أنس الرشيد - مقدمةُ الريحِ... مِنْ حوارٍ مع أبي حامدٍ الغزّالي.

  • عتبةٌ خلفَ ستارةِ المسرح:
هذا الحوارُ جزءٌ من مخطوطةٍ أُكلتْ في وليمةٍ للنمل الأبيض وهو يغزو التتار.

____


  • ما الريحُ يا أبا حامد؟
= ربما هيَ محاولة امتلاكُ مقاليدِ السمواتِ والأرض، وتسييلها في القراطيس…! لكنْ في سَوْرة الحدس؛ رأيتُ أنَّ المتعالي لابدَّ له من رسولٍ؛ يحملُ ملامحَ الريح التي تَعِدُ بأن تمحوَ أنساقَ السنين، وتوقظك من سُباتِ ما تراه، لتحملك على أكتافِ ما وراء المدركات.

  • ألهذا كتبتَ سرديات ما بعد الشك؟
= جاءت تلك السرديات؛ تخفيفًا من أعباءِ الريح؛ التي طالت إرهاصاتها؛ ومنها ما يجده القارئ – مسطورًا-من تناقضات لا تحصى لكلِ ما كُتب وسيكتب؛ فلا يغضَّ الطرفَ؛ وليمعنْ، وليتفرّس... فقد يجد ذاته مشطورة بين صفحاتٍ متعددة، وقد يجدها محشورة بينها، وقد يمزقها كلها، فالصفحة الملاصقة لذاته لم تأتِ بعد! وقد يجد غير ذلك بحسب الحشر في الزجاجة مع الشمس. فما هذه الكتابات إلا نطفة محشورة مع القارئ، ونظرها لا يجاوز نظره، إنما يصارعها مرة ويهادنها مرار، ويحاول أن يكسر هدوء لغة الشعاع وهي تنبثق في أفق البحر.

  • إن كان الأمر كما قلتَ فما الكتاب إذن؟
= ربما هو إيقاف للزمن...؛
فإن كانت اللغةُ سائلةً متحركة، فهل يوازيها الفكر...!
هل الكتابُ هو النصُّ الذي دُعِم من قِبل عقول رفعته بالقوة والفعل إلى مصافِّ ما فوق الواقع؟!
ربما يراه الكثير هكذا، فإن كان؛ فهل النص الذي رفع نفسه -بقوته وقوة ناصِّه، من خلال سدِّ منافذ الضد-يمكن أن نتأمل دخوله في مفهوم الكتاب؟ لكن الرفع بالقوة أو بالفعل أو بكليهما سيظل نازلا عند آخرين، ومن ثمّ لا محيد عن الواقعية التي يجاوزها الزمن؟ فهل كلُّ ما يخطر في بالك عن مفهوم الكتاب فهو ذلك فعلا، وغير ذلك قوة؟ أم مفهومه: فكرة تنفُذ في داخل نسق المعرفة لتقول شيئا جديدا؟!
ولو استعرتُ من الجاحظ قوله " الكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك..."
سأسأل: هل كتاب الحيوان التي وردت به هذه العبارة يطيل الإمتاع لجميع مَنْ يقرؤه؟ أم أنَّ (متعة) الجاحظ تشير إلى أنَّ وصفَ الكتاب بحسب مَنْ يقرؤه؟ فيكون البيان والتبيين كتابا عند زيد، وليس كتابا عند عُبيد، وكمثل قول: " ربابةُ ربّة البيت. تصب الخل في الزيت" هي عند تلك الجارية أجود وأعظم وأطرب من " كأن مثار النقع فوق رؤوسنا..."؟ فالجارية لن تخجل أن تقول: ما أسوأ: "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل". ولن يهمها وجود معانٍ وألفاظ تخمَّرت في أذهانِ النُقادِ فأسَّست بُنية تحليلية لـــ ربابة ربة البيت.
إذن هل الكاتِبُ هو الذي يُفكِّر بلُعبةٍ تتشابك دوالّها – بطريقٍ ليس موجّهٍ-لتصنع بنيانا دالّا على قراءةٍ نقديةٍ تقوم على التفكيك لا التأسيس من جهة، وبنيانًا يضمن المتعة الإبداعية من جهة أخرى، وهذه المتعة هي معيار أصيل في التلقي المتعدد – كما أشرنا في قولِ الجاحظ-وكأنَّ الكاتبَ هُنا سيخاتل كل قارئ، ليخرج به لما يريد، وفي الوقت نفسه يكتب ما يريد هو.

  • كيفَ تجمعُ بين هذا الكلام والنظرية الحدسية لديك، وخصوصا أنك قلتَ في صحيفة طوس عن أساليب التفلسف بمناسبة صدورِ كتابك تهافت الفلاسفة: "من لم يكن ماورائيًا لا يُعَوّل على فلسفته". وقلتَ "مِنَ الإرادةِ القديمة جاء الكونُ الحديث، ومن ثمّ كانت الإرادةُ ثابتا يقف خلف المتغيرات الثقافية للوجود الإنساني"؟
= لا تحاول أن تجمع، بل أمعن في التناقضات وصيرورتها ففيها روح الوجود، وما قلتُه لك هنا هو التحدّي الحقيقي الذي ربما سيجعل من الكاتب يرضخ -في لا وعيه-إلى مسار الشذرات المتوالية، المتوافقة مع عصور المابعد...

  • هل تعني بالمابعد. ما بعد الشك الغزّالي؟
ربما...! أو ربما ما بعد التهافت...!! ليكون مفهوم الكتاب لا "خذه بيمينك" ولا " خذه بيسارك". إنما نص أرضيَّته التأويل، وسماؤه الشذرات، ووقوده النصوص السابقة عليه؛ بغية تجاوزها وإزاحة ما عَلِقَ عليها من أنساقٍ تُوقف تحررها. وفي نصِّ الجاحظ السابق قولُ: " الكتاب هو الذي إنْ نظرتَ فيه...جوَّدَ بنانك، وفخَّم ألفاظك"، وذلك داخل في مفهوم الكتاب -بمعناه الذي أوردتُه-من جهة أنَّ لنصّ الكتاب نبرة تُشير على صاحبها، -لا من جهة كونه معروفا عند جماعةٍ، بل من جهة كونه صوتا من الأصوات الموجودة في الفضاء-وهذه الإشارة تُبنى من الطريقة التفكيكية والإمتاعية على حد سواء. تلك الطريقة التي سيُدخِلها الزمن في سياق البصمة التي يكون موضوعها مُدْغَما في ذات كاتبها، وقد يُدخلها إلى سياق نمط أجناسي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى