ركب الحرمان على أكتافي عنوة... بعد أن شاركني كسرة خبر عفنة زهدت سد رمق، تلك التي خزنتها لأيام شدة وضيق، ثم أسال لعابه ومخاطه عليها بعدما تقيء في طريقي، مما زادهما لزوجة وكثرة تزحلق، ذاك بعد أن أسود لوني، وتهرأ صوتي من شرب قيح عبارات كنت أطلقها كعندليب، أُُحب لبس السواد أناقة وجبروت، خاصة متى كان لامعا، مثل ريش غراب، لم تعتريني الدهشة يومها، فقد أمسى الفساد توأما، بل هو كل ما أملك، أما الحرمان.. فما أن يراني حتى يتَقَلَد الصدارة، فقط لتلقي البؤس وشفقة الآخرين، لم أألف أن حياتي ستكون بمثل هذا الحال، فبعد رحيل منتصف عمر من زمني وقتها استلمت أول خطوة في بُعد زمن، مع استدارة قوية كبيرة، في انقلاب موازين، أُُسقِط الكثير ممن وقفوا يوما جلادين حول واحات الحرية، وسدوا روافد الأمل، ساعتها أعلنوا أن الإنسان أجمل ما خلق الله، أما أنا كغيري من المتلونين الجدد، كنت قد فقدت وعجزت في الحصول على متطلباتي بشكل طبيعي، تحفيت، لبست المسميات حذاء، أسير به على طرقات متشققة، ومن ثم أعود لأعمل على تعبيدها، تحت سقف زمني لا حدود له، حالي كالآخرين الذين فتقوا مشيمة الإنسانية، وامتصوا من حبلها السري مغذيات وطنية وهمية، ثم قطعوا الثدي الحقيقي، لجأوا إلى شرب الحليب المعلب، المستورد والمستحضر كيميائيا من الخارج، كان ذو نفاذ صلاحية بعيدة المدى، لنزع الإحساس بالمواطنة، مع فقدان الشعور بالولاء للأرض، هكذا غدوت اعزف وأغني على نفس أوتار الماضي معهم، أما الذي تغير!! فقط ألحان وكلمات منمقة، انضممت إلى غربان الزمن الجديد، والغريب!!! الكثير منهم تلونوا مع العلم أن الغربان لا تحمل الجينات الملونة، وهذا لم أدركه!! إلا بعد فوات الأوان، حين قَلّبت صوري علمت، أن من تغيرت معالم وجوههم وملابسهم قد عبروا الخطوط الوطنية، فانزلقوا حاملين معهم بطاقات عبور أخرى، بعضها احمر، والبعض الآخر ازرق، وهكذا...، حتى تلونوا معها، أما أنا فبقيت أنعق تغريدا لهم وبهم، وهم يصفقون بأطراف أصابع، رضيت أن أكون غراب البين، الذي يكاد يحمل أسماء من لم تطالهم نقوش حجرية، عشت في قارورة الأنفاق والنفاق، عاقرت، وصاهرت عنق الزجاجة، تلك التي ما أن تفرغ، حتى أمسك بأخرى، وأعمد على تجرعها رغم مرارتها، كنت في وقتي ذاك قد تآخيت مع عقارب ساعة وزمن، عمل بدوره فسن رؤوس سهام صدئة لإعادة صياغة، عنوانها بات محفورا في ضمير التأريخ، أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه يقطعك، هكذا لعبت دوري في كوكبة البهرج الخداع، فأطلقت الذباب باديا كالفراشات، تجذبه الرغبة في التجمع على بقايا رحيق عسل، بَيدَ أني لم استسغ الفكرة، كون رحيق العسل يجذب الكثير والغريب أيضا، كان العديد من أنواع الذباب الذي أخذ يعبث يمينا وشمالا، وقتها طرأت لي فكرة! وهي أن اعمل على التقسيم الذي لاشك سيفصل الأنواع عن بعضها البعض، كون كل نوع يأخذ حصته مما يرام، هكذا استشرى التوافق، وبات التآلف حليف الجميع، شُكلت الخلايا في مجمعات، لا يدخلها إلا من حمل الوعاء دبقاً في اقتناص فرص، أوكُل من يرمي بنرده كسبا لأغلبية جمع مراهنات، كنت حينها كقارع طبل في شهر بلا صيام، أدعو دائما الآخرين إلى سحور، ليتسنى للغربان من لملة قوت محرم، كانت الأيام قد حملت سهام الوقت نبالا، وعقفت الرياء قوسا تجهيزا لإطلاقها على صدور معوزة، فقدت الإيمان بمن لبسوا أخلاق الفروسية درعا لامعا، وتوسدوا أسلاك الحاكيات نعقا ببوح معاناة، وعجز من توفير البدائل، مرفق معها أملاً بمستقبل مشرق لهم، مظلم على غيرهم، كانت الجيوب تنتفخ أسرع من البطون حتى اتخمت، فعمدوا إلى مَعِدات بنوك خارجية وظفوا فيها النفاق أرصدة مجمدة، ذات صلاحية غير منتهية، كانوا قد منعوني من صنع ثقوب غربال كفتحات تهوية، لأني اختنقت ببراز نتانتهم وصنيعهم، فطفقت انشد الهواء بعيدا عن مستجدات لجان انبثقت لتكون نوافذ تبرير لتسليك أمور، إلا أن الوقت قد أزف، فلا عودة تنفع لغراب ينفخ بوقً ساعة نشور، هكذا بقيت وحرماني يقودني إلى هاوية سحيقة، بعد أن رمت بي الغربان، كون عزفي بات مملا وكوني صنعت فتحات غربال لدخول ضياء شمس وهواء نقي، في زمن تغرد الغربان فيه كالعندليب رغم قبح صوتها، ونتانة مبادئها في الحياة.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي