خيري حسن - اليوم.. ذكراه: ولكنكم تحبون الشيخ (الشعراوى) ولا تحبون الشيخ (زغلول)

الدنيا..!
«النَفسُ تَبكى عَلى الدُنيا
وَقَد عَِلمت
إنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها»
(القاهرة ـ 2021 )
87 سنة عاشها الشيخ محمد متولى الشعراوى ما بين القرية والمدينة، والصوم والصلاة، والدعوة والدعاة، والصحة والمرض، والغربة والسفر، والعواصف والمحن، والحلم والشجن، والقرآن والسنة، والدعوة والسياسة، والثورة والحماسة، والملكية والجمهورية، والباشا والبكباشى، والاستعمار والجلاء، والراحة والعناء، والصواب والخطأ، والأزهر والفتوى، والرضا والشكوى، والتوقف والاستمرار، إلى أن توفاه الواحد القهار بعدما قال كلمته، وأدى رسالته، ورسم- لدى مؤيديه- ومعارضيه- صورته التى مازالت حتى اليوم نقطة خلاف واختلاف بينهما، شأنه فى ذلك شأن الشخصيات العامة(الدينية والسياسية والثقافية والرياضية) التى تُصبح بحكم تواجدها أمام الرأى العام، مباحة، ومستباحة، ومتاحة للتصفيق مرة وللتصفير مرة. وللمدح مرة، وللقدح مرة. وفى كل مرة.. لا يقبل المؤيد له ولا المعارض العمل وفقًا لنظرية «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأيى غيرى خطأ يحتمل الصواب» أو العمل بالمفهوم الديمقراطى الذى يدعو لحرية الرأى والرأى الآخر.
وفى مثل هذا اليوم - 17 يونيو - 1998 مات الشيخ الشعراوى تاركًا خلفه المؤيد (يؤيده) كيفما شاء، والمعارض (يعارضه) كيفما شاء.. وعاد هو إلى مقره، ومستقره بعدما ترك الدنيا.. وما فيها!
***
الدنيا..!
«لا دارَ للمَِرء بعد المَِوت يَسكُنُها
إلا التى كانَ قبل الموتَِ بانيها»
(محافظة ـ الدقهلية 1999)
استقل الآن أتوبيس هيئة النقل العام من محطة عبود شمال القاهرة فى طريقى إلى قرية دقادوس مركز ميت غمر التى تبعد عن العاصمة 70 كم. فى هذه القرية ولدت سنة 1914 ـ أى بعد مولد الشيخ الشعراوى بثلاث سنوات- وذهبنا إلى كتاب القرية معًا، وحفظنا القرآن معًا، وتخرجنا من الأزهر معًا، وعملنا فى المعاهد الأزهرية معًا إلى أن سافر هو عام 1950 إلى السعودية، ثم عاد عام 1963 للعمل سكرتيرًا لشيخ الأزهر، ثم سافر إلى الجزائر وعاد عام 1970 ليشغل منصب مدير أوقاف محافظة الغربية ثم وكيل الجامع الأزهر. ثم سافر إلى السعودية عام 1972 وظل هناك حتى أُحيل للمعاش فى 15 أبريل 1976. أما أنا فلم أتحرك إلا فى الكادر الوظيفى المعتاد بوزارة الأوقاف. وبعد سنوات عاد هو من السعودية ليجلس على كرسى الوزارة فى حكومة ممدوح سالم. وبقيت أنا- كما أنا- لم أرتق حتى إلى منصب وكيل الوزارة فى الوقت الذى أصبح هو فيه وزيرًا للأوقاف أيام الرئيس أنور السادات!
(حظوظ.. إى والله.. الدنيا دى حظوظ)!!
***
الدنيا...!
«فَإن بَناها بِخَير طابَ مَسكَُنها
وإن بناها بشر خاب بانيها
(الأتوبيس ـ بعد 20 دقيقة)
ومنذ شهور مات الشيخ الشعراوى، ودفن بالقريةوأنا ـ فيما يبدو- مازال فى عمرى بقية، حيث مازلت أقيم بالقاهرة بعد خروجى للمعاش. واليوم بعدما انتهيت من صلاة الفجر، قررت السفر للقرية لزيارة قبره. الأتوبيس يسير بسرعته المعتادة، وسيارات الميكروباص، وعربات النقل تمرق بجوارى مسرعة فى عجلة من أمرها. من بعيد ألمح عبر زجاج النافذة- رغم نظرى الذى وهن وضعف- صورته وهى معلقة على زجاج السيارات، وكأنه الكابتن محمود الخطيب أو المعلم حسن شحاتة، أو الست أم كلثوم أو العندليب عبدالحليم حافظ! وهذا أمر لو تعلمون عظيم..؟ ويجعلنى أسأل- فى عجب ودهشةـ ومن حقى أن أسأل- كيف استطاع الشعراوى أن يحول الداعية إلى نجم مشهور تُعلق صوره على زجاج السيارات وفى المحلات العامة والبيوت وحتى فى المقاهى الشعبية؟ قد يعتقد البعض أننى أبغضه، أو أكرهه، أو أغير منه، واحقد عليه! وهذا غير صحيحا بالمرة، لكننى- مثل طائفة كبيرة من جموع الشعب- فى حيرة من ذلك كله! والحيرة مبعثها أننى لا أعرف ما كل هذا الضجيج، والصخب، والنجومية، والشهرة، والحفاوة، التى صاحبته حيًا وميتًا!
***
الدنيا...!
«أموالُنا لِذَوي الميراثِ نَجَمعُها
ودُورنا لِخرابِ الدَهر نبَنيها»
(الأتوبيس ـ بعد 60 دقيقة)
كلكم- أو بعضكم- قد يعرف مَن هو الشيخ زغلول عبدالواحد قبيصى؟! نعم قد تعرفوننى وتعرفون علمى، وفقهى، وتدينى، وهذا كله عندى مثلما عند الشيخ الشعراوى! وتعرفون دراستى، وثقافتى، وإخلاصى، وحبى لأهل قريتى، وهذا كله أيضاً عندى مثلما عند الشيخ الشعراوى، لكنكم ـ ولا أعرف لماذا؟ـ تحبوه هو ولا تحبوننى! لذلك قررت أن أذهب إليه فى قبره..وأسأله وأحاوره.. القول بالقول.. والحجة بالحجة.. والرأى بالرأى.. وأسأله بصريح العبارة وأقول له: «يا شيخ شعراوى ما الذى كان بينك وبين ربك ليُحبك الناس كل هذا الحب»؟ وبعدما توقف بنا اتوبيس تلك الرحلة الشاقة، غادرته مسرعًا إلى سيارة أجرة. ركبتها على مضض بعدما وجدت سائقها يلصق على زجاجها الخلفى صورة الشيخ الشعراوى! بعد دقائق تحركنا فى طريقنا إلى المقابر. سألت السائق: «لماذا تعلق صورة الشيخ الشعراوى هكذا؟: رد قائلًا «بصراحة بحبه لله فى الله.. إى والله كده يا مولانا»،
ـ «مولانا؟ هو أنتم خليتوا فيها مولانا»!
مرت ساعة تقريبًا وأنا فى السيارة صامت لا أعلق حتى وصلنا إلى المقابر، ثم نبهت على السائق ينتظرنى حتى أعود، ثم ترجلت بين المقابر وأنا أقرأ الفاتحة بعدما ألقيت التحية على أهلها، الآن وصلت إلى قبر الشيخ.
***
الدنيا...!
«أين المُلوكُ الَّتي كانَت مُسَلطَنَةً
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها»
(المقابر ـ بعد 20 دقيقة)
ـ حمد لله على السلامة يا شيخ زغلول؟ ودعنى أسمعك ما تريد سماعه وما جئت من أجله قبل أن تسأل: «حب الناس وإعجابهم بى الذى يشغلك– وربما يشغل غيرك– أعتقد حدث لأمرين: أمر يرجع إليهم وأمر يرجع لى، أما الذى يرجع إليهم فهو أن خلية الإيمان لا تزال فيهم، وأن نواة هذه الخلية لا تزال موجودة. قد يكون العطب قد أصاب الخلية، إنما النواة سليمة، ولهذا فهم سعدوا لأن واحدًا حاول إحياء هذه الخلية.
ـ لكنك يا سيدنا- لا مؤخذة يعنى- لا تنكر حبك للشهرة والسلطة والمنظرة؟
ـ وهذا هو الأمر الثانى الذى يرجع لى ودعنى ألخصه لك فى القول التالى: «يعلم الله أنى ما أقبلت على لقاء أو تسجيل أو ندوة أو حديث إلا وأنا أدرك حلاوة ما أُقبل عليه. فأنا به أشعر إنى أكمل دينى، لأنى أنقل لغيرى ما منحنى الله وجاد به على من فكر وعلم وفقه. أما غمزك ولمزك عن قربى من السلطة، وقبولى للوزارة فأرجو منك ونحن أبناء قرية واحدة أن تعرف أننى رجل دعوة ولست رجل سياسة، والحمد لله الذى استجاب لدعوتى وأزاح عنى الغمة، والوزارة التى كانت اختبارًا قاسيًا دعوت الله ألا يتكرر والحمد لله لم يتكرر»!
ـ لكنك تحدثت واشتبكت فى عالم السياسة والمرأة والبنوك والشباب والفكر والحرية وغيرها من القضايا التى اختلف ومازال يختلف عليها بعض الناس معك؟
ـ يا شيخ زغلول «أنا عشت حياتى أُدرك أننى لست معصومًا من الخطأ، بل لعلى أؤكد لك أنه لولا وقوعى فى بعض الأخطاء ما فلحت أبدًا، لأنه كان يمكن أن يصيبنى الغرور. وكأن الله أراد أن يصدر منى الخطأ لينبهنى إلى أنى بشر له أن يصيب وأن يخطئ. وعلى سبيل المثال جاء رأيى فى هزيمة 67 الذى قلته، وأظنك دائمًا ـ أنت وغيرك ـ تذكروه، ولا تذكروا ذهابى إلى قبر الرئيس جمال عبدالناصر وقراءة الفاتحة على روحه وقولى الذى قلته يومها:«رحم الله جمال عبدالناصر فقد عمل على تطوير الأزهر بما يخدم الإسلام والمسلمين». وبنفس الأسلوب والطريقة تتذكر– أنت وغيرك–خلافاتى الفكرية مع الأساتذة يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وزكى نجيب محمود وغيرهم من الكتاب والمفكرين. هذه الاختلافات والآراء والمناقشات تصورها– أو يصورها البعض– على غير مرادها منى على الأقل. وكل هذه القضايا– أو بعضها– كانت وجهات نظر تبادلنا فيها الرأى والرأى الآخر، فلا رأيى كان ملزمًا لأحد ولا رأى أحد كان ملزمًا لى، وكذلك فى باقى القضايا، مثل الربا والبنوك والزواج والشباب والمرأة وغيرها. وبمناسبة الزواج يا شيخ زغلول دعنى أقص عليك حكاية زواجى التى ربما تكون قد نسيتها!
***
الدنيا...!
«كَم مِن مَدائَِن في الآفاقِ قد بنُِيَت
أمسَت خَرابًا ودَانَ المَوتُ دانيها»
(مدينة الزقازيق ـ 1928)
كان الوقت بعد صلاة العصر عندما كنت أجلس أمام بيت قديم داخل حارة صغيرة مع مجموعة من الأصدقاء أيام دراستى بالمعهد الأزهرى وجاء أبى- رحمة الله عليه- ليزورنى فوجدنى بالصدفة أُساعد فتاة على رفع إناء الماء فوق رأسها، فأصر على أن يعود بى للقرية ويزوجنى من إحدى بناتها.. وبالفعل تزوجت فى سن مبكرة جدًا! ولا أنسى يا شيخ زغلول عندما كنت أقف منتظر القطار وجاء شيخى للسفر معى وسألنى: «لماذا لم تسافر أمس يا أمين»؟ قلت: «لأنى تزوجت»! رد مندهشًا: «وما رأيك فى الزواج»: قلت مبتسمًا: «الصراحة قلة قيمة»، فجلس شيخى على مقعده ولم يعلق! بعد فترة التقيته فى المعهد فوجدته يشير لى قائلًا: «يا أمين.. عندك حق.. فعلًا قلة قيمة»! يومها اقتربت منه وسألته عن سبب قوله هذا! رد: «أمس حدثت مشاجرة بينى وبين زوجتى فتذكرت جملتك وقلت:«فعلًا.. قلة قيمة»، وانفجرنا معًا فى الضحك. هذه السنوات من شبابى وزواجى ودراستى تعبت فيها جدًا. ومشكلة الشباب عمومًا أنهم يريدون أن يبدأو حياتهم بلا تعب. لقد تزوجت دون أن يكون عندى أى كماليات، وأول معرفتى بالثلاجة كانت سنة 1963، واشتريت التليفزيون سنة 1968، وأول مبلغ تقاضيته من الإذاعة كان 170 قرشًا، وراتبى من الوزارة كان 275 جنيهًا فى الشهر. لكن ابنى على سبيل المثال عندما أراد أن يتزوج طلب الشقة والثلاجة والبوتاجاز والتليفزيون، وكل هذا يريده من عرق غيره، وهذه أخطر مشكلات الشباب اليوم، أنهم يرفضون صعود السلم درجة درجة، بعدما أصبحنا نعيش عصر الأسانسير فى كل شىء.
***
الدنيا...!
«لا تركَننَّ إلى الدنيا وما فيها
فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها
(المقابر- بعد 40 دقيقة)
ـ يا شيخ شعراوى أنا لم آت إليك من القاهرة لتحدثنى عن الثلاجة والتليفزيون.. جئت أسألك.. لماذا يحبك الناس كل هذا الحب؟
ـ وأنا أرد عليك يا شيخ زغلول قائلًا: أنا لم- ولن- أسأل أحدًا: لماذا أحبنى واستمع لى! ولم أسأل أحدًا: لماذا عارضنى ولم يستمع لى. كل إنسان حر فيما يحب وفيما يكره. وفيما يقبل وفيما يرفض.. وأنا كما ذكرت لك آنفًا من فضل الله علىّ أننى أقبلت على هذه الأحاديث دون إعداد مسبق وكانت اعتمادًا على ما أصبحت اختزنه فى عقلى، وما كان يلهمنى به الحق من مواصلة تفسير كتابه الحكيم، فما كنت أقوله وقت قولى هو رزقى ورزق هؤلاء السامعين من الله».
***
(المقابر– بعد 50 دقيقة)
- يا شيخ زغلول.. يا شيخ زغلول! لا أسكت الله لك صوتًا! إن كنت تسمعنى؟ ألم تسمع قول الإمام على الذى قال فيه:
«وإنما المكارم أخلاق مطهرة
الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها، والحلم رابعها
والجود خامسها، والفضل سادسها،
والبر سابعها، والشكر ثامنها،
والصبر تاسعها، واللين– يا شيخ زغلول– اللين.. باقيها»!
مع السلامة يا شيخ زغلول.. ربنا يهديك.
***
(المقابر– بعد 60 دقيقة)
الآن.. مر الوقت سريعًا معك يا شيخ شعراوى والحقيقة لم تقنعنى بما تقول.. لذلك تركتك ـ وربما أعود مرة أخري ـ دون أن تشعر بى حتى أُسرع فى العودة إلى السيارة التى جئت بها!
- يا أيها السائق.. هيا بنا إلى محطة الأتوبيس!
- حاضر.. يا شيخ زغلول.. اتفضل " اركب" وانتظر حتى أعود إليك.
- وإلى أين أنت ذاهب يا أُسطى؟
- إلى قبر الشيخ الشعراوى أقرأ الفاتحة على روحه... وسأعود لك مسرعًا..(ما أنت عارف يا شيخ زغلول..بحبه لله فى الله.. إى والله كده يا مولانا)!!
حضر الزيارة:
خيرى حسن
•• الأحداث حقيقة.. والسيناريو من خيال الكاتب.
•• شخصية الشيخ زغلول غير حقيقية ـ وربما لها شبيه فى الواقع ـ طبقا لما صرح به د. بهاء الدين إبراهيم مؤلف مسلسل إمام الدعاة.
•• الشعر المصاحب للكتابة للإمام على- كرم الله وجهه.
•• ينشر غداً الخميس 17 يونيو / 2021 فى صحيفة الوفد( العدد الإسبوعى)
•• المصادر:
كتاب: أنا من سلالة أهل البيت– سعيد أبوالعينين. طبعة أخبار اليوم–1997
••الصحف:
الأنباء الكويتية– الأخبار– الأهرام– الوفد– الجمهورية. السياسى المصرى.
••المجلات:
أكتوبر– آخر ساعة– المصور.
الصور:
الشيخ/ محمد متولى الشعراوى
الفنان/ حمدى أحمد
الفنان / حسن يوسف







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى