى يومنا هذا ذائعة الصيت والأهمية. والجدير ذكره هنا أن القصة في “الشاهنامة” لا تعدو كونها أكثر من وجهة نظر تتفق مع بعض المصادر تاريخية وتختلف مع أخرى.
اتخذت قصة اختراع الشطرنج في “الشاهنامة” موضعها بين آلاف القصص التي يرويها لنا فردوسي بعنوان “قصة جو وطلخند”، والتي تروي أنه ومنذ زمن بعيد توفي حاكم أرض الهند واسمه “جمهور”، وكان له طفلٌ يدعى “جو”، فاجتمع كبار ووجهاء البلاد وأوكلوا الولاية لشقيق جمهور، وهو “ماي”، حيث تزوج من أرملة جمهور، وأنجب منها طفلًا أسماه “طلخند”.
لم تمضِ مدة طويلة حتى فارق ماي الحياة أيضًا، ليقع وجهاء وكبار البلاد في حيرة من جديد حول مسألة اختيار حاكم جديد، فوقع الاختيار على أم الأولاد جو وطلخند، لتتقلد زمام الأمور حتى يكبر ولداها، ويصلح حال أحدهما لتولي زمام السلطة والجلوس على العرش. سرعان ما شبّ الأولاد، وازدادا قوة وعلمًا وحكمة، ولأن الغمد لا يسع لسيفين، والعرش لا يتسع لملكين، حان موعد اختيار أحدهما، فوقع الخلاف بين كبار مستشاري البلاط حول صاحب الأحقية والكفاءة لإدارة البلاد، فاصطف البعض إلى جانب جو، والبعض الآخر إلى جانب طلخند.
وحين باءت مساعي الصلح بين الطرفين بالفشل، سعى جو جاهدًا لحل الخلاف بالسلم والتصالح، فذهب إلى أخيه يعظه دفعًا لشماتة الأعداء، إلا أن حكمة جو هنا لم تجدِ نفعًا، إذ دبت عقارب الشحناء والبغضاء بين الإخوة، ودارت الحرب رحاها بين الطرفين، فسُنت السيوف للقتال وتزاحف الفريقان والتقى الجمعان وحدثت واقعة عظيمة طالت مدتها. ولكن بعد حين رأى طلخند أن رجاله قد تشتت جمعهم، وإثر شدّة الخسائر التي تلقاها ورفاقه، وشعوره بفقدان الأمل بالنصر، أُصيب بسكتة وسقط عن ظهر فيله متوفيًا.
تلقت الأم خبر الفاجعة التي ألمت بشمل العائلة والمملكة، فأجهشت بالبكاء والعويل ومزقت ثوبها وأضرمت النار عازمةً على حرق نفسها (كما هو العرف عند أهل الهند)، وما إن وصل ابنها جو ألقى بنفسه بين يديها، قائلاً: “جُعلت فداكِ يا أمي، انا لم أقتل أخي طلخند، أرجوكِ لا تتهميني بقتله، طلخند مات من تلقاء نفسه”. لم تقبل الأم برواية ابنها، فأجابها: “سأشرح لك ذلك وإن لم تقبلي بروايتي سأضرم أنا النار وألقي بنفسي بها”.
فجمع جو كل مستشاري البلاد، كذلك الشبان اليافعين، ووجهاء وكبار البلاد، طالبًا منهم تمثيل المشهد لأمه. ومن هنا جاء اختراع الشطرنج عندما مثلوا لها مشهد الحرب بين الطرفين، مستعينين بالتجسيم بقطع من العاج وأخشاب الساج، لشرح المعركة بين جيشي جو وطلخند، في محاولة منهم لإقناعها كيف للملك أن يموت من تلقاء نفسه عندما يُحاصر.

من أين جاءت تسمية الشطرنج؟

لا يزال أصل تسمية الشطرنج أيضًا موضع خلاف لدى الكثير من الباحثين، فمنهم من قال أن “شترنج” أصلها كلمة “شاتورنجا”، والتي تعود إلى اللغة الفهولية (البهلوية) وتعني أربع حدود، أي تحوي أربع أقسام “فيل، قلعة، حصان و جندي”. بينما راح آخرون إلى أن أصلها من كلمة ” شتر” باللغة الفهلوية ايضًا، بمعنى أربع ، بينما “انج” تعني عضو أي (ركن) وبذلك تعتبر تسمية لجيشٍ من أربع اركان.
وفسّر فريق آخر رواج كلمة شطرنج باللغة العربية، بأصولها الفارسية، حيث جاءت من كلمة “شترنج”، وتعني 6 ألوان. فيما رأى آخرون أن أصل الكلمة يعود للفارسية أيضًا، من كلمة “شدرنج” وتعني إزالة التعب في إشارة منهم إلى أن لعبة الشطرنج تزيل الهم والغم عن قلب لاعبها. وفي رواية أخرى فقد جاءت التسمية من كلمة “صدرنج” الفارسية أيضًا، والتي تعني 100 لون، في إشارة منهم إلى أن اللعبة تحوي 100 حيلة وخدعة. الجدير ذكره هنا، أن فردوسي لم يلقِ الضوء على سبب التسمية إلا أنه استرسل بوصف الحيلة التي لجأ إليها حكماء الهند لتجسيم مشهد العراك بين الطرفين، علّه يطفئ لهيب قلب الأم على فلذة كبدها طلخند.

“استحضروا خشبًا من شجرة الآبنوس، وصنعوا لوحًا
ورسموا عليه مائة خانة
أعدوا من الساج والعاج صورة ملكين معصّبين بالتاج
مع جنودهما وخيولهما وفيولهما
ثم صفوها وجعلوا كل منهما في قلب عسكره وعلى يمينه وزيره
وإلى جانب ميمنة وميسرة كل منهما فيلان
ووضعوا إلى جوار الفيلة جملين عليهما راكبان
ودونهما فرسين عليهما فارسان
ودون الفرسين رُ-خيّن (قلعتين)
ورتبوا الرجال مصطفين في المقدمة
وكلما انتهى واحد منهم إلى آخر المعترك أمسى وزيرًا
يقعد بجنب الملك ويخدم بين يديه”.

فبقيت الوالدة المفجوعة على ولدها تشاهد الشطرنج يلعب به عندها، فتعرف أحوال ذلك المعترك الذي جرى على ولدها حتى وفاته، ولم يزل دأبها حتى قضت أجلها هي الأخرى.
لا شك أن لرواية فردوسي ما لها من نقاط القوة والضعف، إلا أنه لا يمكن لباحث في تفسير اختراع اللعبة تجاهلها، ذلك أن “الشاهنامة” تعود بتاريخ كتابتها للقرن ال 3 الهجري، معتمدة بمادتها الأولية على أحاديث الرواة آنذاك، والذين كان غالبيتهم من منطقة خراسان التي ينحدر منها الشاعر، أي أنها أشبه بشريط مصور يروي لنا تصور عامة الناس عن تاريخ الحضارة القديمة الذي تم الاحتفاظ به منذ ذلك العصر وحتى يومنا هذا.



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الفارسي
المشاهدات
474
آخر تحديث
أعلى