أنس الرشيد - الزمن في كفِّ التأويل.. نيتشه في ضيافةِ الأصبهاني

  • طقسُ عبور:
أصبهانُ مَمَرٌّ ضَيّقٌ التقت عنده الأزمان...، في لحظة تقاطعٌ يُوَجِّهُ مسارات النصوص...، ونوعِ الحكايةِ والأسطورة.

الزمن الأول: ساعةٌ، من ليالي شهرٍ، في سنةٍ من قرون ماقبلَ قبل الميلاد...؛ كانَ (زرادشت) في أذربيجان؛ يُشْعِلُ أولَ النار...؛ لكنَّ دخانها يَتعبّد في أَصبَهان..
الزمن الثاني: عام 883م. كان (محمد بن داود الأصبهاني) يُؤَسِسُ أوَّلَ منتدى، في وسطِ أصبهان..َ.ْ، مُــــتـَـنــَـــزّهٍ يَزْرعُ فيه القلوبَ بضاعةً، ويُصنِفُها؛ ليشرح معنى أن يكونَ العقل عقلا..! معنى أن تُعقلَ القلوبُ، وتأتمر بأمرِ مقولاتِ الشوق، التي جُعلَ لها إحالةٍ في الجسد المتصل، تُضبط بسلوكٍ واقعي في الأروقة تحكمها النفس الكبرى.
الزمن الثالث: عام 1883م.كانَ (فريدريك نيتشه) في سويسرا، يَبْريَ الأقلام...، لكنَّ قشرةَ لحائِها تُغَطّي الطريقَ إلى أصبهان...َ وتَرسِمُ إرادةَ راقِصٍ على حبلٍ من القِشْرِ يَسْتَجدي حكايةَ نصِّ النصوص.

  • مشهدُ اللقاءِ:
ضَجَّتْ أصبهانُ –في صبيحةِ يومٍ غائم-بحكايةِ التلبُّس العِشْقي؛ الذي زارَ كُلَّ بيتٍ فيها... حكايةٍ بطلُها وجودُ زرادشت في هلوسات السمع والبصر...، فاستدعى ابنُ داودٍ الأصبهاني إلى منتدى (الزَّهْرة) مقولةَ كبيرِ أطباء الإغريق (جَاليْنُوس)، محاولة منه إغلاقَ منافذٍ روحيّة، وتطويق المعنى بجسد حاضر/ نفس كبرى محسوسة. فأعلنَ عن إقامة محاضرة (تستحضرُ جالينوس، وتستبطن أفلاطون، وتقولُ بعدهما قولا جديدا) تركيبةٌ يجيدها الأصبهاني، وعَنْوَنَ المحاضرة بــــ (العقل عند الهوى أسيرٌ، والشوقُ عليهما أمير)، وكانَ المدخلُ إليها تشريحُ الطبيب جالينوس للعشق، حين وجدَ أنَّه من فعل النفس؛ لكنَّه كامنٌ في الجسدِ. وهُنَا وجدَ بُغيتَه الأصبهانيُّ، بجعلِ العشق نوازع مادية، دون التنكُّر لما وراءَ الجسد وتأثيره؛ وهُنا يستبطن أفلاطون في مأدبته، حيث إنَّ كل نفسٍ لها ما يكمّلها. ومِنْ هُنَا أَسّسَ الأصبهاني معنى: أن لا تكونَ النفسُ نفسا إلا بنفسٍ أخرى. أي أنَّ الأصبهاني يرى أنَّ معنى النفس هي أنها سلسلة جسديّة؛ ونعني هُنا: إذا كانت نظرية جالينوس تقول إنَّ النفسَ كامنةٌ في الدماغ والقلب والكبد على حدٍّ سواء، والدماغ به ثلاثةُ فصوص، فصٌّ للتخيّل، وفصٌّ للتفكّر، وفصّ للتذكّر. ونظريةُ أفلاطون تقول بأنَّ العشق معقود بمفهوم النفس التي فُصِلَت إلى جزأين، وكُلُّ جُزءٍ يبحثُ عن الجزء الآخر، وهنا يأتي مفهوم العشق. فإنَّ الأصبهاني يُؤسِس من النظريتين نظرية ثالثة ترى: بما أنَّ أنظمة الجسد، مشتركة فسيولوجيا وعصبيا، بناء على مفهوم النفس عند جالينوس، وسيكولوجيا بناء على مفهوم النفس العاشقة عند أفلاطون، فإنَّ النفس -إذن عند الأصبهاني-نفسٌ واحدة متصلة على شكل سلسلة في الأجساد، ويتفاعل عشقها بناءً على نوازع الجسد الكامنة في (الدماغ والكبد والقلب). ومن هنا جعل اسمها فلسفة الجسد المتصل. وبما أنَّ كلا الاثنين (جالينوس وأفلاطون) يَطْرحان مفهومَ العشقِ كصراعٍ بين الفراغِ والاشتغال؛ الاشتغال بفكرةٍ والخلوِّ منها؛ وينتهي الصراعُ في لحظةِ اللقاءِ التام، حين تكونُ النفسُ واحدة، إلا أن جالينوس يرى أنَّ مواطنَ النفس (الدماغ والقلب والكبد) وهي في حالةِ شُغلٍ بأحد؛ فإنها تكون عاشقة له حينئذٍ، ومتى خلتْ من الشغل باللقاء فإنَّ حالةَ العشق تزول، أي إذا توقف الصراعُ انتفى العشق. أما أفلاطون فحين رأى أنَّ العشقَ هو أن تبحثَ النفسُ عن جزئها المفقود، فإنَّه يعني في وجههِ الآخر أنَّ النفسَ تسكن حين تجد ما فُقِد، ومن ثم فلا عشق. أي أنَّ العشقَ حركةٌ في فراغٍ من فكرة، والفكرة هنا تمثل الصورة كاملة، ومتى وجدت هذه الصورة فإنَّ العشق يختفي. لهذا فإنَّ الأصبهاني استخدم مفهوم الصراع؛ ليؤسِسَ رحلةَ الصراعِ من خلال مفهومه للنفس الكبرى المزدوجة (اتصال جسدي/انفصال في النوازع الكلية) وقد سمَّى هذه الرحلة: (أحوال ما قبله وأحوال ما بعده)؛ أي أنه أراد أن يجعل لهذا الصراع نظريتَه، وذلك بوضعه في رحلة تاريخية، أساسها النفس الكبرى، وتتحرك من خلال الجسد المتصل، نحو غايتها؛ أي أنَّ الأصبهانيَّ يعود ليجعل الحقيقة الموضوعية لاعبا أساسيا في عملية العشق، من خلال استدماج الجسد في النفس الكبرى، ومن ثم تجزئته، فتتحرك الدوافع والانفعالات والغرائز على اختلاف مواطن وجود الأجساد؛ بقدر المطابق لها من جسد مقابل يؤكد حركة النفس الكبرى نحو غايتها. ولما انتصر الأصبهاني للجسد بتلك الصورة، وحاول إغلاق منافذ الفصل المتمايز بين الجسد والروح، جلبَ (نيتشه) إلى المنتدى، حيث توقفتْ رحلتُه في أصبهان، فسكنَ بيتًا أثريًّا، على حافةِ جبلٍ زرادشتي؛ ليستلهم منه مقولة: "إذا رأيتم متداعيًا إلى السقوطِ، فادفعوه بأيديكم". وكأنَّه استحضر محاولة الأصبهاني الفلسفية في تأسيس نظرية للعشق تقوم على الجسد المتصل... لكنّ الأصبهاني سيفترق مع نيتشه، في لحظة رآها نيتشه انتكاسا من خلال الصيرورة المشروحة بالنفس الكبرى؛ إذ إنَّ هذه الفلسفة، مدخلٌ انتكاسيٌّ للعودةِ إلى النظرية الأفلاطونية...؛ لهذا فإنَّ استدعاء نيتشه لهذه المقولة الجبلية؛ كأنه استدعاء للسقوط، أي أنَّ قوةَ الجسد الاندفاعية ستنتكس حين تمزج بين عشق الصيرورة والسكون، وتمزج بين عشق الواحد بصفته مستقلا عن المتعدد، وتمزج بين عشق النفس الكبرى بصفتها حاوية ومحركة للجسد.

  • الضيافة الأصبهانيَّة:
كانَ التقاءُ الأزمان، متجسّدًا في أفقٍ واحدٍ متعدد؛ يُكَوّر التوقعات المعرفية في جميع العصور؛ لبناء مفهومٍ وجودي مُتَشَظٍ...!

يقول الراوي: ...ولمّا وصلَ الأصبهانيُّ – في المنتدى-إلى الاستدلال على نظريته في الجسد العاشق؛ -ذلك الجسد الذي يفتقرُ للأجسادِ الأخرى من جهةِ الاشتغال، ويفتقر للنفس الكبرى من جهة الفراغ-تحوّلَ إلى ساردٍ، كي يحول الحقيقة إلى حكايةٍ سردية، في بطنها المعنى يلتمس التعالي...! قال: لنتخيل فتاةً جلستْ ذات صباحٍ والكوب الأسود بين يديها، ترتشفُ الفنجانَ المسحور، مسحور من عينيها، مسحور من خدّيها، مسحور من رائحة شعرها...! شاهدتْ الفتاةُ خشبَ النافذة وهو يبكي من أمطار الأمس قطرةً... قطرةْ. ومع كلِّ قطرةٍ؛ صوتٌ يحكي؛ كرسائل مرئية يُسجّلها فتى مُتخيّل، قطرةً تحكي عن فلسفة الحب، وقطرةً تحكي عن معنى الوطن الضائع في ذاكرة الشجر، وقطرة تصرخُ من ألم الحياة وأمواجِ الجمال المعقود بنبتةٍ أضاعها الله في بطن التاريخ...! وهنا ضربَ نيتشه بقدمه الأرضَ، فسكتَ الأصبهاني متعجبا ومتوقعًا، فقام نيتشه يذرع المجلس ذهابا وجيئة بأنفاس تتصاعد حتى كادت أن تتحدث عن لسانه...، لسانه الذي قال: أسمعُ صوتَ خيولٍ تتقدم ببسالة، وسيوفٍ خائفة...! يا لكَ من لصٍّ، سرقَ العقلَ وأوهمَ الناسَ أنه سيّله في أودية الكلام، لكنه مازال يحتفظ به في منزله، يُقَبِّلُه مع كُلّ حرفٍ يستنزلُه. أمالَ الأصبهاني فَمَه نحو اليمين... وكأنها ابتسامة الاندهاش المخلوطِ بعجينةِ الغرور...! ثم قال: أنا أُصَرِّحُ بقولي: "العقل عند الهوى أسيرٌ والشوق عليهما أمير" وهذه قاعدة من قواعدي الخمسون في العشق. ازداد غضب نيتشه فصرخ: لا وجود للعقل بهذا المفهوم...! تردَّدَ الأصبهاني هل يكمل حديثه أم يكمل صراعه، فابتسم لوجود هذه الفكرة في ذهنه؛ فلعلّ هذا الصراع المفاجئ دائرة صغيرة من دوائر ما يريد قوله من مفهوم الصراع النفسي للعشق، لهذا التفت على نيتشه بازدراء وقال: وهل أكملتُ حديثي؛ لتستخرج منه مفهومًا...! ضَحِكَ نيتشه ضحكة المُتعب الذي لا يشعر بشيء، وقال: ألفاظك الثنائية تفضحك؛ هل تظنَّ أني متلقٍ أصبهاني!؟ ارتبكَ الأصبهانيُّ وكأنَّ المقتَ والاحتقار تمثلا أمامه شخصًا، فهمّ بطرد نيتشه، لكنه تذكّر أياما احتقر فيها أقوامًا أخر، فأحسّ بأن نيتشه صنع له فخًا، ليختبر مفهوم الصراع الوجودي كله؛ وربما لم يكن يقصدُ نيتشه هذا، لكنه دهاء الصراع، وصُنع توقعاته، لهذا اكتفى قائلا: أتيتَ يا نيتشه، حاملا معك عنصرية قومك...! فاستلقى نيتشه على بطنه ورفعَ قدميه ورأسه وكأنه سمكة تطلب الرجوع إلى الماء، ثم قال: كلمتك هذه، بحدِّ ذاتها؛ تحملُ بذورَ ما تسمّيه أنتَ (عنصرية)، هكذا الإنسان المنحطّ يدّعي الطهر، ويخلقُ منه إرادة العدم التي تميت الوجود كحالةِ تأويلٍ تصنعُه إرادة القوة. التفتَ الأصبهانيُّ على الموجودين وكأنه يُشْهِدُهُم على اختلال عقل نيتشه، ثم قام من مكانه ووضع قدمه على مؤخرة نيتشه وهو يقول: هذا أنتَ يا نيتشه؛ تظنُّ السوءَ بقُرائك، والسوء كل السوء في قفزاتك اللاعقلانية في الكتابة فضلا عن الحوار! انتفض نيتشه وكأنَّ أفعى لدغته، فضربَ قدمَ الأصبهاني؛ ليظهر له قوته، ثم قام وهو معقوف الظهر وينتف شعراتٍ من شاربه ويمسح بها خدَّ الأصبهاني، ثم قال: أتعلمُ ما الذي جاء بي إلى منتداك وجعلني استلقي كالسمكة العطشى؟ كي أفضحَ تزويرك، يا مَن تُجوهِر العقل، وترفعه عن التاريخ، لكنّك كي تسدّ ثغراتِ منهجك المادي، تحاول أن تُسيّل العقل كصيرورة معايشة حسيّة أو خبرة فعلية من خلال الحُبّ. ولكن لا يكشِفُ عوارَ منهجك إلا زرادشت...! قال الأصبهاني ساخرًا وهو عائد إلى مكانه: وهل اخترتَ زرادشت؛ لأنه فارسي؟ نيتشه يبتسم بتثاقلٍ: إن أردتَ إجابةً ساخرة؛ فلأُبيّنَ لك سُخريةَ التاريخ، فأنتَ أفلاطونيٌ/ إغريقي، في بعض تمايلاتك في فلسفةِ الحب، وأنا من خلال زرادشت/ الفارسي، أُرجعك إلى موطنك، لا لتفهم جذوره الدينية البالية، بل لتدفن الإله، وتحيي ذلك الراقص على الحبل. وإن أردتَ إجابةً صارمةً، فلأنَّ زرادشت قدّم تأويلًا ابتلعَ به الآلهة، وحوّلهم إلى شكلٍ من أشكالِ الدولة، حيث التأويلُ الأقوى منتصرًا، من خلال إله واحد، وأما الآلهة الباقون فصاروا معاونون له بشكلٍ من الأشكال، ثم أنا هنا أستعيدُ زرادشت؛ ليبتلع الإله نفسه، ويقدم التأويل الذي يسيّل العقل، ويجعله معنى في خدمة الجسد/ الحياة/ القوة. الأصبهاني ضاحكًا: البحث عن إلهٍ يرعى شؤون العباد والبلاد بخطة محكمة ربانية، جزءٌ من العجز الكلي، والقوة الداخلية، في لحظةِ تضاد. وإن من يقول بعدم البحث فسأفترضُ أنَّ لديه قوة كلية، لكن سيأتي معها عجز داخلي. وينبع من عجزه الداخلي اضطرابات نفسية خارجية؛ من جراء البحث أيضا ولكن ليس عن إله، بل عن تَفسِيرٍ يُشْبهُ الإله! ... ولا أدري لِم يستغرب بعضُ القوم لما يُقال لهم إنك – يا نيتشه-مؤمن على طريقتك... إنكَ أمتَّ تصوراتٍ عن الله شَكَّلها البشرُ عبر مراحله التاريخية، وأتيتَ بتصوراتٍ جديدةٍ عن الله، أو ما يُشبهه. نيتشه وهو يرعف: ما فعلته ليس ميتافيزيقا حتى يكون مجرد تصورات بديلة، إن ما أفعلُه منهجا يُزيلُ السِتارَ عن العقلِ، ويفضحُ الأوثان الفكرية الثاوية خلف المفاهيم والتصورات. ثم يُرجع القيم إلى مصادرها الحيوية/ الجسد/ إرادة القوة. فيُحدِّدُ مستوى القيمة ما بين مرضها وصحتها. الأصبهاني بيأس: سأكملُ حديثي الذي بدأتُه أول الجلسة، ولتُسْمِعْني –إن استطعتَ-نقدَ زرادشت لما أقول... نيتشه وهو يزيل آثار الرعاف: أكمل... أيها المعتوه! الأصبهاني مُسْتاءً: ولماذا الشتم والقدح؟ نيتشه: لن أتخلَّق بأخلاقِ العبيد وأشفقُ عليك، بل أواجهكَ بالتعنيف مباشرة، فأنتَ مزدوج الفعل؛ بين الخضوع والذلة لكائنٍ صدقت وجوده، وبين التعنيف والإقدام لأتباع ديانتك، بل لأتباع مذهبك، بل لأتباعك أنت...! وتعنيفك لهم، يأتي من خلال شرف الكبرياء والقوة، أي إيهامهم بعلوك عليهم، مع أنهم هم من أدخل عليك مفهوم الإله، فأصبحتَ ضعيفا تطلب المساعدة. أرأيت هذه المفارقة؟ إنها المفارقة التي صنعت منك شخصا مشوّها مزدوجًا. مع أني لا أنكر ذكاءك. ولربما هذا الازدواج نابع منه. بل قد يكون نابع من كينونة الإسلام/ دينك، ذلك الذي تمثلتْ من داخله صراعُ التأويلات بجلاء، إذ جعلتْ تأويلاتُه الضعيفة تجرّ تأويلاته القوية -التي تمحي مفهوم الدين ومن ثم لا دين-إلى الوراء، فينتج تأويلا مسخا...! وهذا يجعله مختلفًا عن اليهودية والمسيحية مثلا، تلك التي أُنتجت تأويلاته في مقابل أخلاق مغايرة عنه...أي أن الإسلام حوى تناقضات السلوك من داخله، فأخلاق السادة بالتوازي مع أخلاق العبيد، كلاهما يضمنهما الإسلام ويبني حلبة الصراع لهما، وهنا تختلط الأدوات والغايات، ومن ثمَّ تنتكس التأويلات، مع أنها ليست دينية. الأصبهاني وهو ينفض يديه: كُلُّ هذا الكلام، وأنا لم أكمل حديثي، ألا يعطيك هذا ملمحا أن رؤيتك الفلسفية دوغمائية، إنها تغلق أبواب التساؤلات الميتافيزيقية؛ كي تطمئن لطبيعة المسار وتوجهه. مع أني لا أطرحُ هنا تساؤلات حول محاولاتك للإغلاق. مع أنها محاولات تُشير إلى منع الالتفات، والنظر إلى الأمام، كي يتحقق التقدم الأصيل النابع من الجسد/الحياة/القوة، وهذه أوصلتك إلى أن تُغير مسار التفلسف من البحث إلى العلاج. والعلاج يستدمج مفهوما دوغمائيًا، لهذا رأينا المنتصرين لفلسفتك يختلفون في مشاربهم لكن الجامع لهم الانغلاق حول هذا المفهوم الفلسفي، أي العلاج الجاهز لطرد الظواهر التي لا تتسق مع المنهج الجينالوجي الذي أسس نموذجي الصحة والمرض، نموذج يقوم على توكيد الحياة وتكثيف قواها، ويقابله نموذج يعبر عن انحطاط إرادة القوة. نيتشه يبتسمُ ابتسامةً معجونةً بحزنٍ غريب: لا مجالَ لمفهوم الاطمئنان، بل ملاحظة الدوافع والغرائز والانفعالات الجسدية التي تسهم في تقدم الحياة، وما يقابلها من دوافع وغرائز وانفعالات الارتكاس، فمشكلة الإنسان ترتكز في إشكالية القيم...، ولكن ها أنتَ تَرِث المفاهيم الميتافيزيقية وتضمنها فلسفتك التي تدعي أنها تنغلق بالجسد، لكن رعب الوعي وغاية ما بعد الموت، جعلك تضع إطارًا لذلك الجسد يقوم على النفس الكبرى، تلك التي تعني مفهوم الإنسان، وهذا المفهوم يسير نحو الغاية بالاتحاد، فيكون الله وحسب. وهذه المفاهيم الميتافيزيقية تُصدِّرها على محاوريك بلا وعي. منتداك هذا من دلائل هذه الحضارة التي تؤوي في داخلها بذورَ الانحطاط ونوازع الضعف، ولكون ذواتكم فقدت قوتها أصيبت برذائل الحداثة. الأصبهاني وهو يميلُ فمَه نحو اليسار: لماذا أصابك الحزن إذن؟ ألا ترى أن هذا الذي تُسمّيه انتكاسا هو أصيل في داخلك بصفتك إنسانا؟ نيتشه وهو يَضُمُّ حاجبيه نحو عينيه: كيف تعرف أني حزين؟ أنا لستُ حزينا...! إلا بصورة الحزين المتفائل، أي بنفس الصفة الموجودة في الرجل التراجيدي، ذلك الذي يتطلّع إلى ألم التجربة واتساع مداها، ومن ثمَّ تتقدم الحياة به مع أنه حزين، لكنَّ حزنه حزن الأبطال الذي يعيشون المأساة دون أن تجعلهم ينتكسون. الأصبهاني ضاحكا: يا لك من مُكابر! هل تعلم أنَّ (لو سالومي) لما زارتنا في المنتدى، قالت عنك: "... لما ترى نيتشه تحسّ أنّكَ أمام وجدان عنيف وشعور بالوحشة مكتوم في نفسه ..." نيتشه مستنكرًا: هذا ليس هذا إلا رغبات تنعكس على شكلِ رؤى، ومن ثم أنت هنا تصدّرها عليَّ. مع أنه ليس ثمة تعارض بين ما قلتُه وما رأته لو سالومي...! الأصبهاني وقد شعر بالملل: حسنا، أليس كلامك كله رغبة انعكست إلى فلسفة ضيّقت مجالات التساؤلات...! نيتشه يائسًا: أنا لا أمنع التساؤلات، بل أُحدد مجالها، من خلال نقل الفلسفة من إرادة الحقيقة إلى إرادة الحياة. وأدواتي إرجاع الأشياء إلى شروط انبثاقها/ حياة الإنسان/ الجسد. الأصبهاني وقد اكفهرّ وجهه: أنا قلتُ ضَيّقَتْ! ولم أقل تمنع، ثم ماذا عن الرغبة التي انعكست إلى فلسفة؟ أعني: أَلَا تكون رغبتك الدفينة منذ تجنيدك الفاشل، هي ما جعلتك تنظر إلى مكونات الثقافة بأنها ترجمة رمزية للانفعالات والدوافع والغرائز؟ نيتشه وهو يزيل شعرةً من شاربه وقعت في كأسِ خمرته: أنا إنسان! لكن اختبارك لما أقول سيكون من خلال النظر للمحرك الأساس للثقافة، ومن ثم نتائج هذا المحرك في مآلات البناء... تأمل فقط إنكار الحياة من خلال التأويلات التي تنهل من الميتافيزيقا، أو من الدين ...؟ الأصبهاني ضاحكا: هذا هو لبّ الإشكال، فأنت تعطي الواقع ماهية، ولم تجاوز الثنائية التي هربت منها...! ويفضحك مفهوم المنهج؛ أي ذلك المؤشر الاختصاصي، الذي ينعقد بخطوات نسير على هديها للوصول إلى ما نريد. ومن ثم فلديك إحالات ميتافيزيقية. إنه انتصار للوعي المفارق من حيث أردت إسقاطه. نيتشه وهو يزبد: أولا: أنا لم أحدد معنىً وحضورًا حتى يمكنك قول ما تقول! ثانيا: الطابع التأويلي لإرادة القوة يجعلها ليست ماهيّة، وليست مبدأ أولا للأشياء. ثمّ إن المرض ليس انعدام الصحة، بل المرض مثير للصحة. فكيف تصفْني بقلب الثنائية الميتافيزيقية! وثالثا: كل المواصفات والصفات والسمات -التي تراها في كتبي-المرتبطة بالمرأة مثلا؛ كالمسافة المغرية، الوعد الخفي، الاستعلاء المنتج للرغبة، تنتمي إلى الحقيقة كتاريخ للخطأ. الأصبهاني يبتسم: لا أدري ما علاقة ثالثا بكلامي، ثم إني لا أفهم هذا الرد إلا هروبًا من المأزق؛ إذ الإشكال في إرادة القوة نفسها وليس تأويلاتها... نيتشه وهو يضرب بقدمه الأرض: إرادة القوة هي إرادة تعددية، فالجسد يتكون من إرادات قوة، ... والواقع منافسة بين عدة تأويلات، دون ذاتٍ تُأوِّل؛ لأنَّ الذاتَ شكلٌ لإرادة القوة. الأصبهاني بيأس: حسنا، دعني الآن أكمل حديثي الذي بدأتُه أول الجلسة... أعني سأبيّن لك تشكل العشق في حركة النفس الكبرى من خلال الجسد المتصل. فأقولُ: نظرتْ تلك الفتاة وسمعتْ، فأورثاها (النظرُ والسماعْ) استمتاعْ لا يُعرف مصدره! لكنّ هذا الاستمتاع ولّد (مودّة) أي أصبحت الفتاة مع كل صباحٍ تُردّد وهي تنظر إلى الخشبات الباكية: (أودُّ أن أسمع وأنظر أكثر). وكلما سمعتْ ونظرتْ زادتْ قشرةٌ من قشور (اللِبْن) الذي يُبنى به (هرم العشق) حتى تُدْمنَ النظر والسماع. فتُبْنى من كلِّ مجموعةِ (نظر وسماع) (طوبةٌ) كاملةٌ في هيكلِ النفس الكبرى. ولمّا اجتمعت ثلاث طوبات تعاضدتْ فصارت (كُتلة واحدة) = هذه الكتلة النفسية تُسمى (محبّة). أي تحولت حالة الفتاة من أن تقول: (أودّ أن أسمع وأنظر) إلى (أُحبّ أن أسمع ذلك الفتى وأنظر إليه). ولمّا كانت (المحبة) سبب للطاعة؛ فإن هذه الكُتلة النفسية (المحبة) مُطيعة لكل (طوبة) تُبنى عليها لاحقًا. أي مهما وضعنا عليها (طوبات) فإنها تتماسك معها كمغناطيس. إذن أصبحَ بُنيان الحب يُبنى بسرعة وإتقان غير مشروح ومفهوم، بعد أن كان بطيئا وغير متقن. أي بدأ بسيطا وغير معقد وبطيء النمو، فتحول إلى كتلة معقدة تنمو بسرعة وإتقان. وهُنا بدأ (البنيان) يُعبِّر عن شكلٍ واحدٍ، مع أنه مصنوع من مكونات مختلفة؛ = (وهذه مرحلة الخُلّة في البنيان) أي أن هذا البنيان مسدود الخِلال فلا ينفذ منه وإليه شيء. وبمعنى آخر بدأتْ الفتاةُ تشعرُ بقوة داخلها تجذبها نحو ذلك الفتى فقط، كلما حاولت التفكير بشيء آخر كان الفتى لها بالمرصاد يقبع في الأشياء الصغيرة قبل الكبيرة. إذن هو كالبنيان الذي لا منافذ فيه لشيء آخر، ارتقى الفتى في دواخل الفتاة إلى مرحلة الخُلّة، أي تحوّل جسد الفتاة مع فتاها إلى (تخالل) = أصبحا كأنهما شيء واحد. ومهما تساءلت الفتاة لحظتها، لا تدري ما السبب!! لا تدري إلا أن نفسها تدعوها إلى شيء غامض، تسير وتسير في هذا الطريق إلى أن (تَحطَّ) من أجزائها شيئا لتتداخل مع المحبوب؛ إذ لن يكونا شيئا واحدا إلا بأن يضع كل واحد منها شيئا فيه؛ وذلك بأن يكونا كقطعِ فسيفساء متفرقة ثم تركبت وأظهرت منظرا خلابا. هذا (الحطُّ) من الأجزاء أدْخَلَ الفتاة في مرحلة (الهوى) أي سقوط الأجزاء غير المتسقة مع المحبوب = هوت أجزاء من المتعاشقين؛ كي يتكاملا، أو لنقل يتلازما. ومرحلة (الهوى) هذه هي مرحلة (العشق) وهي التي يتلازم فيها العاشقان بوعيٍ وإرادة كاملة. وليس معنى الملازمة هُنا المُصاحبة! لا؛ بل ملازمة بمعنى مداخلة أو ملاصقة أو مشابهة؛ أي كأن من رأى أحدهما رأى الآخر في الوقت نفسه. وطالما استمرّ (العقل) في إدارة هذا الهوى، فإن المُحِب ما يزال في مرحلة (العشق). لكن قد ينتقل إلى مرحلة قصوى وهي (التَتْيِيْم) أي يصبح العاشق متيما. فالعاشقان بعد أن تمّ بنيانهما بمرحلة (العشق)، وتمامُه كانَ بوعيٍ مِنْهُما، أي أنهما تركا أجزاءً من نفسيهما كي يتشابها. ولكن عندما زادَ هذا التلاحم الواعي، تحوّل إلى لحظةٍ (لاواعية) وهي أن يَهْوَى (يسقط) العقلُ في مدارك لا قاع لها. إذ بعد أن كان العاشقان يحطّون –في مرحلة الهوى-أجزاء منهما بوعي، أصبحَ الذي ينحطّ هنا هو العقل نفسه. أي بدأ العقل يفقد إدراكه بالجسد، ولم تبقَ إلا النفس الكبرى تناجي وتخاطب. وهذه المرحلة الأخيرة هي المرحلة التي لا يستطيع الإنسان أن يصف لحظاتها، بل كل عاشقٍ يُجربها بنفسه، بعد دخوله في غيبوبتها. هذه الصيرورة جزء من فعل كلي تتحرك على ضوئه النفس الكبرى نيتشه ضاحكا: كما توقعتُ... أنتَ تستنكر هجومي عليك، وكلامك هذا يثبت أن هجومي كانَ صحيحًا...! لقد جعلتَ مرحلة الدخول في العشق/ التتييم هي مرحلة فقدان العقل، -ذلك الذي أعطيتَه جوهرًا ثابتًا وذاتًا حاضرة لا تاريخية-وهذه المرحلة هي ما عبرتَ عنها سابقا بـــ: (العقل عند الهوى أسير) وسبب ربطك بين فقدان العقل والعشق هي حالة انتكاسية، هي إرادةٌ عدميّة، أي أنك تُؤَوِّل الحياة هنا انطلاقا من المقاصد الغائية في ذم الحب، على أساس الشعور بالإثم النابع من الاعتقاد الديني، ومن ثم كراهية الحياة من خلال الظلم والآلام. بينما العقل الكبير هو الجسد، وهو الذي يؤول، وهذا الجسد لديه تفاعلات داخلية تعبر عن علاقات قوة؛ قوى متنافسة تتنازع في السيطرة والتحكم في الجسد. ودور العقل هو إنجاح عملية تأويل الواقع والتحكم فيه. أي أنَّ ذلك الذي بالغتَ في وصفه -أيها الأصبهاني-ليس إلا أداة للجسد بغرائزه ودوافعه وانفعالاته. ومن ثم فإنَّ قيمةَ مفهومٍ ما؛ تأتي من تأثيره على الحياة. وسؤالي لك: كيف ظننتَ أنك تخلصت من النظر إلى الواقع على أنه شيء في ذاته؟ وأصبحت تنظر له كصيرورة؟ الأصبهاني مستنكرا: أنا أضفتُ الصيرورةَ للنفس الكبرى، بصفتها العقل الكبير والحب جزء من تفاعلات الواقع الموضوعي للنفس الكبرى، يخرج من خلال الجسد المتصل. وأنا أزعم أني استطعتُ أن أعطيَ للنفس مكانها المتجسد دون أن ألغي مفهوم المتعالي. ولقد صنعتُ تلك القاعدة العشقية بشكلٍ ظاهري، أي تعمّدتُ أن أتعاملَ مع موضوع (الحب) كعلاقةٍ حربيّة، وهذا ما تهواه أنت يا نيتشه!، فالهوى جيشٌ انتصر على العقل، فأسَرَهُ، وأمير الجيش هو الشوق. نيتشه متقززًا: مشكلتك في الأسماء –الهوى والعقل والشوق-التي أعطيتها كينونة مفارقة، ومن ثمَّ تفرغتَ إلى أن تتخيلَ تلك المراحل العشقية على أنها فلسفة في الصيرورة !! الأصبهاني وهو يشير بعلامة الاسترخاء: الحُب مرحلةُ سُكْريّة، والعقل يديرها، كمرحلة يمرّ بها شارب الخمر قبل أن يفقد توازنه، لكنه نشوان طربان ويعي ما يفعل، لكن في لحظة خاطفة يفقد وعيه من كثرة ما شرب. تلك حالة جسدية، ومراحلها تنزل على مفهوم الحب كغريزة جسدية، بعد أن تُعطى النفس الكبرى مراتبها المتداخلة بالجسد. نيتشه وهو يسكب كأس الخمر باتجاه الأصبهاني: الخمر مرتبط بالجهاز الهضمي من جهة، ولدينا نظام فيزيولوجي ينظر للجسد كجهاز هضمي. ومرتبط بسيكولوجية الإنسان من جهة ثانية، ولدينا نظام سيكولوجي ينظر للجسد باعتباره صيرورة من الانفعالات والدوافع والغرائز. ومرتبط بأعصاب الإنسان من جهة أخرى، وهي التي تقدم نشاط الغرائز كتأويل للإثارات العصبية. لهذا فالذي يُؤوّل الحُبَّ هو الجسد، لا مراوغات صنع شيءٍ مُفارق؛ تُسَمّيه النفس الكبرى. الأصبهاني غاضبًا: أنا لا أطرح النفس كمفارق، بل أقول إن النفس متجسدة، والخلاف بيننا في العلاقة بين المادة والوعي، إذ النفسُ المتجسدة لها اتصالها بأجساد أخرى، ومن ثم كانت القيم معقودة بهذا الاتصال المُدغم في طبيعة الجسد، وطبيعة هذا الاتصال بكونه نفسًا كبرى، هي أصل البدء، تبدأ على شكلِ فكرة في الدماغ والكبد والقلب على حدٍ سواء، بصفتها مشتركًا جسديًا؛ -وهذا ما يُبرر وجودها الموضوعي-ومن خلال صراع الفراغ والاشتغال تسير هذه النفس الكبرى نحو غايتها...؛ وأدواتها نحن. وغايتها هي لحظة الالتقاء الذي يُسمى رؤية الله. نيتشه مستاء: هذا تخريف ميتافيزيقي جديد...! الدوافع المحركة للحب هي الرغبة في الامتلاك، وهي وجه آخر لغريزة الطمع. ووصف الحب مثلا بأنه خير؛ أمر مضحك، نابع من لحظة بطء في إرادة القوة، تظهر بمظهر إهمال أو نقص أو خوف على المملوك، ثم تتحول هذه الخيرية إلى انتكاس، ومن ثم تبرير هذا الانتكاس بأن ثمة مصدر مفارق. الأصبهاني مبتسمًا بيأس: المضحك هو تنقلاتك في الحجج، كأنك ضفدع سُكب عليه ماء مغليّ، ولا عجب، ففي شذراتك ما يشير إلى هذا التشتت. نيتشه يهزّ رأسه يأسا: إشارتك للشذرات مِفصل للتمييز بين إرادة الحقيقة التي عبرت عن تاريخٍ للخطأ، وإرادة الحياة التي كسرت الحدود الفاصلة، وها أنت تمثل ما أردتُ قوله دون أن تعي؛ بأني أكسر الحدود الفاصلة من خلال الشذرات. الأصبهاني ضاحكًا: كسرُ الحدود هنا لا يعني إلغاء حلم الحقيقة عندك، ففلسفتك فيها شقوق من داخلها. قلتُ لك قبل قليل أنَّ الحقيقة عندك تتحور إلى شكلٍ يأخذُ صورة إلغاء الماهية، لكن حقيقة أمرك أن الواقع الماهوي أصيل في فلسفتك، من خلال نظرك إلى الظواهر من خارجها؛ أعني أنَّ التطلعَ إلى الإنسانِ الأعلى ذاته أعادَ مفهومَ الحقيقة عندك من خلال النظر إلى الجسد/ إرادة الحياة كحقيقةٍ يُنظر لها من خارجها لتوجيهها؛ أما زلتَ تذكرُ كلامك على لسان زرادشت: " ألا أخبركم عن الإنسان الأعلى، الإنسان شيء لا بد من تجاوزه، ماذا فعلتم كي تتجاوزه"؟ ... نيتشه يهمّ بالخروج من المجلس، متمتمًا: يالكَ من أحمق، لقد قلتُ لك إن الفيلسوف لدي هو طبيب للحضارة والثقافة، وهذا الفيلسوف يردد: "لا يوجد وقائع، إنما هناك تأويلات". فلتفهم ما تشاء... أما أنا فلن أبقى في هذا المنتدى...! الأصبهاني: هذا الطبيب هو صلب إشكالية الظن لديك...! ويبدو أنك متيّم بدارون وبسمارك، والتتييم تصيرُ فيها حالُ المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئا إلا وجدته متكاملا فيها. إذ لا يزال العاشق متنقّلا إلى أن يُصادف من يجتمع فيه هواه، فحينئذٍ يرضاه، فلا ينعطفُ عنه إلى أحدٍ سواه. ولعلّ تلك حالتك يا نيتشه، فقد كنتَ تبحث عن معشوقيْكَ دارون وبسمارك، دون أن تعرفَ أنك تبحث عنهما تحديدا، لهذا كنتَ في البدءِ ترى أنَّ ثمة وقائع أساسية، وحقائق -لا تأويل-تتعلق بطبيعة العالم، وقد كانت المشكلة –وقتها-أنك كنتَ ترى أنَّ العقلَ واللغةَ والعلمَ لا يمكنها أن تُعبرَ عن هذه الوقائع، لهذا لجأتَ إلى التراجيديا من خلالِ الجوقة الديونيسية، لعلها توحي بتلك الحقيقة. وأنت في الآن نفسه تضمر مرادًا لتلك الحقيقة وهي أن لا تكون للعالم بنية منظمة. أي أنّك تريد من الإلهام الموسيقي على يد الجوقة أن يصدحَ بالتباين بين الحقيقة الطبيعية، والحضارة الزائفة. أي كتفريق كانط بين العالم في ذاته والعالم كما يظهر لنا. فتضمرُ بأنَّ العالم الذي نعيشه هو عالم خلقناه لنضعه فاصلًا بيننا وبين العالم الذي يسير غير مهتم بقيمنا ورغباتنا. وهنا تأتي التراجيديا لتخبرنا عن هذا الفاصل، وفي الآن نفسه تقول لنا إننا جزء من هذه الطبيعة، كَيْلا نرى أنفسنا متمايزين. وهنا تأتي لحظة الاحتفاء بتدفق الحياة الأعمى والمجرد من أي معنى. لكنّك بعد ذلك -يا نيتشه-رجعت إلى نفسك تؤنبها على هذا الفصل، فأنكرت التناقض بين الأشياء في ذاتها والظاهر منها. لهذا قلت فيما بعد بأنَّ إرادة الحقيقة والرغبة في معرفة الأشياء كما هي، دفعتنا إلى أن نطرح على أنفسنا أسئلة عديدة، لا نرى لها أجوبة ولا نهاية، ثم سألنا عن إرادة الحقيقة نفسها، من حيث ماهية الذي يطرح فينا وعلينا الأسئلة تلك؟ ... حتى تساءلنا عن قيمةِ هذه الإرادة. أي أنَّك -يا نيتشه-تقدمت خطوة حين قلت إذا كنا نريد الحقيقة فلماذا لا تكونُ إرادتنا للاحقيقة؟ لكنك ما زلتَ تدور في فلك البحث عن الحقيقة، أي أنّكَ في تساؤلاتك عن قيمة إرادة الحقيقة فإنك تعبر عن إرادة البحث عن الحقيقة في داخلك. إنك يا نيتشه -وأنت تقترب من معشوقيك المجهولين-خفتَ أن تقلب الثنائية بسؤالكَ عن لماذا ليست اللاحقيقة؟ أي إذا كانت إرادتنا للمعرفة قامت على أساس إرادةٍ أقوى وهي عدم المعرفة/ الجهل، فإنكَ هنا تتقلبُ بين ذلك الحيّز والآخر، لهذا فزعتَ قائلا إنَّ هذه الإرادة ليست نقيضة للأخرى، بل هي المعبرة عنها بلطف. لكن هذا التعبير اللطيف عن تلك الإرادة ظلّ يُعذبك، لأنك لا تريد أن تنطق بوجهة نظر معينة على أنها حقيقة، فلجأت لقول إنَّ إرادة الحقيقة المنطقية لا تعتمل في دواخل الإنسان إلا عندما يتحقَّقُ التزويرُ للحدث. إنك هنا لمحت صورة عاشقيك –دارون وبسمارك-أي أنك أردت أن تنطق بحقيقة دون النطق بالحقيقة. هنا جمعتَ النظرية الداروينية مع التطبيق البسماركي، في لحظة هيغلية، لكنك في محاولاتك الفلسفية تريد التخلص من هيغل، فقلتَ إن التزوير وتطبيق وجهة النظر ليستا منفصلتين، بل تديرهما غريزة واحدة قادرة على استعمالهما معًا، أي أن تزوّر الحدث أولا ثم تُطبّق وجهةَ نظرٍ معينة. لكنَّك لم تستطع هنا أن تتخلصَ من هيغل، لهذا لجأتَ لرفض الاعتقاد الأساس للميتافيزيقيين القائم على تناقض القيم: الخير/ الشر. المعرفة/ الجهل. الحقيقة/ الخطأ...إلخ، مع أنك تعرفُ أنَّ هيغل لا يرى أنَّ للشيء في ذاته وجود، أي أنَّكَ لم تطرد هيغل من رأسك لمجرد أنكَ رفضت تناقض القيم، لهذا ذهبت تطرح مفهوم الواحديّة الجذرية من حيث إن القيم، -بل الأشياء كلها-تتمثّل كنقاط على خطٍ متصلٍ واحد، وهذه الواحدية متعددة، وذلك قولك: "حينما كان الباحثُ في الحضارات القديمة لا يرى إلا شيئين، اكتشفنا نحن تتاليًا متعددا". لكن طالما أنَّ العالم لا خصائص له، ومن ثم لا مجال لأن نطرحَ التمثيل الدقيق عليها، فإن ذلك سيجعلك تقول بأنَّ العالم مختلف عن واقعه، وهذا مالا تريد قوله، فألغيت العالم الظاهري كما يبدو لنا، وجعلته كما يظهر لكل كائن فيما يخص حياته وترتيباته وأهدافه الخاصة، فيكون الواقع هو هذه الترتيبات المتنوعة. وليس ثمة ما هو مُستقلّ وسابق على التأويل. هنا يخرج العاشقان/دارون وبسمارك، كشبحين يطاردانك، فهل العلم يشوه العالم؟ وهل إرادة المعرفة هي تهذيب لإرادة الجهل؟ لهذا تهذي بأن لا شيء يمكننا من خلاله معرفة ما إذا كانت معتقداتنا تقابل ماهو العالم، لكن هل أنت تعتمد عليها للبقاء كمفهوم دارويني يتحول لإرادة الحياة/ القوة؟ هذا مالا تريد أن تقوله، ولم تقله، لكن هو طوبة تهدّ بنيان فلسفتك، وتبقيها في لعنة الميتافيزيقا. ومن هنا جاء بعدك الفيلسوف جاك دريدا، ليكمل دربك، لكنه أذكى منك؛ حيث لم يقع في مطبات القول والمنهج الخارجي. فظل يراوغ بدهاء؛ كي يثبت أن لا شيء خارج النص. نيتشه وهو واقف أمام الباب: حديثك كله معاد ومكرر، وفيه لو تنظر جيدا ردود على ما قلتَ. ومن المضحك أن تتحدث أنتَ عن التخلص من هيغل، ففلسفتك في الجسد المتصل، هيغلية بامتياز، أعني أنها خرجت من أفق هيغل... الأصبهاني يقاطع: أنا زمنيا قبل هيغل، لكن أنت بعده. نيتشه وهو يعود إلى مكانه: حين تريدُ أن تؤسس فلسفة تفصل الأزمان، وحين ناقشت التخلص من الميتافيزيقا دمجت، ألم أقل لك إنك تلفيقي. ثم إنَّ من جاء بعدي ليكمل فلسفتي يعطيك مؤشرًا على ضرورة العودة لما أقول، ذلك القول الذي أزاح ماركس من جهة، والأديان من جهة أخرى. وليتك تقرأ استراتيجية جاك دريدا لتعرف أن الزمن جاوزك. الأصبهاني: إنك تخاف من التعرية، لأنك تريد أن تقول أنا لا أقصد، والقصد متلبس بك، لكن سيبقى مفهوم الطبيب غصة في حلقك ومن هنا خرجتَ من مرحلة (التتييم) إلى مرحلة (الوله) وهي مرحلة يفقد فيها العاشق عقله تماما فيكون مجنونا حقيقيا. وهي مرحلة عدم التمييز فترى العاشقَ فيها يطلبُ مالا يرضاه، ويتمنى مالا يهواه، ثم لا يحتذي مع ذلك مثالا، ولا يستوطن حالا. فهل خرجتَ من مشفى المجانين أم ما زلت؟ نيتشه ساخرا: فكرة أنَّ الجنون بمفهومه الطبّي، درجة من درجات العشق، أمر مضحك، فالذي لم تلحظْهُ-أيها الأحمق-أنَّ الجنونَ بمفهومه الطبي شيء شامل، يمكننا أن نُدخلَ ما نشاء فيه، فأنت تقرأ أبياتا شعرية لدى العرب فتشكل رؤية حول أن العاشق مجنونٌ، ولك ذلك، فليس ثمة إلا رؤى، لكن أن تصنفها كمراحل معقودة بالجسد المتصل ومن ثم حركة النفس الكبرى، فهذا جزء من إرادة العدمية التي أعنيها. ولنفرض أني قلتُ لك: إنَّ ما يتسق مع درجات العشق هي تلك اللحظات الجنونية التي تصدر من عاقل في لحظة اقترانٍ مع الحبيب، وهي في الوقت نفسه لا تنتمي لحقل الجنون بمفهومه الطبي، بل للتتييم، فماذا ستقول؟ سترتبك وتبدأ في تلفيقاتك كالعادة. الأصبهاني وهو يفكر: يقول جميل بثينة:

ولو تركتْ عقلي معي ما طلبتها/ ولكن طلابيها لما فات من عقلي

نيتشه يقاطع ضاحكًا: جميل بثينة هنا، حَوَّلَ الحُبَّ إلى مسعى لرد العقل، فليس الوله إلا درجة من درجات التتييم، وليس مرحلة مستقلة، كما تقول، وهذا يؤكد اضطرابك وتلفيقاتك، فمن أسبابِ الغشاوة التي تحجب الفهم عنك هي فلسفتك الحياتية المبنية على مصدر القيم المفارق، مع ادعاء النظرة المختلفة من خلال الجسد المتصل. إنها نموذج انتكاسي يقوم على نبذ العشق حين يتجلى بمعانٍ متحرّرة متحركة تضرب المعاني الثابتة في الذهن. ثم إنك اخترتَ الوله لهذا المرحلة؛ لأن (وله) أصل في اللغة يدل على فقدان شيء ما، لكنك لم تلحظ في اللاوعي أن (الوله) سيحيل بصورة ما إلى (الأَلَه)، والهمزة واللام والهاء يحيل إلى التعبّد، فيكون الوله حين نقرنه بالعشق هو مرحلة فقدان الأجزاء المادية من أجل الروح، ومنها مرحلة العبادة لذلك الكائن المسمى الله، ومنها أُخِذَ معنى أنَّ العاشقَ يعبدُ عشيقته. ألم أقل لك مئات المرات أنك تلفيقي ومضطرب. هذه اللفظة (وله) لها بُعدان يمتحان من غريزةٍ واحدة، أي من أيّ ناحيةٍ تنظر للفظة؟ فإن نظرت لها من الأسفل فأنت عبد لأحدٍ ما، تسبغُ عليه الصفات المفارقة، وإن نظرتَ إليها من الأعلى فأنتَ تحتقر من كان بالأسفل؛ لدرجة أنك لا تراه، فهو مفقود. وهذه النظرة تسبغ عليها أنت مفهوما ميتافيزيقيا، كي تعطي العشق معنى غامضا، ومن ثمَّ إحالته إلى المفاهيم الإلهية المفارقة. وها أنتَ تتكسَّر كقارورةٍ سقطتْ من ارتفاعٍ شاهقٍ على رُخَام. واستخدامك المزدوج للوله، يحيلني على لفظة (حسن) في الألمانية، حين أعطتْ ازدواجًا يعلو ويهبط بين طبقتين، فحين تنظر لها وأنتَ في الأعلى فهي قوي وجبار. وحين تنظر لها وأنت في الأسفل فهي سلمي، ولطيف. المسافة بين الطبقتين يصنعُ مخيالا للقيم، تتوهمه أنت وكل الإرث الأفلاطوني وما جاء بعده، حتى أولئك الماديون منهم، الذين يخلقون لهم دروعًا يظنون أنها وَقَتْهُم من الميتافيزيقا. وما أكثر ما تتشدّق بأقوالٍ عربية لتضع لك تفسيراتٍ للعشق، وكلها ترتد عليك لنقض تأويلك، أتذكرُ قولَ أبي تمام:

وَلّهَتْهُ العُلى، فليس يَعُدُّ الــ/ بؤس بؤسًا والنعيم نعيمًا

ذلك القول الذي نظَّرتَ للحضور في منتداك على أنه يخدم فلسفتك في العشق، لما قلتَ واصفا (الواله): ثم لا يحتذي مع ذلك مثالا، ولا يستوطن حالا.
تأمل –أولا-وصفَ (العُلى) ثم –ثانيا-وصفَ (البؤس/النعيم)؛ ستجد أنَّ نموذجَ (العُلى) يأتي من الأعلى للأسفل، وصراع الثنائية (النعيم/البؤس) يأتي من الأسفل للأعلى. فحين تجعل من نموذج (العلى) وسيلة لقدوم الإنسان الأعلى، فذلك مدعاة لتأكيد النموذج الثقافي الذي يؤكد الحياة، ويكثّف قواها، ويفتح آفاقًا رحبة أمامها. ومن ثم لن ينظر للنموذج السفلي بثنائيته (البؤس/ النعيم). لكنك أنت –أيها الأصبهاني-تريدُ أن تجعل من المعنى ازدواجا بين النفس والجسد؛ فالعُلَى -عندك-وصف ينتمي للإنسان المرتبط بالسماء وقيمها، وأما (البؤس والنعيم) فمرتبطان بالأرض، ومن هنا كانت المقابلة-عندك-أن (العُلى) وهي المعنى السماوي، أفقدته الأحاسيس الأرضية من نعيم وبؤس، وهذا الوصف الذي وصفه أبو تمام متناسب مع لحظةٍ كلحظة رابعة العدوية، المتيّمة بالله، فرابعةُ في لحظة (التتييم) لا مثال عندها إلا تلك المُثُل التي رأت الله بها، ومن هُنا فلا البؤس الذي تراه في الأرض بؤسا ولا النعيم نعيما. وهذا نموذج انتكاسي ينطلق من الأسفل (البؤس/ النعيم) إلى (العُلى) فيعبر عن انحطاط إرادة القوة، ويكشفُ عن حالةِ الجسد المريض. وهنا تأتي مهمة الفيلسوف/طبيب الحضارة والثقافة؛ ليتعرفَ على شروط ظهور هذين النموذجين، ويكشف عن خصائص كل نموذج، فينتهي إلى التشخيص السليم لأمراض الحضارة والثقافة. إن رابعة العدوية في نموذج (الوله/الانتكاسي) هي تعبير عن إرادة العدم التي توجد في أساس القيم الغربية والشرقية؛ لأنَّ المحرك الأساس للثقافة هو هذا النموذج الذي ينظر لمعنى (العلى) من الأسفل، فيصنع منه معنى مفارقا، ومن ثم انتكاس عن إرادة القوة. وهذه العدمية تتجلى بشكل واضح في الأفلاطونية. وفي ثقافتك العربية -أيها الفارسي-نجد نموذج (البؤس/النعيم) الذي ضربنا له مثالا برابعة العدوية تلك التي تدعي عشق كائن اسمه الله، ومن الغريب -وهي التي احترفت سماع الموسيقى-لم تصل إلى مقولة: أن الله مات، بل المفارقة أنها أعطته حياة إضافية. هذا النموذج يؤَوّل الحياةَ، بناءً على كراهيةِ الحياة من جهة، وعلى الوعي الذي يئن تحتَ وطأة الشعور بالإثم من جهة ثانية، وعلى المثل الأعلى الزهدي/ الاعتقاد الديني، من جهة أخرى. وكلها متمثلة في رابعة كمثال فحسب، لكن ما دور هذا المثال/رابعة، بصفته واضحا، على كشف الأمثلة المختبئة بين سطور الحياة مثلك أيها الأصبهاني، أو مثل أحد شيوخ الإسلام البارزين وهو ابن تيمية، أو الفيلسوف المنطقي، الأشعري، المتصوّف! أبو حامد الغزالي؟ لو استطعتَ –أيها الأصبهاني-أن تتأمل في ثقافتك: الذاكرة التي تمرض الجسد، واللغة المتخشبة التي تلغي الصيرورة والمتعدد، لوصلت إلى نقطة مهمة في مرض الوعي، إذ الغرائز لا أعني بها الجانب البيولوجي المشترك بين الجميع، إنما الغرائز الخاصة بثقافةٍ وحضارةٍ محددة، فغرائز العربي ليست كغرائز الأوروبي. ومن هُنا أنا أدعوكَ لما سميُته (العود الأبدي)؛ كي تعالج ذاكرتك المتضخمة؛ بالآلام والمعاناة؛ حتى أضعفتَ ملكة النسيان. فاكسر منتداك (الزَهرة) وانطلق من قيود الذاكرة المتضخمة. الأصبهاني متضايقًا: الوصفُ الذي وصفتُ به (الواله) هو وصفٌ يتنزّل على العاشق المفجوع، بفَقْدِ حبيبه مثلا، بمعنى أن الدنيا تساوت عنده بين نعيمها وبؤسها بصورة مجازية. لا على وجه أن العاشق انتقل إلى مرحلة اسمها (الوله). بل إنها ذات المرحلة، مرحلة العشق التي وصفنا بأنَّ العاشقيْن واحدٌ، فلما يفقد أحدهما الآخر فكأنه أُصيب بشلل نصفي. نيتشه مبتسمًا بغضب: أنتَ تعلم أيها الباحث عن الحقيقة أنكَ لا تتعاطى مع الشعر، إلا كشواهد حقيقية في قول الشاعر، ولا تعد المجاز فيه إلا مُثُلا أفلاطونية، تغرف منها تأويلاتك في تفسير الوجود. ومن ثمَّ فإن ثقافة المجتمع تكون صورة عن تأويلاتك لتلك المثل، لا على أساس أنها ترجمة رمزية للانفعالات والدوافع والغرائز. وتذكرُ لما قلتَ –يا أصبهاني-في تعليقك على قول الحسين بن مطير الأسدي:
قضى الله يا أسماء أن لستُ زائلا/ أحبكِ حتى يُغمض العين مغمضُ
فحبك بلوى غير أن لا يسرني/ وإن كان بلوى أنني لك مبغض

قلتَ يا أصبهاني " أما قوله فحبك بلوى، فكلام قبيح المعنى". وكان تعليلك، "إن كان صادقا في هواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرا بقلبه". تأملَ أنك نطقت بلفظ (مضر) وهي تعبير عن إرادة عدمية، فاستهجانك للفظ (بلوى) كان مرتبطا بكونها في سياق الحب المضر. أرأيت أن لك تفسيراتك للحب من خلال النموذج الانتكاسي، وليس من خلال فلسفتك للجسد المتصل؟ ثم إنك تجعل من مجرد سماع ساردٍ للشواهد المجازية دليلا لصناعة فلسفة في الحب بشكلها الإلهي/ النفس الكبرى، ولو على سبيل التلفيق، لكننا نلحظ اضطرابك في إسقاط الشواهد على عناوينك في المنتدى، من جهةِ أنك تتبنى رؤية للقيم ثابتة وعقيمة، قاعدتها إنتاج أجيال متشابهة، تحمل ذاكرةً متضخمة انتكاسية. ومن جهة ثانية يفضحك منهجك الظاهري إذ العلاقة الظاهرية بين الأنثى والذكر بالطريقة التي نستطيع أن نشرح الحب معها ومن ثم نحدد له قواعده وأسسه ومنتوجاته من خلال الأسرة، تجعل من فلسفتك أخلاقية/ميتافيزيقية/ دينية، حتى لو أوهمتنا بفلسفة الجسد المتصل، تلك الفلسفة التي أراها تلفيقية من هيغل، إلا أنها ستظل ميتافيزيقية، وما دعاك لتأسيسها إلا الهروب من معضلة الوعي. الأصبهاني ببرود وتعب: أنتَ تظن –بغباء-أني متفاجئ بأنَّ الشواهدَ تلتفُّ على هذا القيم التي أفسرها داخل فلسفتي في الجسد المتصل، لكن أنا أنطلق على تمرحلات داخل حركة النفس الكبرى، تبدأ بأنَّ ظاهرَ الأمر أنَّ الشاعرَ يتبنّى ما أتبناه، ثم ثانيا: الإدراك بأن الشاعر يلتفّ في لاوعيه على حركة النفس الكبرى، لكنّ هذا الالتفاف يأخذ سياقا أعمق، يرتبطُ بالإنسان نفسه، ذلك الكائن الذي كلما امتدّ به الزمن ضاع في دهاليز أسرار الوعي/النفس الكبرى. الضياع هنا لا يعني أن النفس الكبرى لا تسير في مسارها ومن ثم صيرورتها، لأن الجسد أداة داخل النفس الكبرى، وأداة نحو غايتها من جهة، ثم إنَّ إدراكنا لها لا يكون إلا متجزئًا من جهة أخرى، ومن ثم فالالتفاف ليس حقيقيا، أي أن الوعي لدينا وعي بمقدار إدراك حركة الجسد الواحد، الذي يفتقر لباقي جسده الموجود في أجساد أخرى. لكن إدراك حقيقية صيرورة النفس الكبرى فلا، ومن هنا فإن الشعر وسيلة لمقاربة الجسد المتصل بصورته التي تعبر عن النفس الكبرى. نيتشه بيأس: من هنا تفسر – أيها الأصبهاني-معنى العشق من خلال الثنائيات الميتافيزيقية، أي على أساسِ أنَّ الشواهدَ الشعرية تحمل الشيءَ ونقيضه. في باطنها مجاز يكبُر حتى جعل المرأة نفسها مجازا لا وجود لها كعشيقة، إنما وجودها كمتعة جسدية تئن تحت وطأة الإثم، ومن هذه المتعة -التي صُنعت تحت ثقافة تنظر للحياة على سبيل الكره، وعلى سبيل الوعي الذي يئن تحت وطأة الشعور بالإثم، وعلى سبيل المثل الأعلى-تفسر معنى العشق في علاقته مع المثل، ومن ثمَّ كان انتكاسيًا؛ ولهذا لم تستطع أن تُجاهر بمثليتك وحبك الجسدي لمحمد بن جامع الصيدلاني. ولو أخذتَ عمر بن أبي ربيعة فقط لوجدتَ إسقاطاتٍ جسديّةٍ تجمعتْ كحزمة واحدة عُرِّفَ بها العشق والهيام والحيرة والشتات! وكأن هذه الإسقاطات الجسدية على إناث متعددات، وتعريف واحد، هو الموازي لما كان يقوله صاحبكم ابن رشيق القيرواني "إن الأسماء التي ترد في الشعر لا تخرج عن ليلى وهند ودعد وسلمى ولبنى وعفراء والرباب". أرأيتَ أنك ملفق بامتياز يا أصبهاني؟ ثم ألم تلحظ –أيها الأصبهاني-أنَّ المرادَ من المرأة دائما -في شعركم-هو شيء واحد، محنّط على هيئةٍ شعرية بمجسمِ جسدِ امرأة، أي كأن معاني الحب توزّعت على أشكال متعددة، فمعنىً على شكلِ نهد، ومعنىً على شكل فخذ، ومعنىً على شكل خدّ، ومعنىً على شكل ساق، ومعنىً على شكلِ عين، وهكذا...! أين الأنثى الإنسانة تلك التي أطلقت صرخة الألم، ومن ثم نخضعها للتحليل ضمن نماذج الفلسفة الطبية للثقافة؟ وهل يمكن لشخصٍ مثلك أن يلحظَ أن الطرفَ الآخر(المرأة) لا صوت لها في الخطاب الشعري، وكل خطاب نسب لها فهو صناعة ذكريّة، أو من امرأة تشبه الذكور كسكينة بنت الحسين مثلا. وما الشاعرات اللاتي يعددن على الأصابع إلا صدى للخطاب نفسه، كالخنساء مثلا؟ نعم، لن تلحظ –أيها الأصبهاني-فهذا يؤيد فلسفتك في الجسد المتصل، إذ المرأة هنا ستربك تفسيراتك فأردتَ أن يُعَبّر عنها الذكر. الأصبهاني ضاحكًا ساخرا: كل الشتائم ستخرج منك أنت -يا نيتشه- إذا ما أردنا إدخال المرأة في التأويل الفلسفي الخاص، فأنت لا تراها إلا شكلا من أشكال الضعف والاستهجان، ولا مكان لها إلا لحظة استمتاع بها، وحتى حقها في الاستمتاع لم يكن موجودا إلا بطريقين وكلاهما يصبُّ في صالح نماذجك التفسيرية للوجود، وهذان الطريقان هما طريق تعتبر الأنثى فيه أداة لمتعة الإنسان الأقوى، دون إمتاعها، وحين ينتهي من شهوته يرفسها كما تُرفس الدابة، وهذا يعتبر حقًا في الاستمتاع للإنسان الأقوى/مريد الحياة، إذ هي بغير هذا ستكون لحظةَ انتكاس من إرادة الحياة إلى إرادة العدم. والطريق الثاني أن تُمتَّع ولكن بشروط الإنسان الأقوى، -التي انبنت على تأويله المنتصر-فيعطيها حقًا من الاستمتاع فتشعر بأنَّ له فضلا عظيما عليها، كسجينٍ مسجون في غرفة مظلمة انفرادية، ثم حصل أن حولوه لمدة ساعة إلى غرفة واسعة مع أناس كثر، فشعر بالامتنان لمن سجنَه. فقاعدتك هي اللامساواة، وكل تفكيرك الفلسفي يذهب ويذهب حتى يعود إلى هذه النقطة، أي اللامساواة، ومن ثم سَتُعادي ما يعترض تقييماتك وتأويلاتك للحياة، إذ القيمة عندك هي الرابط بين الثقافة والجسد. وطالما هي شرط ضروري للوجود الإنساني من خلال الجسد، أصبحتَ شرسًا في تأويلاتك، التي طالت المرأة أيضا. أي أنَّ الفرقَ بيننا هنا في تفسير معنى القيمة، فكلانا يراها تمثلا، لكن أنت تجعله تمثلَ الأشياء عبر الجسد، الذي هو مجموعة من الانفعالات والدوافع والغرائز التي تُكَوّن في مجموعها النظام الدافعي للكائن الحي. أما أنا فالتمثل عندي هو تمثل الأشياء عبر الجسد المتصل، الذي هو مجموعة من الدوافع والغرائز والانفعالات المتقسّمة بين الجسوم بصفتها حين تجتمع نفسا كبرى تتجه نحو غايتها وهي الله.
___
نيتشه يخرج من المنتدى وهو يضرب كفًا بكف يأسا، والأصبهاني يبتسم وهو يرفع صوته باتجاه الباب: غدا لدينا ندوة، تقول إن نظر المُحب بعد استبطان المحبة في جسده يزيد كربه ولا يشفيه. التفت نيتشه وكأنه سمع شيئا لفت نظره.... لكنه مسّد شاربه ومضى.

_____

أنس الرشيد

2/ تموز/2021م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى