وليم صالح - حاتم الطائي.. أيقونة الفضيلة عند سعدي الشيرازي

عبر حاتم الطائي"1" بكرمه وسخاوته ثقافة العرب ومضى على صهوة خيله ليتخطى الحدود ويصل إلى صفحات الأدب والتاريخ في لغات عدة وقارات أخرى، ليمسي أيقونة حاضرة في ذاكرة الشعوب على أنه ربٌ للكرم والشجاعة وصدق القول إذا ما أردنا ننصفه بقولنا.

الشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي"2" كان معجباً أشد الاعجاب بشخصية حاتم الطائي، وزين أدبه التعليمي الشهير بأمثلة عن كرم الرجل، جاعلاً منه مثالاً يُحتذى به في آثاره (بوستان"3" وكلستان"4" ) – بوستان وهي تعني المكان ذو الرائحة الطيبة ومنها عبرت كلمة بستان للغة العربية، وكلستان وهي تعني مجمع الزهور والورود أو الروضة – إلا أن الطائي ألهمه في عدة مرات ليدون لنا رقعتين مرصعتين بينابيع الحكمة وتعليم الاحسان ومبادئ الاخلاق الانسانية للأجيال، وكيف لا وهو صاحب البيت الشعري المعروف الذي سبق وذكره النبي(ص) في حديثه نحن بني الانسان خلقنا من طينة واحدة كما هو الجسد الواحد ما اذا اشتكى عضواً في الجسد تداعت له سائر الاعضاء.

وبما أن ايديولوجيا الشاعر سعدي تقوم على الاخلاق والمبادئ الانسانية كانت أبرز دافع أن لا يمر بهذه الشخصية الاستثنائية (الطائي) مرور الكرام، فقد أصر في أكثر من مناسبة على أن يعتمده ركن اساس في أخلاق الانسان وصدق قوله ووفائه، حيث يقول في ديوانه:

“لم يبق حاتم ولكن بقي اسمه للأبد = ذائع الصيت بالكرم مشهور”

غير آبه بأنه (الطائي) شخصية من التراث العربي، ما يؤكد أن الشاعر سعدي الشيرازي لم يكن يتفوه بالحكمة والفضيلة والمبادئ الانسانية لمجرد التنظير أو منطلقات نظرية دون بالعمل بهذه المبادئ العظيمة، كطرحه المعروف إني قبل أن أكون أعجمي أو عربي، ولأي دين أنتمي! وأي مذهب أسلك! فأنا * إنسان *.

هذا ما جعل من الاخلاق الانسانية نقطة لقاء بين الشاعر سعدي وابو الكرم المعروف بالطائي، فكلاهما شاعر الانسان وكلاهما أجمعا على وجوب التحلي بحسن الخلق والأدب والتجمل بصفات المروءة والشجاعة والفيض بالكرم والتواضع، كما أن كلاهما أشارا إلى فناء الحياة وأن لا بد من الموت المقدر، ووصفا كلاهما الايثار أنه رأس الفضيلة، وأن القناعة وعزة النفس لا يحكمان إلا عاقل لبيب فهيم مترفّع عن حاجات الدنيا وزينتها دون تحمل منةِ الآخرين.

يتغنى شاعرنا الكبير الطائي بأن ما تملكه هي النفس الكريمة، بينما قد سبق وقطع دابر النفس التي تحمل الرذيلة بقوله:

أشاور نفس الوجود حتى تطيعني وأترك نفس البخل ما أستشيرها.

بيما ينشد سعدي الشيرازي داعياً للكرم، قائلاً:

مد يدَ الخير والعطاء ولا تبخل = واكفف يدُ البخل ولا تظلم

الكرم لم يكن المحطة الاولى ولا الاخيرة التي التقى بها الشاعران، نرى كلا منهما يحثان الشباب على التحلي بالإيثار وفضله بين الناس.

يشد الشاعر الطائي يد الناس على تحمل المسؤولية والايثار بين بعضهم البعض بشعره:

إذا كنت رباً للقلوص فلا تدعِ = رفيقك يمشي خلفها غير راكب
انخها فاردفه، فإن حملتكما = فذلك، أن كان العقابُ فعاقبِ

أي ان كنت صاحب بعير، لا تدع صاحبك يمشي على قدميه،، انخها فتحملكما، وإن لم تستطع الدابة حملكما، دعه يمتطيها وتابع سيرك على قدميك واتبعه، في إشارة من عظمة قيمة الايثار، وتقديم الآخر على النفس.

ليأتي الشيرازي ويدعو القاصي والداني على اتباع الإيثار منهجاً وسلوكاً، وخاصة مع اليتيم بقوله:

اذا رأيت يتيماً، فالقي بظلٍ على رأسه = انفض غباره، وربرب على كتفه
لا تعلم كم عانى من المرارة = فما من شجر طال عمراً بلا جذره
وسارع إلى تقبيله عند لقياه = فلا تُقبل ابنك قبل أن تقبل رأسه

جاء الشيرازي على ذكر الطائي في مؤلفاته، وكأنه أبرز مثال يُحتذى به بما ملكه من الفضيلة والاحسان في عصره، فأورد ذكره في كتابيه كلستان وبوستان سبعة مرات، في كل مرة كان يصرح بأن الطائي هو الانسان، وكفى به مثل هذا الوصف، لينسبه في نهاية المطاف إلى أركان المدينة الفاضلة الذي سبق وحدثنا بها افلاطون، وشيد أعمدتها الشيرازي في كتابيه بوستان وكلستان.

يقص لنا الشاعر الشيرازي في حكايته 22 من الباب الثالث الوارد ذكرها في كتابه كلستان عندما كان يصف رجلاً بخيلاً، وكأنه لا ينتمي لعنصر الانسان جملةً وتفصيلاً، يقول: “سمعت برجلٍ اشتهر بالبخل الشديد كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم المزيد، يعيش ظاهراً بأحسن حال، بينما هو حقيقة أتعس مخلوق، تهون عليه نفسه ولا يفرط بكسرة خبز، ولا يلقي ولو بلقمة طعام لقطة أبي هريرة، ولا يلقي ولو بعظمة لكلب أهل الكهف …. )

عزم الشيرازي على مقارنته هذه بين شخصيتي الرجل البخيل والكريم الطائي، وكأنه يقول ها هو البخل كله أمام الكرم كله.

وفي أجمل مناسبة ذكر الشيرازي ايقونة الكرم الطائي، في الحكاية 14 من الباب الثالث في كتابه كلستان عندما روى قصة تحكي (سُئل الطائي ذات يوم هل سمعت أو التقيت بأحد أكبر فضيلة منك؟!! فأجاب بنعم، كنت ذات يوما قد ذبحت أربعين رأس جمل لأمراء العرب، وخرجت للصحراء لحاجةٍ، فالتقيت بعامل يجمع الحطب وقد ملأ جعبته بالحطب، فسألته “لماذا لم تذهب لوليمة الطائي ؟؟!!، فقد جاء اليه جمع غفير من الناس من مشارق الدنيا ومغاربها؟
فأجابه: “من أكل خبزه من تعبه وعرق جبينه ، لا يحمل منة الطائي ولا غيره”) ذكر الشيرازي ملهمه الطائي في حكايته هذه ليصف مدى النبل وشدة التواضع والصفات الحميدة التي حملها الطائي بطبعه وليس اكتساب، ليذهب به الأمر أن يحدث الناس عمن في الوجود هو صاحب فضيلة أكثر منه.

كما أورد ذكره في كتابه بوستان أربع مرات، وفي كل مرة كان يزيد من الثناء والمدح بهذه الشخصية العظيمة في تاريخ الجاهلية، فحدث بقصة الطائي مع قيصر الروم، ومع ملك اليمن وآخرين، إلا أن الشيرازي راح به الأمر لينسب الفضل كله للطائي في شهرة قبيلته آل طيء الذي ينتمي لها حاتم الكريم، مصرحاً بقوله:

لو أن حاتم لم يكن = لما استحق أحد أن يُكنى بآل طيء
فأبقى حاتم لقبيلته الثناء = واحتفظ لنفسه بالثناء والثواب.



الحواشي

[1] حاتم الطائي شاعر عربي، عاش في الحقبة الجاهلية التي سبقت مجيء النبي محمد(ص)، ولد في جبال طيء، وعاش في منطقة حائل شمال الحجاز التابعة لصحراء نجد، كان أميراً لقبيلة طيء (توفي 46 ق. ه) اشتهر بكرمه وأشعاره وجوده ويقال انه أكرم العرب.

[2] سعدي الشيرازي عاش في القرن السابع الهجري هو شاعر ومتصوف فارسي، تمحورت أشعاره حول تقديم القيم الأخلاقية الرفيعة، ما جعله أكثر كُتاب الفرس شعبية، ليصبح ذائع الصيت وتعبر سمعته حدود البلدان الناطقة بالفارسية إلى عدد من بلاد العالم الإسلامي، و الغرب أيضاً. طاف بلاد مصر والشام هرباً من غزو المغول، ليعود إلى مسقط رأسه مدينة شيراز، ليفارق الحياة بعد أن نظم الشعر بالفارسية والعربية، ومن أشهر آثاره: كلستان، والبوستان.

[3] البوستان وتأتي بمعنى بستان في العربية، ديوان شعري نظمه سعدي بالفارسية، يروي حكايات بديعة ترمي إلى مدينة فاضلة شيّدها سعدي، وقد أتمها سنة 655 هـ يشتمل الكتاب على أربعة آلاف بيت شعري من القصص المنظومة.

[4] كلستان، وتأتي بمعنى الروضة أو مجمع الورود، هي مجموعة من الحكايات والمواعظ الاخلاقية، يمزج الشيرازي فيها ما بين الشعر والنثر مستخدما اللغتين العربية والفارسية، وقد أتمم الكتاب سنة 656 هـ



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الفارسي
المشاهدات
1,024
آخر تحديث
أعلى