وليد الهودلي - الحرية في عالم عمر؟!

عمر بن الخطاب عاش حرا قبل الاسلام وعندما أسلم فتح الاسلام له فضاءا اوسع للحرية .. كانت حريته لا تقيدها الا نزواته وما حمل في اعماقه من تقاليد وأعراف جاهلية .. كم هي ضيقة هذه الحرية داخل هذه الاسوار المخيفة .. هذه الحرية المقيدة بجاهلية عمياء دفعته ليقيد حرية اخت له سمع انها قد غيرت معتقدها ، داهمها ببيتها وانقض عليها ضربا أدمى وجهها .. لماذا ؟؟ لان ما يستقر في اعماقه من من أنفة وكبرياء وجبروت لا ينضبط بالعقل وأن حدود حريته تنتهي عند حدود حرية الاخرين ..
وسال الدماء الذي اسال الرحمة في قلبه .. ثم استمع الى نداء العقل عندما سمع ايات السماء التي نزلت لتنير طريق الخير والصلاح .. أسلم فخرج من جحر ضيق كان يبدو له انه يمارس فيه الحرية الى فضاء حدودها الدنيا السماء .. لم يعد لنزواته وشرور نفسه اي سلطان ولم يعد لتقاليد الجاهلية التي نشا عليها اي نفوذ .. تحرر من كل شيء واستقر في قلبه الها واحدا لا يدين الا له ، انتقل الى حرية واسعة : العقل عنوانها وقد تجرد من كل شهوة أو نعرة او عصبية أو أي شيء يحرف العقل عن القيام بدوره القويم في الحياة .
وسار مسار الحرية الطويل ، بدأ من برمجة الذات على كلمة التوحيد ، فنفت من صدره كل رواسب الجاهلية وبنت حبا عظيما لله .. انصهر هذا الحب في قلبه وشكل قوة دفع هائلة تعشق حرية الانسان وكرامة الانسان .. حتى اذا نذر نفسه بل حياته كلها لله وسعى مع جموع الصحابة لتحرير أمة وصناعة حضارة ومجد فكان له قدم سبق في كل المواقع ومفاصل التغيير التي اعادت منهجة الحياة وأعادت بوصلة الناس الى حيث تتحقق السعادة والخيرية وقيادة البشرية بقيم ومثل عليا توصل الى الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق .
وكان الخليفة الثاني لرسول الله بعد وفاته .. وأصبح على المحك عندما جاءه رجل يسعى .. قبطي سافر له من مصر يشكو كرامته ويبث شكواه .. ابن هذا القبطي قد تعرض الى لطمة من ابن عمرو بن العاص والي مصر .. كان بامكانه أن يعتذر له ثم يرسل الى عمرو بن العاص من يؤنبه ويؤنب ابنه .. ولكن الامر أعظم من أن يعالج بهذه الطريقة .. هل هناك أعظم من ان تنتهك كرامة انسان عند عمر ؟؟ انسان زرعت فيه عقيدة لا تجعله يرى سلطانا في الارض على الانسان الا الله .. فلماذا يذل انسان انسانا آخر .. لماذا يظلم انسان انسانا آخر .. لماذا يسيطرانسان على انسان آخر .. لماذا لماذا ؟؟ القبطي يضع شكواه في مكانها الصحيح .. يعلم مسبقا أنه في دولة تعلو فيها قيم الحرية والعدالة ويعلم أن الحاكم لهذه الامة قد تربى على هذه القيم ، فلم لا يبث شكواه ؟
أراد عمر ان يصنع درسا للتاريخ كله ، للبشرية جمعاء، لحقوق الانسان على مر العصور .. ارسل الى واليه بأن ياتيه مع ابنه يوم الحج الاكبر وعلى رؤوس الاشهاد اراد ان يحقق العدالة ويقيم المحكمة ، لم يعر انتباها لهيبة الوالي ولتجرؤ العوام ودهماء الناس على الحكام ، لم يعر انتباها لمخاوف العصبية لوالي له من الاتباع ما له ، فقط كان كل انتباهه الى كرامة الانسان الذي اهانه ابن الوالي ، هذا الذي استغل سلطان ابيه وأراد ان يبطش بالضعفاء ، رأى لنفسه فضلا على غيره دون وجه حق سوى انه ابن الوالي ..
وبعد اجتماع هيئة المحكمة والاستماع الى صاحب المظلمة كان الحكم حادا كالسيف .. وكان الجزاء من جنس العمل .. لماذا ضرب هذا القبطي ، لانه استعلى عليه كونه ابن الاكرمين .. فأعطاه الدرة وقال له اضرب ابن الاكرمين .. اضربه كما ضربك ؟؟ هو ضربك بالباطل وانت اضربه بالحق .. هو ضربك بالاستكبار عليك وانت اضربه بحقك كنت مستضعفا وتأبى عليك قيم هذا المجتمع ان تنصاع لقيم الاستضعاف حيث لا مكانة لها في منظومة القيم لهذا المجتمع الذي يقوده عمر ..
وبعد رد الحق لصاحبه كانت هذه الكلمة الخالدة : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .. من أين أتى عمر بهذه الكلمة .. بعد ان طهره الاسلام من كل أشكال العبودية لغير الله .. بعد ان فهم ان رسالة الاسلام هي اخراج الناس من عبودية الالهة كل الالهة الى عبودية واحد تحرر من عبودية سواه .. فلا ينبغي للانسان ان يكون عبدا لانسان مثله ولو للحظة من لحظات حياته .. لماذا لان الانسان يولد حرا .. لا يمن عليه احد بمنحه الحرية وانما هي مولودة معه تلازمه طيلة عمره .. لا تنفك عنه : يولد حرا ويعيش حرا ولا ينبغي لاحد أن يسلبه شيئا من هذه الحرية .. وعندئذ يستعد هذا الانسان ليضحي من أجل حريته ويستعد لان يقف في وجه كل من يمس بحريته لانه حينئذ أصبح حرا لا يخضع لشيء الا لسلطان الله الذي لم يقيد حريته ولم يجعل لها دليلا الا العقل ..
ويأتي كاتب عمر ليمنح سلطانا لا يمنحه الله له : يأمره عمر ان يكتب فيكتب : هذا ما أمر الله لامير المؤمنين عمر .. يريد له ان يكون ظل الله في الارض ..ويريد ان يسقط الوهية على بشريته ، شيء جميل ان نرى في احكامنا وتصرفاتنا انها تمثل الله ولا تسير الا وفق مراده ، ولكن ماذا لو أخطأنا في التقدير ؟ ماذا لو أعطينا أنفسنا هذه الصبغة الالهية وفي نفس الوقت ظهرت جهارا حدودها البشرية التي تصيب وتخطىء .. ينتفض عمر فيقول : بئس ما كتبت . أمحه واكتب هذا ما رأى أمير المؤمنين فان أخطات فمن نفسي وإن أصبت فمن الله .. رجل يعرف قدر نفسه فلا يتجاوزها على قاعدة : رحم الله امرءا عرف قدر نفسه .. انها الثقة بالنفس العالية وفي نفس الوقت تبقى تحت سقف العبودية لله فلا مجال لكبر او غرور او ان يرى لنفسه دالة على خلق الله .. يسير في طريق منحها الله سواسية للناس : أحب الناس الى الله أنفعهم لعياله ..
وتسير العدالة مع عمر حيث سار .. يرفع ظلما وتعلوا به قيمة وينشر فضائل ويحقق قيمة الانسان .. مسيرة حافلة بالعطاء والارتقاء في بني الانسان ..

وليد الهودلي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى