د. رسول محمد رسول - أفول المثقّف والحاجة إليه.. من المثقّف العنكبوتي إلى المثقّف التنويري الجذري

بين مرجعية المثقف وأدواره، وفي ضوء متغيرات عدّة شهدها العالم المعاصر في خلال العقد الأخير من القرن العشرين، تدور رحى المُساءلة الجذرية بالقناعات والثوابت المتعلّقة بالمشهد الفكري ومأمولات هذا المشهد المستقبلية من حيث الفاعلية والأثر، خصوصاً أن مفهوم "المثقف" عينه تعرّض إلى جُملة من التقويضات الدلالية والتداولية تلك التي حدّت من حضوره ومزاحمته المشروعة، وبما لا يخلو من غبن توحي به ثقافة العصر، ولنا أن نتذكّر ما قاله المفكِّر المغربي عبد الله العروي في نهاية الثمانينيات بأن "ظاهرة الأزمة لا تفارق المثقف في كُل مجتمع وفي كُل حقبة من الحقب التاريخية".
المثقف العنكبوتي
في غمار ذلك، مثلاً، تأتي نظرية عالم الاجتماع البريطاني أرنست غلينر (1952 - 1995) الخاصّة بـ "المثقف العنكبوتي" الذي يريده أنموذجاً للعصر، هذا المثقف الذي ينسج ذاته بذاته، وهو انحياز مُطلق للذات وتحقيق لمبدأ كفايتها دونما الحاجة إلى ما هو موضوعي، ما يعني عزل المثقف عن أيّة مرجعية موضوعية وإن كان هذا المثقف منخرطاً في العالم.
إن هذا التصوّر هو نتاج للذاتية المطلقة التي تكرّسها الثقافة المتعولمة أو تلك التي تطمح إلى تكريسها في حياتنا المعاصرة تلك التي تعولم الفرد وهو قابع في مكانه الضيق بين أربعة جدران وليس له اتصال بالعالم سوى عبر الوسائط الأثيرية. وواضح هنا تقويض مرجعيّة المثقف وحصرها في الذات وإقصاء دوره إلى حيز الوسيط لا أكثر! وربما يتجاوز هذا النوع من المثقفين تلك الذات ويمدّها إلى العالم الموضوعي لتحقيق مصالح ذاتية وشخصية وما أكثر نماذج هؤلاء في العالم الثالث.
في دائرة الثقافة العربية المعاصرة يبرز المفكِّر اللبناني علي حرب الذي درس أوهام النخبة المثقفة العربية خلال العصر الحديث في أكثر من مكان له، واجتهد في تقويض مَهمات المثقف، خصوصاً تلك المتعلّقة بوكالته الفكرية أو وصايته الخلقية على الناس؛ إذ يعتقد أن الدور النخبوي التحريري أو التنويري الذي يمارسه المثقف العربي خلال العقود الماضية أنتج التفاوت والاستبداد والاصطفاء والعزلة عن الناس. لذا يلجأ علي حرب إلى تقويض دور المثقف إلى حدود بسيطة بحسب ثقافة العصر؛ فهو يرى أن المثقف في عصر الوسائط هو وسيط بين الناس يسهم في خلق وسط فكري أو عالم مفهومي أو مناخ تواصلي، أي: ما من شأنه أن يزيد في المجتمع من إمكانات التواصل والتبادل والتعارف.
وواضح هنا أن علي حرب يريد إنزال المثقف منزلة المراسل والإعلامي والناقل الانطباعي للأحداث والوقائع، لا سيما أنه يردّد كثيراً بأن المفكّر الأمريكي آلفن توفلر (1928 - 2016) الذي صكّ مفهوم "عمّال المعرفة" كان يقصد به - بحسب حرب - الفاعل المجتمعي الجديد الذي يعمل وينتج باستخدام برنامج المعلومات والمعالجات الإلكترونية، ويبدو لي أن في ذلك بعض قمع لدلالة المثقف الوظيفية؛ بل فيه شيء من الإقصاء لدور المثقف المأمول منه تاريخياً، والأكثر من ذلك التعطيل لفاعليته في الحياة.
المثقف الداعية
وفي نقده حالة المثقف هذه يعتقد عبد الإله بلقزيز، وهو مفكّر قومي، بأن المثقف ما زال يتقمّص دور "الداعية" ويسند لنفسه أدواراً تتخطى قدرته الفعلية على الأداء والإنجاز، وما زال أسير صورته التي رسمتها له ظروف لم تعد موجودة؛ إنه الوهم يملك عليه الوعي ويدفعه إلى مكابرة لفظية ضد الاعتراف بالهزيمة، هزيمة صورة وهزيمة دور.
ويلخص المفكر الأردني خالد الكركي مشهدية المثقف العربي بتوصيف الدور فيقول: "إن مثقفاً عربياً ما قد يظل في برجه الآخر، بينما يغرق آخر في رومانسية تقوده إلى الاندحار أو الانتحار، ويظل ثالث مفتوناً بالآخر الغربي، ويقف عند التراث جامداً غير قادر على التجاوز والاجتهاد، وقد يقنع آخر بظل السُلطان. إن هذا الموقف التوصيفي النقدي يعود إلى مرجعية قومية يضطلع الكركي الاشتغال بها في خطابه الفكري والأدبي، ويوحي موقفه بأنه لا يقف عند حدود خطاب ما دون غيره. إنه يطال المثقف اليساري واليميني، الأصولي واللاأصولي، السلفي والتنويري.
ولما كان المتغير الإيراني في العام 1979 قد ألقى بظلاله على المشهد العربي - الإسلامي برمته فإنه انعكس بنحو خاص على المثقفين الدينيين قبل غيرهم ولا أقول دون غيرهم، الأمر الذي جعل المثقف الديني ذاته يسأل مشهديته ودوره ويشخص قيمة حضوره في المجتمع الثقافي العام للأمة.
المثقف البوصلة
في سياق هذه المسألة التي باتت ضرورة تاريخية ومعارفية أو إبستمولوجية، ومن منظور ديني تنويري، عكف بعض المثقفين الدينيين على إعادة نقد وتقويم دور المثقف الديني المعاصر وقيمة الحل الذي يشتغل فيه. وهذا ما أقبل عليه فيصل العوامي في كتابه (المثقف وقضايا الدين والمجتمع)، كذلك ما أقبل عليه الشيخ حسن الصفار في كتابه (عُلماء الدين.. قراءة في الأدوار والمهام)؛ بل وكان زكي الميلاد ألقى في كتابه (محنة المثقف الديني مع العصر) مسئولية جديدة على المثقف الديني في هذه المرحلة فيقول: "على المثقف الديني أن يصبح بوصلة الأمة التي توجهها نحو مشكلاتها الكبرى وقضاياها الرئيسة ومصالحها العليا، ويكون مدافعاً عن التقدّم في مواجهة التخلف، وعن الوحدة في مواجهة التجزئة، وعن الاستقلال في مواجهة التبعية، وعن العِلم في مواجهة الجهل، وعن السِّلم في مواجهة العنف، وعن البناء في مواجهة الهدم.
إن هذه الرؤية النقدية العقلانية التي تضمر تشخيصها لأعطال الدور الذي يمارسه المثقف الديني بإزاء تحديات مُستفحلة تواجه الأمة والوطن والمجتمع، وفي كل ذلك تواجه "الإنسان"، لتحدّد معايير المسئولية الملقاة على عاتق المثقف الديني؛ المثقف الحقيقي الذي سعت الاتجاهات المتطرّفة سواء كانت أصولية أم غير أصولية، وليبرالية غير معتدلة، ويسارية متطرّفة، إلى تهميشه في دور المثقف؛ بل وفي حقله المعرفي الذي يشتغل فيه على وفق رؤية تنويرية عقلانية واضحة المنطلقات والغايات.
العقل النقدي للمثقف
في ضوء هذه المعطيات المتواضعة نلاحظ أننا بإزاء رؤيتين حول مرجعية المثقف وأدواره، رؤية تريد تهميشه عندما تجعله عنكبوتاً أو مجرّد وسيط إعلامي (غلينر + حرب)، ورؤية أخرى تنقد مشهدية المثقف وتعمل على تقويم مساره من دون إقصاء المرجعية ولا تغييب الدور (شاوي + بلقزيز + الكركي + الميلاد)، وهو يدخل بما نسميه مَهمة العقل النقدي للمثقف.
ومع هذا التقويم الذي ينخرط في سياق مساءلة الدور للمثقف العربي، يوحي النقد الذي تعرض له "المثقف" عربياً بأن دوره تضاءل في خضم التحوّلات التي جرت خلال الربع الأخير من القرن العشرين ومجريات أخرى أكثر جذرية مما يتوقعه المثقف ذاته كانت حدثت في مطلع القرن الجديد، فضلاً عن ولادة بؤر ووسائل تواصل جاذبة وجديدة تحوز وعي المتلقي، وتتقدّم ذائقته وسط حركة جارفة من صناعة نجوم الغناء والطرب والتمثيل والاتصال والدبلوماسية والسياسة والجوسسة ونجوم المال من أجل المال والشهرة من أجل الشهرة. كل هؤلاء وغيرهم يمارسون حضورهم عبر أخطر وسائل إعلامية هي التلفاز وواجهات المسرح السياسي والفني والتجاري والإعلامي.
الأفول
أما الفرصة الممنوحة للأديب أو المفكِّر أو المثقف فهي لا تعدو أن تكون ثلاث ساعات في العام الواحد عبر كل الوسائل المرئية العربية فيضطر هؤلاء إلى ممارسة حضورهم عبر المقروء الذي هو الآخر أخذ يتراجع في خلال السنوات الماضية من حيث الإقبال عليه. والصورة العامة لتراجع مشهد المثقف تؤكِّد أفوله وعزلته ليس فقط في المجال الموضوعي الذي يتحرّك فيه؛ بل حتى في حقله الذي يشتغل فيه عبر منظومة موجّهاته الفكرية وأدواته المعرفية.
إن مشهدية الأفول هذه، والتي يعدّها بعض المثقفين مشهدية هزيمة للمثقف وتراجعه ونسيانه، لن تستطيع مصادرة وجود المثقف في الحياة؛ لأن تهميش المثقف ليس سوى وهم من أوهام الاستغناء عن دوره. على أن الذي سوّغ لهكذا وهم هو وجود البدائل من الوسائطيين الإعلاميين، وثلل بائسة من المطربين، ونجوم التحليل السياسي العابر والسريع تلك التي تطل علينا في كل لحظة وهي ثقيلة الظهور عبر شاشات التلفاز.
إن جميع هؤلاء هم نتاج الموضة وثقافة الصورة الهشة والعابرة، وعلى رغم سطوة وشيوع ثقافة الموضة فإن الأخيرة غير قادرة على ترسيخ قيم ثقافية ورمزية ليس في المجتمع الثقافي فحسب؛ بل حتى في المجتمع العام برمته، فالحاجة إلى "المثقف" باتت اليوم أكثر ضرورية في مجتمع تتنازعه أوهام بالية مثل: ثقافة الصورة، وأنماط المواطنة العالمية غير المتوازنة، وكذلك ظهوريات العولمة السلبية من ناحية وتطبيقات كل ذلك في المجتمعات العربية بما لا يستتر عن تكريس "الشبه"، أي: تطبيق شبه العولمة، وتطبيق شبه ثقافة الصورة، وتطبيق شبه المواطنة العالمية، فضلاً على أعطال ترتبط بالمجتمع العربي في خصوصيته، وأهم ما فيها هو صعود لا معقوليّات التطرّف في السلوك الديني والسياسي الأهلي والذي غالباً ما يؤدّي إلى كوارث لا تنعكس على العرب والمسلمين أنفسهم؛ بل على البشرية جمعاء.
المثقف التنويري الجذري
في سياق إعادة الدور إلى المثقف يبقى رهان المصالحة بين المجتمع والمثقف متوقفاً على "المثقف التنويري الجذري"، هذا الأنموذج النادر هو الذي يتكفَّل اليوم بإعادة الاعتبار إلى المثقف ذاته، وإلى القيم الثقافية الأصيلة التي تحتفي بالإنسان بوصفه إنساناً لأن المثقفين التنويريين الجذريين - وكما يقول خالد الكركي - هم الذين "منحو الثقافة العربية أعلى مناراتها" على أن لا يُفهم من "الجذريّة" هنا نسف القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ما يجعل مَهمة المثقف مستحيلة، على العكس أن جذريّة المثقف لا بد أن تكون محايثة لحركيّة الواقع ولهمومه ومجرياته ومأمولاته في سياق ثلاث مَهمات رئيسة كما يحبذها عبد الإله بلقزيز، هي: مَهمة علمية معرفية (التنوير)، ومَهمة اجتماعية (الحرية)، ومَهمة وطنية (حماية السيادة).


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى