بهاء المري - فَراسَة محام (*)

ما من مَللٍ أصِيبَ به أحدٌ قَطُّ، كذلك الذي يُصيبُ مُمثِّل الاتهام في جَلسة الجنح بمَحاكم الرِّيف، إنه الجَّالس الصَّامت على يمين المنصة، إلا إذا طَلبَ منه القاضي شيئًا، وغالبًا لا يَطلُب؛ لأنَّ القاضي لا وقتَ لديه حتى ليَلتفِتَ صَوبَه، ومن ثم يُشاغِل نَفسه بمُتابعة انفعَالات المتهمين وذَويهم أو المجني عليهم وأهليهم، أو الحُضور عُمومًا، أو ما يَصدُر عن كل هؤلاء من مَواقف، ثم الشُّرود والتفكير فيما لا تَدع ظروف العَمَل مَجالاً للتفكير فيه من أمُور عامة أم خاصة.
وما يَلبَث القاضي أن يَنظرَ رُبْع عَدد القضايا المُدوَّنة بالرُّول؛ إلا وسرعان ما تُخيِّم الرَّتابة على جو القاعة؛ ما لم يأت أحدٌ من المتهمين أو جمهور الحضور بموقف فُكاهيٍّ يَستشعر الجميع أنه تلقائي بَحتٌ غير مُفتعل، وما عدا ذلك، فإن المَلل الفظيع يكون هو حَظ وكيل النيابة؛ فيأتيه سُلطان النوم على عَجَل، ويَهوى بكل طاقته فوق رأسه، فيَجعل من كل دقيقة تمر ليلاً طويلاً سَرمدًا، ويظل هكذا حتى يأتيه الفرَج ويَرفع القاضي الجلسة، وهنا يَستشعر - وكيل النيابة - أنه قد فُكَّ أسْره.
إنها روايات واحدة وإن اختلَفَت شُخوصها ومَسارح الأحداث فيها، بَيْدَ أنَّ هذه الروايات كثيرًا ما تَتمخَّض عن مواقف ومُفارقات من ذلك النوع؛ سرعان ما تطيح بمثل هذا الكسَلْ من فَرْط طرافتها، وتَبعث الحياة في الجلسة من جديد، بل تدعو من بَعد إلى عَميق التأمُّل والتَّفكُّر فيها.
بينما كنتُ مُمثلا للنيابة العامة بإحدى هذه الجلسات بمحكمة جزئية من محاكم الأرياف، وكانت الجلسة تسير على مثل هذه الوتيرة من الملَل والرَّتابة، وقَف المتهم أمام المنصَّة فسأله القاضي:
- هل سرَقتَ بطة فلان؟
وقبل أن يُجيب المتهم عن هذا الاتهام بالاعتراف أو بالإنكار، انبرَى أحد المحامين من بين الجالسين في الصفوف الأولى في هِمَّة ونشاط سبَق بهما المتهم نفسه، وتوجَّه بحديثه مباشرة إلى القاضي ليقول:
- نعم، لقد أخَذ مُوكِّلي - فعلاً - هذه البطة!
تَعجَّبَ الناس من قوله، وسَرَتْ في القاعة هَمهمَة بين المحامين سرعان ما تلاشَتْ حين دَقَّ القاضي بمُؤخرة قلمه الرصاص على المنصة.
بدَت علامات الدهشة على وجوه الحُضور؛ فما لهذا المحامي يُقرُّ بارتكاب مُوكِّله جريمة سرقة، هل قبَضَ منه أتعابًا ليَزجَّ به في غَياهب السِّجن؟ أم ليُدافع عنه ويُبرِّئ ساحَته؟!
وهُنا عادت الرُّوح إلى الجلسة من جديد، انتبهَ كل من كان قد نالَ منه الكسَل وأصبح الجميع مِثلى في شَوق لسَماع هذه المرافعة الفريدة.
انتبهتُ معهم من شِبه غفوة كانت قد أثقلتْ رأسي، وأطاحَ قول المحامي بسُلطان النوم عَنِّى بلا رَجعة، بَيْدَ أنَّ قوله هذا لم يُصِبني بمثل هذا الاسْتغراب الذي شاهدتهُ على الوجوه الحاضرة، فإن استهلال المحامي لمرافعته بهذه العبارة لا يَعني أبدا أنه يُقرُّ بارتكاب مُوكِّله الجريمة المنسوبةَ إليه، وإنما هو من غير شك تَخريجٌ طريفٌ للواقعة، لابُدَّ أن يكون َمقصِده منه البراءة حتى وإن لم يَطلبُها صراحةً.
وقبل أن يُجهدَ الحاضرون أنفسهم في فَهْم ما حَدث أو اسْتنباط ما يَرمى إليه المحامي فقد أراحَهم هو من ذلك إذ اسْتطرد يقول:
- إن مُوكِّلي جارٌ للمجني عليه، إذ تَتجاوَر هو وآخرون مَساكنهم، وقد شَاهَدَه الأخير وبعض الجيران ممن تَتلاصَق أسطح منازلهم هذه؛ وهو يأخذ البطة المدَّعى بسرقتها، ولكنى أوضِّح لعدالة المحكمة نُقطة غاية في الأهمية، إنَّ هذه التي ادَّعى المجني عليه أنها بَطة، لم تكن كذلك، وإنما هو ذَكرٌ من البط، ولم يكن اسْتحصَال مُوِّكلي عليه بنية تملُّكه؛ وإنما لأنَّ لديه عددًا من إناث البط كان في حاجة لمثل هذا الذكر؛ وكان سوف يُعيده!
وهنا ضجَّت القاعة عن آخرها بالضَّحك، وضَحِكنا أنا والقاضي معهم، ولكن سرعان ما عادَت إلى طبيعتها عندما دقَّ القاضي مَرَّةً أخرى على المنصة بمُؤخرة قلمه وقال:
- حضوري ستة أشهر!
أعجَبتني بحَق فراسة هذا المحامي، وأبهرَني الدِّفاع الذي دَافَع به، فما قاله شَائعٌ ـ بحَق ـ في الرِّيف، إذ يَستَعير البَعض من غيرهم ذكور الدَّواب والطُّيور لأداء مثل هذ الأمر ـ فِعلاً ـ وبلا مُقابل.
اعتقدتُ في البَدء؛ أنه لولا أنَّ المسرُوق بَطة، وأنَّ العِبارة التي صَاغ بها دفاعه حول انتفاء ركن الاختلاس تُعَدُّ كوميدية بطبيعتها وتُناسب مُفردات الواقعة، لكان قد تَغيَّر وجه الرأي فيها، فإنَّ السَّرقة كما عَرَّفها القانون؛ هي اختلاس مَال منقول مملوك للغير بنية تَملُّكه، ومن ثمَّ فإذا انتفى ركن النِّية وهو التَّملُّك، انهار رُكن من أركان جريمة السَّرقة.
حدَّثتني نَفسي بأنَّ المحكمة ـ حين قضت بالإدانة فذلك لأنها اعتَبرَتْ دفاعه من قَبيل خِفَّة ظِل اقتضتها ظروف الواقعة، وإلا لكانَت قد حَقَّقت دفاعه، ولكنى علمْتُ من القاضي بعد انتهاء الجلسة؛ أنَّ المتهم قد اعترَف في تحقيقات النيابة العامة بسَرقة البطة وبَيْعها لمروره بضَائِقةٍ مالية، وأنَّه لم يَقُل بشيء مما قاله الأستاذ المحامي في دفاعه، ومن ثمَّ قُضىَ الأمر؛ وكان ذلك الحكم، ولكن في النهاية أعجَبتني فراسة الأستاذ!
(*) من مجموعة "يوميات وكيل نيابة" الصادرة عن منشأة المعارف بالإسكندرية سنة 1915.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى