"الخيالُ يخلقُ الحقيقةَ"
ريتشارد فاغنر
شعرَ بتوعُكٍ ألمَّ بهِ إثرَ مُطاردتهِ القطّ العنيدَ ذا الأنفِ الخارقِ الذي يستطيع التقاطَ رائحةِ الشواءِ والقلي من مسافاتٍ بعيدةٍ ودُهِشَ لقدرةِ القطِّ على مواجهةِ الخطرِ المحدقِ به إثرَ إقدامهِ على السطو وعدم مبالاتهِ بما يُحتمَل من نتائج وهو يتجه لاختلاس الطعام الموضوع على المنضدة، شعر أن القط الذي بالغَ بتهورهِ قد أنهكَ قواه في مطاردةٍ غير متكافئة تكون الغلبةُ فيها دائماً للقط الذي ينفلت وهو أكثر نشاطا بينما يقع هو أرضاً من شدة التعب وتسائل هل يبغي القط دفعَهُ الى اليأسِ وربما الموت؟، كانت تلك أفكارُه حين جلسَ على دكةِ البابِ كما يفعلُ كلَّ يومٍ في الوقتِ ذاته وقتَ انحدارِ الشمسِ نحو الغرب حيث تغيب هناك، يصادفُ ذلكَ رجوعَ الراعي بقطيعهِ من الحقلِ واضعاً عصاهُ الغليظةَ على كتفيهِ معلقاً ذراعيه عليها كما يفعلُ الرعاةُ عادةً وكأنهُ يحرصُ على أن لا تغيب العصا عن عيونِ القطيع ، القطيعُ بينَ مطأطئٍ ورافعٍ رأسَهُ قليلا لكنهُ يواصلُ ثغائَهُ بوتيرةٍ متصلةٍ، يتبعُ الراعيَ ذا العصا الغليظةِ، أدهشه خضوعُ القطيعِ لِهَيبَةِ العصَا معَ وجودِ كل أولئك الذكور ذوي القرون الملتويةِ بين أفراده وكأنه ينتبه لذلك أولَ مرة رغم أن مشهد القطيع كان مألوفا في مدينتنا التي يأوي إليها الكثيرُ من القطعان بيْدَ أنهُ لم يفكر في ما مضى على هذا النحو وراح يقارن بين انصياعِ هذا القطيعِ الكبير لعصا رجلٍ واحد وبين تنمر قطٍّ واحدٍ عليه ليدفعَ به إلى حافة العجز رغم استخدامه لعديدِ عصيٍّ وما يقع بيده من الأحذية والشباشب ومقذوفاتٍ أخرى، تداركَ دهشتَهُ حين تذكر الذئب الذي وهبه الله حقَّ الإقتيات على الخراف ورأى أن انصياعَ القطيع للراعي وعصاه هو الردُّ المناسبُ وربما الوحيدُ على عُسفِ السلطةِ الممنوحةِ للذئبِ مع جهلِ القطيعِ التامِّ بما يُعدّهُ الراعي من مصائرَ لأفرادِ القطيعِ فكرّ ملياً ما الذي يجعل القطيع يشعر بخطر الذئب فيركن إلى الراعي ولا يشعر بخطر ذلك الراعي الذي لا يريد إلا لحمَه وصوفَه؟ بينما الذئبُ يكتفي باللحمِ فقط! لكنه لم يجد ما يفسر ذلك بيدَ أنَّ الأمرَ مع القط مختلفٌ فالقط يشعر بالخطر الذي تمثله عصاه وفردة النعال التي طالما قذفها عليه ويقدر تماما ما يقدم عليه من أخطار ويجد لها حلولاً أما هو فكان يفسرُ ذلك بأن للقطِّ طبعَ الخيانةِ والغدرِ واللصوصيةِ وإن الإنسانَ لا يستطيعَ مجاراةَ القطّ في شؤونهِ. تواصلَ حديثهُ مع نفسهِ وهو يرتادُ طريقَه يوميا تحتَ رقابةِ عيونِ ذئابٍ تتخفى تحتَ لونٍ زيتونيٍّ مشوبٍ بلونٍ أغبرَ وإن ارتدتْ سحناتِ البشر، تقف تلكَ الذئاب دائما في الزوايا والتقاطعات وفي الأمكنة التي لابد من المرور بها بالأمس اختطفت سلمان المعلم ولم يَعُد يُرى بين الناس مبتسماً كعادته ساخرا من جميع ألوان الذئاب التي تتعقبه بشهية الدم الذي يقطرُ من جراحه. ولطالما حذره سلمان منها قائلاً: لاتدع جرحك يغلبك مثلما غلبني عضّ عليه وامنع نزفه فهو يثير شهيتها، سلمان لايملك ما للقط من قدراتٍ وكان متمرداً على الراعي شاهراً جراحه بوجه الجميع فتمكنت منه الذئاب سريعاً وها هي الذئاب ذاتها بلونها الكاكي وعيونها الحمر تترصده لتفترسه حال نجاحها بتتبع رائحته أو سماع صوت ثغائهِ ولو كان مكتوما، حرصَ على أن لا يمنحها تلك الفرصة كما فعل سلمان المعلم ولم يعفه ذلك من الإعتراف بأنه فردٌ قد شذّ عن القطيع وأن الجميع يبحث عنه، الرعاةُ والذئاب وكلٌّ له أسبابه وبينما يواصلُ مرورَه في الطرقات تندلقُ عليه عيون كثيرة يشعر بالتصاق نظراتها المستذئبةِ الفاحصة على وجهه وكتفيه وساقيه فتغزوه الرهبةُ وتتعثر أقدامه على الطريق ويكاد يفضحه الخوف لكنه يواصل السير بروحِ طيرٍ وَجِلٍ قد تاه عن سربه وحامت فوقه البُزاة وقد استعد للموتِ بيأسٍ مريعٍ هكذا تمضي يقظتهُ والأسى يقضمُ حياتهُ قطعةً قطعةً، على ذلك خلد للنوم وهو يشعر بأن شيئا ما فيه ليسَ على مايرام وإن شرّاً قد ألمّ به بعد تجواله المجلل بالخوف والتوجس تلك الليلة، أحس برغبةٍ ملحةٍ للصراخ على العيون التي تترقبه لكنه لو فعل ذلك لظن الناس أنه قد جُنّ فكتمَ صراخه واتجه إلى السرير، أخذه الوهن إلى عالم النوم وفي اللحظة التي ظن فيها أنه قد نام وجد نفسه أمام قط مطبخه الخائن لكنه كان قطاً مختلفاً هذه المرّة فقد كان مهول الحجم يزعقُ بوجهه وتكاد مخالبه الكبيرةُ تمزق جسدَهُ الصغير الذي بدا كجسد فأر، هكذا شاء الحلم أن يكون أمرهُ مع القط هذه المرة، راح يتراجع حتى أصبح خارج المنزل الذي تركه للقطّ بما فيه، شعر بانهيار قواة ووجد نفسه جالساً على دكة البيت كما يفعل كل يوم، لم يحدد الوقت لكنه رجّح أنه الوقت ذاته الذي اعتاد أن يراقب فيه الراعي وقطيعه ولم يدم انتظارُه طويلاً كما يقتضي الحلم إذ ظهر الراعي تحيط به جوقة ذئابٍ غُبرٍ مكشرةٍ عن أنيابٍ تقطرُ لعاباً، راح الراعي يتملقها وهو يلقي بالخراف إلى أشداقِ جوقةِ الذئاب واحداً بعد آخر والخرافُ بدتْ مستسلمةً تنظرُ ببلهٍ تارةً نحو الراعي وتارةً نحو الذئاب حتى أنها كفّتْ عن ثغائِها الذي لا معنى له وهي بين مخالب الذئاب وأنيابها تعاني لحظتها الأخيرة، حيّرَهُ هذا المشهد والتبس عليه الأمر وأدرك أن شيئا ما يجري بين الراعي والذئاب لا تعرفه الخراف، فكرَ أنهُ لولا الذئاب لما وُجدَ الرعاة ولكانت الخراف طليقةُ في المرعى وإن الخراف تؤدي دورها في الحالين تارةً خراف الراعي وتارةً فرائسَ للذئاب، قال في دخيلته ربما كان هذا هو دورها كما برأها الله أولَ مرّة وأدرك أن الغابة موطننا كلّنا وإن أبدلت عمالقة أشجارها بأبنية تناطح السحاب وقد خرجنا منها جميعاً، شعر بالعار مما توصل إليه ومن دور الخراف في هذه الغابة وتعجب من تهافت الرعاة وقدرتهم على الغدر بخرافهم وعلم أن الذئاب واصلت تخطيها لطبائعها وما رآه يؤكد ذلك وإن الرعاة لم يكونوا يوما إلا وكلاء للذئاب على القطيع وليسوا حماته فصرخ بصوت جريح: يا لهُ من بؤس...يالها من خيبة وراح يركض نحو الأمام ما امتدت أرض الحلم لاعنا الرعاة والخراف والذئاب وهو يشعر لأول مرة بخفةٍ في روحهِ وطلاقةٍ في حنجرتهِ لم يعهدها من قبل وراح يشق سماء الحلم بصراخه الغاضب بعدها شعر براحةٍ وسكون كشعور مصابٍ بهستيريا بعد النوبةِ وكأنه رجع لآدميته توا لكنه حين انتبه لم يجد أمامه لا دكة بيته ولا المدينة ولا قططها وذئابها ورعاتها، كل شيء اختفى ووجد نفسه في فضاء فسيح هكذا شاء الحلم، راق له هذا الشعور الذي لم يألفه من قبل، راح يتجول برأس مرفوع لأول مرّةٍ، في أرضِ الحلم، بدا سعيدا طليقا وتمنى أن يستمر ذلك إلى الأبد، لكنه سمع صوتاً من مكانٍ ما في هذا العالم الفسيح يسخر من انعتاقه وحريته السعيدة:
-أنت أيها الحالم ما نفع شعورك بالإنعتاق والحرية وأنت تعلم تماما أنك مجرد شخصٍ نائمٍ يحلم!؟ وعما قليل سوف تصحو وينتهي حلمك الجميل!
بينما كان ينصت للصوت الهازئ استهواه ذلك الشعور بالحرية فقرر الإستمرار بالتمرد مطلقا العنان لنفسه لتصدق ما هي عليه رافضا دعوى الصوت بأنه يحلم ومستهجناً رنة السخرية التي أبداها ذلك الصوت من شعوره بالحرية والإنعتاق رادّاً عليه:
- إذا كان ما تقوله صحيحا أيها الصوت فأنت أيضاً مجرد صوت في حلم لا حقيقة ولا قيمةَ لك ولا لما تقول، دعك من هذا الهراء واغرب عني .
أحس أن كل شيءٍ فيه خفيفٌ مثل ريشة في مهب نسيم وقد ضيّعَ الطريق إلى عالمِهِ القديم مُدركاً عجزَهُ التام عن العودة إليه، ولا خيارَ له إلا أن يتوغلَ بعيدا في ما هو فيه الآن، عالمٌ من البياض الجميل يسيرُ فيهِ مستسلماً لنشوةٍ غامرةٍ غيرَ عابئٍ بما تفضي إليه الأمور، لم يشكل ذلك فرقا مع هذا الشعور بالحرية ورحابة الفضاء، راحت الأفكار تبهتُ في
رأسهِ شيئا فشيئا وتلاشتْ جميعُها وغمرَ السلامُ روحَهُ فواصلَ السيرَ في حلمهِ دون توقف وكان سعيداً، لم يستيقظْ بعد ذلك أبداً[1].
[1] وإذ إسجل إعجابي ألشديد إزاء ألنص أعلاه والذي ينتصر به المبدع الجميل المطلبي للشعر والفلسفة ، فنحن اليوم أمام وثيقة ثقافية يمكن إعتمادها مقياس سيمتري بحروف تنبض بالحياة الحالمة المسترخية على صلابة ألبلاغة والعمق والثيمة ، مع مايحدث في دائرة ألأدب وألفن ، بهذا ألمقياس والجمال تتعثر نصوص مابعد ألحداثة الغارقة بالفانتازيا والهلوسة التي تدعي الصمت الذي له معنى ، في حين لانسمع منها إلا صمت من أجل ألصمت ، دمت مبدعا"- فاضل مطشر-ناقد
ريتشارد فاغنر
شعرَ بتوعُكٍ ألمَّ بهِ إثرَ مُطاردتهِ القطّ العنيدَ ذا الأنفِ الخارقِ الذي يستطيع التقاطَ رائحةِ الشواءِ والقلي من مسافاتٍ بعيدةٍ ودُهِشَ لقدرةِ القطِّ على مواجهةِ الخطرِ المحدقِ به إثرَ إقدامهِ على السطو وعدم مبالاتهِ بما يُحتمَل من نتائج وهو يتجه لاختلاس الطعام الموضوع على المنضدة، شعر أن القط الذي بالغَ بتهورهِ قد أنهكَ قواه في مطاردةٍ غير متكافئة تكون الغلبةُ فيها دائماً للقط الذي ينفلت وهو أكثر نشاطا بينما يقع هو أرضاً من شدة التعب وتسائل هل يبغي القط دفعَهُ الى اليأسِ وربما الموت؟، كانت تلك أفكارُه حين جلسَ على دكةِ البابِ كما يفعلُ كلَّ يومٍ في الوقتِ ذاته وقتَ انحدارِ الشمسِ نحو الغرب حيث تغيب هناك، يصادفُ ذلكَ رجوعَ الراعي بقطيعهِ من الحقلِ واضعاً عصاهُ الغليظةَ على كتفيهِ معلقاً ذراعيه عليها كما يفعلُ الرعاةُ عادةً وكأنهُ يحرصُ على أن لا تغيب العصا عن عيونِ القطيع ، القطيعُ بينَ مطأطئٍ ورافعٍ رأسَهُ قليلا لكنهُ يواصلُ ثغائَهُ بوتيرةٍ متصلةٍ، يتبعُ الراعيَ ذا العصا الغليظةِ، أدهشه خضوعُ القطيعِ لِهَيبَةِ العصَا معَ وجودِ كل أولئك الذكور ذوي القرون الملتويةِ بين أفراده وكأنه ينتبه لذلك أولَ مرة رغم أن مشهد القطيع كان مألوفا في مدينتنا التي يأوي إليها الكثيرُ من القطعان بيْدَ أنهُ لم يفكر في ما مضى على هذا النحو وراح يقارن بين انصياعِ هذا القطيعِ الكبير لعصا رجلٍ واحد وبين تنمر قطٍّ واحدٍ عليه ليدفعَ به إلى حافة العجز رغم استخدامه لعديدِ عصيٍّ وما يقع بيده من الأحذية والشباشب ومقذوفاتٍ أخرى، تداركَ دهشتَهُ حين تذكر الذئب الذي وهبه الله حقَّ الإقتيات على الخراف ورأى أن انصياعَ القطيع للراعي وعصاه هو الردُّ المناسبُ وربما الوحيدُ على عُسفِ السلطةِ الممنوحةِ للذئبِ مع جهلِ القطيعِ التامِّ بما يُعدّهُ الراعي من مصائرَ لأفرادِ القطيعِ فكرّ ملياً ما الذي يجعل القطيع يشعر بخطر الذئب فيركن إلى الراعي ولا يشعر بخطر ذلك الراعي الذي لا يريد إلا لحمَه وصوفَه؟ بينما الذئبُ يكتفي باللحمِ فقط! لكنه لم يجد ما يفسر ذلك بيدَ أنَّ الأمرَ مع القط مختلفٌ فالقط يشعر بالخطر الذي تمثله عصاه وفردة النعال التي طالما قذفها عليه ويقدر تماما ما يقدم عليه من أخطار ويجد لها حلولاً أما هو فكان يفسرُ ذلك بأن للقطِّ طبعَ الخيانةِ والغدرِ واللصوصيةِ وإن الإنسانَ لا يستطيعَ مجاراةَ القطّ في شؤونهِ. تواصلَ حديثهُ مع نفسهِ وهو يرتادُ طريقَه يوميا تحتَ رقابةِ عيونِ ذئابٍ تتخفى تحتَ لونٍ زيتونيٍّ مشوبٍ بلونٍ أغبرَ وإن ارتدتْ سحناتِ البشر، تقف تلكَ الذئاب دائما في الزوايا والتقاطعات وفي الأمكنة التي لابد من المرور بها بالأمس اختطفت سلمان المعلم ولم يَعُد يُرى بين الناس مبتسماً كعادته ساخرا من جميع ألوان الذئاب التي تتعقبه بشهية الدم الذي يقطرُ من جراحه. ولطالما حذره سلمان منها قائلاً: لاتدع جرحك يغلبك مثلما غلبني عضّ عليه وامنع نزفه فهو يثير شهيتها، سلمان لايملك ما للقط من قدراتٍ وكان متمرداً على الراعي شاهراً جراحه بوجه الجميع فتمكنت منه الذئاب سريعاً وها هي الذئاب ذاتها بلونها الكاكي وعيونها الحمر تترصده لتفترسه حال نجاحها بتتبع رائحته أو سماع صوت ثغائهِ ولو كان مكتوما، حرصَ على أن لا يمنحها تلك الفرصة كما فعل سلمان المعلم ولم يعفه ذلك من الإعتراف بأنه فردٌ قد شذّ عن القطيع وأن الجميع يبحث عنه، الرعاةُ والذئاب وكلٌّ له أسبابه وبينما يواصلُ مرورَه في الطرقات تندلقُ عليه عيون كثيرة يشعر بالتصاق نظراتها المستذئبةِ الفاحصة على وجهه وكتفيه وساقيه فتغزوه الرهبةُ وتتعثر أقدامه على الطريق ويكاد يفضحه الخوف لكنه يواصل السير بروحِ طيرٍ وَجِلٍ قد تاه عن سربه وحامت فوقه البُزاة وقد استعد للموتِ بيأسٍ مريعٍ هكذا تمضي يقظتهُ والأسى يقضمُ حياتهُ قطعةً قطعةً، على ذلك خلد للنوم وهو يشعر بأن شيئا ما فيه ليسَ على مايرام وإن شرّاً قد ألمّ به بعد تجواله المجلل بالخوف والتوجس تلك الليلة، أحس برغبةٍ ملحةٍ للصراخ على العيون التي تترقبه لكنه لو فعل ذلك لظن الناس أنه قد جُنّ فكتمَ صراخه واتجه إلى السرير، أخذه الوهن إلى عالم النوم وفي اللحظة التي ظن فيها أنه قد نام وجد نفسه أمام قط مطبخه الخائن لكنه كان قطاً مختلفاً هذه المرّة فقد كان مهول الحجم يزعقُ بوجهه وتكاد مخالبه الكبيرةُ تمزق جسدَهُ الصغير الذي بدا كجسد فأر، هكذا شاء الحلم أن يكون أمرهُ مع القط هذه المرة، راح يتراجع حتى أصبح خارج المنزل الذي تركه للقطّ بما فيه، شعر بانهيار قواة ووجد نفسه جالساً على دكة البيت كما يفعل كل يوم، لم يحدد الوقت لكنه رجّح أنه الوقت ذاته الذي اعتاد أن يراقب فيه الراعي وقطيعه ولم يدم انتظارُه طويلاً كما يقتضي الحلم إذ ظهر الراعي تحيط به جوقة ذئابٍ غُبرٍ مكشرةٍ عن أنيابٍ تقطرُ لعاباً، راح الراعي يتملقها وهو يلقي بالخراف إلى أشداقِ جوقةِ الذئاب واحداً بعد آخر والخرافُ بدتْ مستسلمةً تنظرُ ببلهٍ تارةً نحو الراعي وتارةً نحو الذئاب حتى أنها كفّتْ عن ثغائِها الذي لا معنى له وهي بين مخالب الذئاب وأنيابها تعاني لحظتها الأخيرة، حيّرَهُ هذا المشهد والتبس عليه الأمر وأدرك أن شيئا ما يجري بين الراعي والذئاب لا تعرفه الخراف، فكرَ أنهُ لولا الذئاب لما وُجدَ الرعاة ولكانت الخراف طليقةُ في المرعى وإن الخراف تؤدي دورها في الحالين تارةً خراف الراعي وتارةً فرائسَ للذئاب، قال في دخيلته ربما كان هذا هو دورها كما برأها الله أولَ مرّة وأدرك أن الغابة موطننا كلّنا وإن أبدلت عمالقة أشجارها بأبنية تناطح السحاب وقد خرجنا منها جميعاً، شعر بالعار مما توصل إليه ومن دور الخراف في هذه الغابة وتعجب من تهافت الرعاة وقدرتهم على الغدر بخرافهم وعلم أن الذئاب واصلت تخطيها لطبائعها وما رآه يؤكد ذلك وإن الرعاة لم يكونوا يوما إلا وكلاء للذئاب على القطيع وليسوا حماته فصرخ بصوت جريح: يا لهُ من بؤس...يالها من خيبة وراح يركض نحو الأمام ما امتدت أرض الحلم لاعنا الرعاة والخراف والذئاب وهو يشعر لأول مرة بخفةٍ في روحهِ وطلاقةٍ في حنجرتهِ لم يعهدها من قبل وراح يشق سماء الحلم بصراخه الغاضب بعدها شعر براحةٍ وسكون كشعور مصابٍ بهستيريا بعد النوبةِ وكأنه رجع لآدميته توا لكنه حين انتبه لم يجد أمامه لا دكة بيته ولا المدينة ولا قططها وذئابها ورعاتها، كل شيء اختفى ووجد نفسه في فضاء فسيح هكذا شاء الحلم، راق له هذا الشعور الذي لم يألفه من قبل، راح يتجول برأس مرفوع لأول مرّةٍ، في أرضِ الحلم، بدا سعيدا طليقا وتمنى أن يستمر ذلك إلى الأبد، لكنه سمع صوتاً من مكانٍ ما في هذا العالم الفسيح يسخر من انعتاقه وحريته السعيدة:
-أنت أيها الحالم ما نفع شعورك بالإنعتاق والحرية وأنت تعلم تماما أنك مجرد شخصٍ نائمٍ يحلم!؟ وعما قليل سوف تصحو وينتهي حلمك الجميل!
بينما كان ينصت للصوت الهازئ استهواه ذلك الشعور بالحرية فقرر الإستمرار بالتمرد مطلقا العنان لنفسه لتصدق ما هي عليه رافضا دعوى الصوت بأنه يحلم ومستهجناً رنة السخرية التي أبداها ذلك الصوت من شعوره بالحرية والإنعتاق رادّاً عليه:
- إذا كان ما تقوله صحيحا أيها الصوت فأنت أيضاً مجرد صوت في حلم لا حقيقة ولا قيمةَ لك ولا لما تقول، دعك من هذا الهراء واغرب عني .
أحس أن كل شيءٍ فيه خفيفٌ مثل ريشة في مهب نسيم وقد ضيّعَ الطريق إلى عالمِهِ القديم مُدركاً عجزَهُ التام عن العودة إليه، ولا خيارَ له إلا أن يتوغلَ بعيدا في ما هو فيه الآن، عالمٌ من البياض الجميل يسيرُ فيهِ مستسلماً لنشوةٍ غامرةٍ غيرَ عابئٍ بما تفضي إليه الأمور، لم يشكل ذلك فرقا مع هذا الشعور بالحرية ورحابة الفضاء، راحت الأفكار تبهتُ في
رأسهِ شيئا فشيئا وتلاشتْ جميعُها وغمرَ السلامُ روحَهُ فواصلَ السيرَ في حلمهِ دون توقف وكان سعيداً، لم يستيقظْ بعد ذلك أبداً[1].
[1] وإذ إسجل إعجابي ألشديد إزاء ألنص أعلاه والذي ينتصر به المبدع الجميل المطلبي للشعر والفلسفة ، فنحن اليوم أمام وثيقة ثقافية يمكن إعتمادها مقياس سيمتري بحروف تنبض بالحياة الحالمة المسترخية على صلابة ألبلاغة والعمق والثيمة ، مع مايحدث في دائرة ألأدب وألفن ، بهذا ألمقياس والجمال تتعثر نصوص مابعد ألحداثة الغارقة بالفانتازيا والهلوسة التي تدعي الصمت الذي له معنى ، في حين لانسمع منها إلا صمت من أجل ألصمت ، دمت مبدعا"- فاضل مطشر-ناقد