خيري حسن - في ذكرى الرحيل: زيارة «جديدة» إلى قبر أمل دنقل

الطبيب:
«أنت تجاوزت كل احتمالات الطب في العلاج»!
- أمل: «كيف»؟
- الطبيب: «لقد امتلكت إرادة انتصرت على احتمالات الطب»!
أمل يبتسم بسخرية قائلأ:
- «أنا أُقاوم.. لأني لا أملك سوى المقاومة»!
(الغرفة (
😎
- 1982)
•••
•• «لا تصالح..
ولو توجوك بتاج الإمارة»
(محطة القطار - 1982)
أجلس في محطة السفر، في طريقي لزيارة الشاعر أمل دنقل في القاهرة بمعهد الأورام، الساعة تقترب من العاشرة من صباح ذلك اليوم الغائم، أحمل معي باقة ورد اشتراها طلاب «قسم اللغة العربية بكلية الآداب -جامعة المنيا»، وفوضوني لأني أُحب «أمل» وشعره - بالقيام بهذه الزيارة وتقديم باقة الورد إليه. بعد دقائق سيتحرك القطار وبعد ثلاث ساعات تقريبًا سأكون في حضرة هذا الشاعر العظيم الذي باغته المرض اللعين منذ سنوات قليلة! وبالفعل تحرك القطار!
•••
•• «لا تصالح..
ولو منحوك الذهب»
(القاهرة - شارع قصر العيني)
الساعة اقتربت من الثانية من بعد ظهر اليوم نفسه، عندما غادرت محطة مصر واتجهت إلى شارع قصر العيني. وصلت بالقرب من ذلك المبنى الضخم، الكئيب، الذي يحجز وراء حيطانه الموت والحياة معًا، خلف أبواب صماء، مغلقة. جلستُ على مقهى أشرب الشاي قبل الصعود إلى غرفته التي يُعالج فيها. رواد المقهى بجواري يتسامرون، ويتحدثون، ويطلقون ضحكات بلهاء، وهم لا يعلمون أنه على مقربة منهم يتمدد جسد أمل دنقل على سرير أبيض وتحت ستائر بيضاء ونوافذ سوداء. جسد من قال عنه يوسف إدريس : «موقعه - كما سيقول التاريخ - هو موقع المتنبي»!. ومن قال عنه جابر عصفور : «لم يعرف التفاؤل القومي الساذج الذي عرفه شعر غيره». ومن قال عنه لويس عوض : «إنه يحمل إلى قارئه عبق الشعر العظيم».
«الحساب يا أستاذ» - بهذا الطلب العاجل باغتني القهوجي لأنه حسب قوله ينهي وردية عمله الصباحي.. وقد كان!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل رأس برأس»
( المستشفى - بعد مرور ساعة)
ترجلت في الشارع حتى وصلت إلى البوابة الرئيسية، وبدأت بالصعود على سلم متهالك بعض الشيء. الجو كئيب، مقبض، ورائحة الموت في كل مكان. في الممر.. في الطرقات.. وعلى وجوه العاملين، والزائرين، وأنا لا أعرف بالتحديد إلى أين المصير وكيف الوصول إلى حجرته!
ـ «يا ابني أنت.. رايح فين»؟
ـ أبحث عن غرفة الشاعر أمل دنقل؟
ـ «آه بتاع قصيدة 'لا تصالح' و 'زرقاء اليمامة' وكده! عارفاه.. شوف، انزل السلم الچاي وامشي في طرقة كبيرة، وبعدها اركب الأسانسير، ثم انزل الدور السابع هتلاقي ممر طويل.. في نهايته ستجد غرفته»! - بهذه الكلمات وصفت لي المكان ممرضة تعمل في المستشفى ثم قالت لي : «أنا كنت بحب أعدي عليه لأنه شاعر كبير، وكفاية إنه قال لنا إوعوا تتصالحوا مع الصهاينة.. بس يا خسارة، الرئيس السادات الله يرحمه، مسمعش كلامه! ياريت كان الرئيس السادات قرأ القصيدة دي.. مش چايز لو قراها كان سابه من حكاية الصلح مع الصهاينة دي؟ أنا كنت دايماً أقول لزوجي كده كل ما أسمعه بيقراها في بلكونة بيتنا». قلت وأنا أبتسم لها: جايز برضه..
ثم ودعتني مسرعة وهي تقول بصوت مسموع : « آه.. ابقى بلغه سلامي.. وقوله.. أنا مقطعنيش عن الطلوع ليه إلا الشديد القوي بعد ما اتنقلت إلى قسم التحاليل». ثم قالت وهي تشيح بيدها التي تحتضن حزمة دوسيهات وملفات: «ابقى قوله كمان .. خالتك بهية.. بتقولك: احنا مصدقينك يا غالي.. ومش هنصالح»!
قلت وأنا أبتسم مرة أخرى: حاضر يا خالة بهية.. يوصل!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام»
(الغرفة بعد 10 دقائق)
أقف على باب الغرفة وأطرق طرقات خفيفة، لا أحد يرد.. مرة.. اثنين.. الباب بدأ يفتح بهدوء. الورد في يدي وكأنه يهتز طربًا.. خلف الباب يظهر رأس طفل جاء صوته قائلًا: «اتفضل يا عمو.. أمل بيقولك اتفضل»!
- أمل.. هكذا بدون أستاذ؟
تحركت ببطء. أشعر بجسدي يرتعش، والعرق يتصبب من وجهي. تقدمت خطوة.. خطوتين.. حتى رأيته يجلس على سريره ويسند ظهره إلى الخلف وفي يده قلم وأوراق صفراء. نظر ناحيتي، وبعد لحظات من الصمت، ابتسم قائلاً : «تعالى.. أنت مين»؟ بعد لحظات أخرى من الدهشة والحيرة، والارتباك، والخوف، قلت اسمي ولماذا جئت من مدينتي التي تبعد عن العاصمة 278 كم. قال: «اتفضل.. إجلس». وأشار إلى مقعد بالقرب منه. الطفل مازال يلهو بجوارنا وعرفت فيما بعد أنه مريض أيضًا ويعاني من المرض نفسه، ويأتي للجلوس معه كل فترة، حتى أصبح الشاعر والطفل صديقين والمرض ثالثهما. بعد 30 دقيقة من الحديث المتبادل تركته وغادرت الغرفة التي قال لي فيها وكأنها وصية للشعر والشعراء، قال: «أهم شعراء العالم العربي: أدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، وسلمى الخضراء، وسعدي يوسف. أما في جيلي فأنا أحب محمود درويش، وحسب الشيخ جعفر ، وممدوح عدوان، وأحمد دحبور». ثم صمت بعض الوقت قبل أن يقول: «الشاعر يجب أن يكون له موقف في المجتمع. والشاعر الحقيقي، في جوهره، هو الشاعر المعارض. والشاعر الحقيقي هو الذي يرفض الواقع لأنه يحلم بواقع أحسن. والشاعر الحقيقي هو الذى يحلم دائمًا أن يجعل الشعر واقعًاً وأن يجعل الواقع شعرًا. والشاعر الحقيقي هو الذى يحمل رؤية اجتماعية وسياسية». وبعدما انتهى من حديثه الهادئ قمت ووضعت باقة الورد أمامه، ثم نظر إلي نظرة حانية لحظة وداعي له في الوقت الذي كان الطفل (صديقه المريض) قد غادر الغرفة وعاد إلى حجرته! ودعته وأنا أدعو الله أن ينقذه من ذلك المرض اللعي.. لكن للأسف لم يستجب الله إلى دعائي ودعاء كل محبيه ومات بعد شهور. مات بعد سنوات من التمرد، والسفر، والشعر، والمرض، والصبر، والمقاومة!
•••
•• «لا تصالح..
فما ذنب تلك اليمامة»
(المنيا - بعد مرور عام)
اليوم 21 مايو 1983 من ذلك العام سمعت نبأ وفاته.. خبر محزن.. ومؤلم.. كنت أعرف -مثل غيري- حتمية النهاية، وكنت أعرف أن الموت يقف بجواره متأهبًا وشاهرًا سيفه وهو على سريره ممددًا ومستسلمًا. كنت أعرف، منذ زيارتي له قبل عام، أن الموت منه يقترب.. رغم أنه أمام زائريه ومحبيه يتماسك ويبتسم!
ليلة أمس اقترب الموت منه حتى التصق به.. وهو مازال مقاومًا، وباسمًا، وصابرًا، وساخرًا من تلك الحياة! ألم يقل له طبيبه ذات يوم: «لقد امتلكت يا 'أمل' إرادة انتصرت على احتمالات الطب»! نعم من الممكن أن نقاوم المرض وقد ننتصر عليه بالإيمان والإرادة، لكننا نعجز عن الانتصار على الموت.. وتلك هي أقدارنا مع الحياة! لقد تابعت، في الأيام الماضية، من خلال ما تنشره الصحف وأحاديث الأصدقاء عن أيامه الأخيرة، وساعاته الحزينة، قبل ومع الموت. قالوا: انهارت التقارير، والمحاليل، والتحاليل، والأدوية قبل ساعات من ذلك اليوم المشهود والموعود. والموت يقترب.. الموت الذي ربما لا يعرف أنه الآن في زيارة أحد أكبر شعراء مصر والوطن العربي في عصرنا الحديث.
•••
•• «لا تصالح..
ولا تقتسم، مع من قتلوك، الطعام»
(الغرفة 8 - ليلة الوفاة)
'أمل' الآن ينظر إلى الموت بلا خوف. والأهل والأصدقاء، وجماهير الأمة العربية، يرسلون له الدعاء والكلمات: «يا أمل لن نراك مريضًا». ويرددون ما كتبه يوسف إدريس في «الأهرام»: «بالله يا 'أمل' لا تمت.. فكلنا فداؤك». و'أمل' .. بقدر ما يستطيع .. يستجيب ويقاوم. الوقت يمر. والموت يقترب.. وقبل وفاته بعشر ساعات زاره الكاتب والصحفي السعودي خالد الهميل. يقول خالد عن تلك اللحظات: «سألني: لماذا تقف هكذا؟ قلت: أحب الوقوف بجوارك يا 'أمل'. ابتسم ثم قال: "أخاف عليك من التعب". فبكيت وتركت الحجرة مسرعًا. ومنذ ساعات زاره ناصر الخطيب - مدير مكتب جريدة "الرياض" بالقاهرة، في ذلك الحين.. الذي مَالَ عليه باكيًا، واقترب من أذنه هامسًا: «قاوم.. يا 'أمل'»! وبعد لحظات من غيبوبة الموت انتبه ثم قال: «لا ملك سوى المقاومة»!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل إن التصالح حيلة»
(الغرفة 8 - بعد منتصف الليل)
عندما وصلت الساعة الثالثة صباحًا - كما تقول عبلة الرويني - «نظر إلي.. ولم يكن يقوى على الصراخ.. عيناه كانتا تطلبان الراحة.. بعد دقائق أغمض عينيه بهدوء. ودخل في غيبوبة أخيرة. وبعد خمس ساعات من تلك الغيبوبة كان وجهه هادئًا. وجسده مستسلمًا، بعدما قال للمرة الأولى في حياته: نعم! قالها للموت فقط»!
كل هذا عرفته، مثل غيري، وتابعته بالدموع والشموع والورود على روحه. لذلك قررت السفر إلى مسقط رأسه وحضور مراسم دفنه، لأنني تذكرت رسالة / وصية كانت له معي ويجب إيصالها إليه حيًا أو ميتًا!
•••
•• «لا تصالح..
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ»
(قنا - يوم وصول جثمانه)
بعدما توقف بي القطار في "محطة السكة الحديد" بميدان "المحطة" خرجت مسرعاً إلى الساحة الرئيسية لمدينة قنا التي تبعد عن القاهرة 676 كم (جنوباً) واستقللت سيارة أجرة رفض صاحبها أن يتقاضى مني أي أجر عندما عرف سبب زيارتي العاجلة. وصلت مبكرًا إلى المقابر في قرية تسمى "القلعة" -مسقط رأسه- في انتظار وصول جثمانه. ثم وقفت بعيداً بعض الشيء حتى انتهت مراسم الدفن، وانصرف مشيعوه الكثر، محملين بتراب الأرض والدموع. وعندما بدأت الساحة بجوار قبره تهدأ بصورة واضحة تقدمت إلى قبره ومددت يدي حتى أسندت ظهري وأنا أقاوم تعبي الشديد، قدر المستطاع، ونجحت بالفعل في هذا، وإن كنت قد فشلت في كبح دموعي التي بدأت تتساقط بشدة وأنا أخاطبه بصوتي الحزين المبحوح قائلًا: «يا أملنا الذي رحل، هل تسمعني؟ أرجوك أن تسمعني: عندما زرتك في فراش مرضك قبل عام نسيت أن أقول لك، ربما من رهبة اللقاء بك، أن الست الحكيمة / الممرضة "بهية أم عبد الودود"، التي دلتني على غرفتك في المعهد، قد أوصتني بوصية إليك قالت فيها:
«ابقى بلغه سلامي.. وقوله كمان.. احنا مصدقينك يا غالي.. ومش هنصالح»..
•• الخميس 20 مايو / 2021 - صحيفة "الوفد" (العدد الإسبوعي)
•••
• الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
المصادر:
•• المجلات:
"الحوادث" اللبنانية / "المصور" / "الهلال" / "آخر ساعة".
•• الصحف: "الأهرام" / "الأخبار" / "الجمهورية" / "الوفد".
•• الكتب:
- الأعمال الكاملة - أمل دنقل - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1997.
- كتاب «الجنوبي» - عبلة الرويني - طبعة "الشروق" - 1985.
-
[بقلم / خيري حسن]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى