بهاء المري - يوم الهول العظيم في دنشواي.. 28 يونيو 1906 يوم تنفيذ حكم الإعدام والجلد في أهالي دنشواي(*)

بين يوم وليلة، حشدت بريطانيا كل قُواها في مصر لكي تَشنق وتَسجن وتجَلد وتَنشر الهول والرُعب في قرية دنشواي.
- نقل المحكوم عليهم إلى نقطة بوليس الشهداء:

*****

في الساعة الرابعة من فجر يوم الخميس 28 يونيو 1906 قامت الشرطة بنقل المتهمين المحكوم عليهم بالإعدام والمحكوم عليهم بالجلد من شبين الكوم إلى نقطة البوليس بالشهداء، على مسافة نحو عشرين كيلو متر من شبين الكوم عاصمة إقليم المنوفية، وأربعة كيلو مترات من قرية دنشواي بموكب كلما مرَّ على قرية من القُرى أصابَ أهلها بالذُّعر والحزن والفزع
وقد ازدحمت شبين الكوم بالجماهير الواقفة أمام سجن المدينة في انتظار خروج المتهمين إلى دنشواي لتُنَفذ عليهم الأحكام، وفي الساعة الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة أطلّت وجوههم، فركبوا عربتي نَقل وأيديهم مُكبلة بالحديد، وحولهم العَساكر وسار الموكب إلى نقطة الشهداء حيث حجزوا إلى قرب الموعد المُحدد للتنفيذ، وكان المحكوم عليهم بالشَنق في عربة مُستقلة، ومن ورائهم تسير العربة التي تحمل المَشتقة.
- نقل المحكوم عليهم إلى دنشواي:

*****

وإذ اقتربت الساعة الأولى بعد الظهر، نُقل المحكوم عليهم بنفس الرَّكب إلى دنشواي، لُينَفذ فيهم الحكم في المكان الذي أُقيم فيه متُحف دنشواي الحالي، والمكان الذي أُصيبت فيه زوجة محمد عبد النبي المؤذن.
وهناك أمام أعين القرية، وعلى مساحة من الأرض الزراعية لا تقل عن 2100 متر مُربع، أُقيمت المِشنقة التي كانت تُستعمل في سُجون مصر وعلى بُعد 16 مترا منها أُقيمت آلة التعذيب، وتُسمي "العروسة".
جيء بالمحكوم عليهم مُقيدين بالسلاسل والأغلال، ومِن حولهم جنود بريطانيا الذين يَمتطون الخيل، وخلف ظُهورهم البنادق، وفي أيديهم السيوف المسلولة، ومن ورائهم جنود مصر المغلوبون على أمرهم، وهم أيضا يركبون خيولهم، وفي الخيام المُعدة وُضع المحكوم عليهم في انتظار قضائهم، وحول الساحة الضخمة وقف الجنود بخيولهم للحراسة.
- خيمة التحفظ على المحكوم عليهم:

*****

"أعد في جنوب دنشواي ساحة مربعة الشكل لتنفيذ الأحكام في المتهمين، وفيها ثلاث خيام: إحداها لوضع جثث الذين يُعدمون، والثانية لوضع جميع المتهمين بها قبل تنفيذ الأحكام، والأخيرة لوضع المتهمين الذين تم تنفيذ أحكام الجَلد فيهم، وفي الواحدة والنصف أُودع المتهمون الخَيمة ودخل عليهم الطبيب الشرعي وطبيب مركز شبين الكوم وحكيمباشي المنوفية لفحصهم.
وكان مستشار الداخلية المستر "ميتشل" قد حضر في عربة خاصة ومعه مدير المنوفية، ووقف الاثنان يَفحصان بعيونهم آلات التعذيب، وما يكاد يراهما الشاب علي حسن محفوظ ابن أول المحكوم عليهم حتى طلب إليهما الإذن له بُمقابلة والده ليُمليه الأخير وصيته قبل الإعدام، ولكن كان جزاؤه صفعة على قفاه لمحاولته اقتحام الحِصار المضروب حول والده ومن مَعه.
- إقامة المشنقة:

*****

أُقيمت المشنقة في وقت طويل بمعرفة النجار المُخصص لها، بمساعدة عدد كبير من الخُفراء في عمله المشؤوم ويلاحظه عشماوي، وقد عُلقت في أطراف المشنقة آلات الجلد (السياط).
- إقامة آلة الجلد:

******

أُقيمت آلة الجلد (العروسة) وهي قائمتان من الخَشب مُتصلتان من أعلاهما، بهما فتحة تَسمح بدخول رأس المُعذب، وعلى القائمتين الخشبيتين تُشد رجلاه، ويتصل بهما "عُضادتان" فيتكون حينئذ من مجموع القائمتين شكل صليب، ويُمد الذراعان على هاتين العُضادتين، ثم تُشد إليهما يدا المجلود.
- أداة الجلد:

******

كانت أداة الجلد سَوطًا من يد من الخَشب، وله خمس شُعَب من الأحبال الرفيعة المجدولة، وينتهي كل حبل منها بعُقدة.
- خيمة غسل المشنوقين بعد موتهم:

*****

بجانب آلة التعذيب نُصبت خَيمة أُعدت لغسل المشنوقين بعد موتهم، وأمامها أُقيمت خَيمتان من الجهة البحرية، وقد أُعدت إحداهما لوضع المحكوم عليهم بالإعدام، والثانية للمحكوم عليهم بالجلد.
- بداية التنفيذ:

******

- بعد نصف ساعة من قُدوم مستشار الداخلية البريطاني بدأ تنفيذ الأحكام:
- أول المشنوقين:

******

أُخرج من الخيمة حسن علي محفوظ، وكان رجلاً قد تَجاوز السبعين من عمره، يلبس جلبابًا أسود، ولبدة بيضاء، ومن حوله أربعة جنود مصريين وهم يَحملون البنادق وفي أطرافها السونكي، وما كاد الرجل الكهل يقف في مواجهة المستشار الإنجليزي ومدير المنوفية المصري، حتى تُلى عليه الحكم وهو أن المحكمة المخصوصة حكمت عليه بالإعدام، حُكمًا لا يقبل الطعن وأنَّ هذه الساعة التي حُددت لتنفيذ هذا الحكم.
وما كاد عشماوي يَشد وَثاقه مِن خلفه، حتى نَطق بالشهادتين وبعدها صعد الرجل إلى المشنقة بقدمين ثابتتين، وقد ولَّى وجهه شطر قريته ليُلقي عليها النظرة الأخيرة!
وكانت المسافة التي تفصل بين حسن محفوظ وبين منزله لا تزيد على خمسين مترا، وفوق سطح منزله كانت نساؤه وأولاده وأحفاده يقفون جميعًا، يراهم ويَرونه وهم يَبكون ويَضجون، ويَصرخون صراخًا عاليًا، ولم يُمهله عشماوي كثيرا، بل وضع الحبل في عُنقه، وحرك لولب المشنقة فهوى الرجل وهو يتطلع إلى أهله وعشيرته، وروحه تصعد في أمان الله إلى خالقها لتشكو إليه الظلم الجاثم على صدر بلاده!( ) وتُرك جسده متدليًا من حبل المشنقة ربع ساعة.
- أول المجلودين:

******

لم يشأ الظالمون أن يُنفذوا حُكم الإعدام في الأربعة المحكوم عليهم، واحدًا بعد واحد، وإنما تركوا بين كل مَشنوق ومَشنوق فترة تَسمح بتعذيب اثنين من المجلودين.
جاءوا بحسن إسماعيل السيسي، وكان محكومًا عليه بالسَجن لمدة عام أيضا، ولما أُوقف أمام هيئة التنفيذ قرأ عليه المدير أمر الجلد وهو ينظر إلى المَشنوق المُعلق أمامه في ذهول وجسمه يرتجف! ثم أمسكه الجنود وجردوه من ملابسه - عدا سرواله - ثم صلبوه على آلة الجلد بحيث كان ظهره مواجهًا لبلده ليراه نساء القرية من السُطوح وهو يُجلد، ثم أخذ الجندي المكلف يُلهبه بالسياط على ظهره طولاً وعرضًا إلى أن أتم الخمسين جلدة، فأُنزل من فوق الصليب وحُمل إلى رفاقه المحكوم عليهم وهو مُمزق الظهر، ليكون لهم عِبرة، وليَبعث في نفوسهم الرهبة والفزع!
وبعد ذلك جِيء بثاني المجلودين وهو إبراهيم حسنين السيسي بعد أن جردوه من ملابسه ثم صلبوه، وألهبوه بخمسين سوطًا على ظهره وقفاه، كما فعلوا بزميله السابق، ولما بدأ جلده صار يَصرخ وهو يقول: "سُقت عليك النبي، يا هُووه"! حتى الجلدة الخامسة والعشرين وسكت، وأخذ يرتعش إلى أن تم الجلد، ولما حُل وثاقه سقط مغشيًا عليه.
- ثاني المحكوم عليهم بالإعدام:

******

استغرق إعدام حسن محفوظ وجلد اثنين بعده خمسة عشر دقيقة، بعدها جاءوا بيوسف حسين سليم وبعد قراءة الحكم وشد وثاقه تَشهَّد وصعد المشنقة فوقف ووجهه نحو البلدة، وصاح بأعلى صوته قائلا:
- اللهم انتقم من الظالمين، وكررها مَرتين، ولم يُمهلوه، بل وضع عشماوي الحبل في عُنقه، وحرك اللولب فهوى معلقًا في الفضاء بين العويل والبكاء!
- باقي المحكوم عليهم:

******

بهذه الوحشية المُنقطعة النظير، وبتلك الوسائل التي لم يَسبق لها مَثيل في تاريخ التعذيب، نُفذ الحكم في بقية المحكوم عليهم بالإعدام وهُما السيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران.
ونُفذ الجلد في بقية المحكوم عليهم بالجلد وهم: محمد السيد علي، وعلي السيد الفولي، عزَب عُمر محفوظ، والسيد سليمان خير الله، وعبد الهادي حسن شاهين، ومحمد أحمد السيسي.
- انتهاء التنفيذ:

****

في الساعة الثالثة كان الجلادون يَجمعون أدواتهم استعدادًا للرحيل عن القرية الحزينة، تُلاحقهم صرخات دنشواي ولعَنات أهلها وجماهير الحاضرين.
ولم يُسمح للأهالي بتشييع جَثامين المَشنوقين إلى المقابر، وإنما قام رجال الشرطة بدفنهم.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) من كتاب: (دنشواي - أصل الحكاية والجلاد) مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر بالإسكندرية. الناشر دكتور أدهم مسعود القاق. 2021.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى